وتحوّل المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير العدل الأميركي ويليام بار أول من أمس، للإعلان عن نتائج تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي حول الاعتداء، بمشاركة مدير المكتب كرستوفر راي، إلى مناسبة لتعداد إنجازات السلطات الفدرالية إثر التحقيق، عبر التمكن بـ"أسلوبها الخاص" من الاطلاع على معلومات داخل هواتف الشمراني، ما مكّن خصوصاً الأجهزة الأميركية الاستخبارية من تنفيذ ضربة لمكافحة الإرهاب في اليمن. كذلك استغل المؤتمر للتصويب مجدداً على شركة "آبل" التي تدور بينها وبين السلطات الأميركية معركة حول "سرّية المعلومات" في الهواتف الخليوية، كما كان فرصة لتلميع بار صورة مدير "آف بي آي" الذي كان ترامب اشتكى من تعاطيه مع التحقيق في التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة.
في المقابل، وفيما أكد وزير العدل تعاون السعودية المستمر مع التحقيق في اعتداء فلوريدا، غاب أي انتقاد لدور المملكة في حرب اليمن، الذي عزّز وجود تنظيم "القاعدة" وقوته في هذا البلد، أو أي تلميح للتطرف الذي يستلهم من فكر "القاعدة" وعلاقته بالمملكة منذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، علماً أن حادثة فلوريدا هي الثانية التي تنفذ داخل الأراضي الأميركية، أقله بتنسيق مع "التنظيم"، كما أكدت التحقيقات، منذ ذلك التاريخ.
وأعلن وزير العدل الأميركي ويليام بار، أول من أمس الإثنين، أن السعودي محمد سعيد الشمراني، منفذ الهجوم في قاعدة "بنساكولا" البحرية الأميركية بولاية فلوريدا في السادس من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كانت تربطه "علاقات مهمة" بـ"القاعدة"، حتى "قبل أن يصل إلى الولايات المتحدة"، بحسب ما خلص إليه "أف بي آي". وكان الشمراني (ملازم ثانٍ) والبالغ من العمر 21 عاماً، قد فتح النار في ذلك التاريخ داخل قاعة للدراسة في القاعدة، ما أسفر عن مقتل ثلاثة بحارة أميركيين، وإصابة ثمانية، قبل أن ترديه سلطات إنفاذ القانون. وكان الشمراني في القاعدة ضمن برنامج تدريبي للبحرية الأميركية، لتعزيز العلاقات مع الحلفاء الأجانب، ومضى على وجوده في الولايات المتحدة ضمن هذا البرنامج 18 شهراً حين نفّذ هجومه.
وقال بار إن الحكومة السعودية لم يكن لديها أي تحذيرات مسبقة من الاعتداء، علماً أن الرياض كانت قد أبدت استعدادها إثر الاعتداء للتعاون في التحقيق، واتصل حينها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بترامب معزياً. وقررت الرياض في يناير/ كانون الثاني الماضي سحب ما تبقى من طلابها العسكريين، وعددهم 21، من برنامج التدريب العسكري الأميركي، وإعادتهم إلى المملكة، بعدما كشفت التحقيقات أن لديهم مشاعر متطرفة أو معادية للولايات المتحدة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، أو "كانوا على صلة بمواد إباحية تخص الأطفال". في ذلك الوقت، فرضت وزارة الدفاع الأميركية قيوداً على حيازة الطلاب العسكريين الأجانب للسلاح في القواعد الأميركية، وذلك بعدما علقت تدريب الطيارين السعوديين وقصر تدريب نحو 850 عسكرياً سعودياً زائراً حينها على الفصول الدراسية.
وقال بار أول من أمس إن الشمراني كان مرتبطاً بـ"القاعدة" لفترة طويلة، وإنه كان على تواصل مع أعضاء من التنظيم حتى ليل تنفيذ اعتدائه. ولفت إلى أن التحقيق لم يتوصل إلى إدانة مخططين آخرين، وذلك بعدما كان قد صرّح في وقت سابق أن المحققين لم يجدوا أدلة تفيد بأن أياً من زملاء الشمراني السعوديين في التدريب كان على علمٍ مسبق بتحضيره الاعتداء.
من جهته، أوضح مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي أنه تبين أن الشمراني كان متطرفاً منذ عام 2015 على الأقل، واصفاً هجومه بـ"الدقيق"، وبأنه كان "ثمرة وحشية أعوام من التخطيط ". ولفت راي إلى أن المعطيات تُظهر أن المتدرب كان على اتصال بعناصر في "القاعدة" طوال إقامته في الولايات المتحدة "حتى عشية الهجوم". وأضاف: "لم ينسق معهم فقط على صعيد التكتيك، بل ساعدهم في الإفادة من الجرائم إلى أقصى حد"، عبر تسجيل وصية له لأغراض دعائية، وهو ما استغله التنظيم لاحقاً لدى إعلانه تبني الهجوم.
وبداية فبراير/ شباط الماضي، تبنى تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب" الهجوم، من دون أن يقدم دليلاً على أن مطلق النار يرتبط به. وبعدها بأيام، أعلن ترامب أن بلاده قامت بـ"تصفية" زعيم التنظيم (في اليمن) قاسم الريمي، من دون أن ترشح معلومات عن التحقيقات الأميركية حينها، تثبت أن الشمراني استلهم ما فعله من التنظيم، أو كان على اتصال مباشر بأعضائه. وفي 23 فبراير، أكد تنظيم "القاعدة" مقتل الريمي (أبو هريرة الصنعاني). ولم يؤكد وزير العدل الأميركي أول من أمس كذلك أن الاعتداء هو من تخطيط "القاعدة"، بل تطرق إلى عملية أميركية حديثة جداً لمكافحة الإرهاب ضد "التنظيم"، وقال إن نتائجها مرضية جداً، وأدت إلى تراجع قدرات تنظيم "القاعدة" في اليمن.
من جهته، أوضح راي، في هذا الخصوص، أن المكتب حصل على معلومات ثمينة من هاتف المعتدي، حول عبد الله المالكي، وهو قيادي في "القاعدة"، وكان أحد مساعدي الشمراني، الذي يبدو أنه كان على تواصل معه خلال إقامته في الولايات المتحدة. ونقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن مسؤول أميركي كبير تأكيده أن المالكي قتل بغارة أميركية بطائرة من دون طيار نفذتها وكالة "سي آي إيه" في اليمن منذ أسبوع أو أكثر، مضيفاً أن المالكي كان عضواً في الجهاز القيادي في تنظيم "القاعدة في الجزيرة العربية"، ولديه مهارات مهمة في الاتصالات، والدفع بخطاب التنظيم ليس فقط في اليمن، بل في العالم.
وكان الشمراني قد وجّه قبل الهجوم انتقادات للحروب الأميركية، ولإسرائيل، ونشر مقولات لزعيم تنظيم "القاعدة" السابق أسامة بن لادن على مواقع التواصل الاجتماعي. كذلك ذكرت وزارة العدل الأميركية في وقت سابق أنه زار النصب التذكاري لضحايا اعتداءات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك، التي نفذها 19 شخصاً، من بينهم 15 سعودياً من تنظيم "القاعدة". واعتبر مركز "نيو أميركا" للأبحاث أن ما حصل هو أول هجوم دامٍ على الأراضي الأميركية يتم تنفيذه بتنسيق وثيق مع تنظيم "القاعدة" منذ اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
يذكر أنه حين وقوع الاعتداء، أعلن مكتب "آف بي آي" أن المحققين يعتقدون أن الشمراني تصرف بمفرده عندما فتح النار داخل القاعدة، فيما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أنها اطلعت على شكوى رسمية تقدم بها الشمراني في إبريل/ نيسان 2019، بحق أحد المدربين في القاعدة، بسبب ما قال عن توجيهه تعليقات مهينة إليه عن مظهره.
من جهتها، أصدرت السفارة السعودية في واشنطن أول من أمس بياناً أكدت فيه "تقديم كل الدعم لنظرائنا الأميركيين" في التحقيق، مرحبة بإعلان السلطات الأميركية "تمكنها من الحصول على معلومات استخبارية أساسية من هواتف المهاجم".
وكان المحققون الأميركيون قد نجحوا أخيراً في الحصول على المعلومات المخزنة في هواتف المهاجم، بوسائلهم الخاصة، وفق ما أوضح بار، آخذاً على شركة "آبل" عدم تعاونها. ودعا بار الكونغرس إلى اتخاذ إجراء يجبر "آبل" على مساعدة جهات إنفاذ القانون في فك التشفير خلال التحقيقات الجنائية. لكن الشركة نفت ذلك، مؤكدة أنها تعاونت إلى الحد الذي سمحت به التكنولوجيا لديها. وقالت إنه "لأننا نضطلع بمسؤوليتنا تجاه الأمن القومي بجدية، فإننا لا نؤمن بخلق باب خلفي يجعل كل جهاز معرضاً للاختراق".