تقامُ، في جلِّ العواصم والمُدن العربية، من جَرَش إلى قرطاج، ومن مرّاكش إلى بيت الدين، مهرجانات فنية، تُحْيى خلالها حفلات الغناء وعروض الأهازيج. وتشكل هذه المهرجانات والحفلات الغنائية الموعد الثقافي الأهم، إن لم يكن الأوحد، طيلة أيام الصيف ولياليه، يلتقي خلاله المواطن العربي (الاعتيادي) مع الفن لقاءً مباشراً.
ويمثل هذا الموعد لحظةً نادرة، يستمع أثناءها إلى الأغاني تُؤدَّى باللغة العربية، في سِجِلَيَّها: الفصيح والدارج، فيعيش هذا المواطن تجربة تلقٍ للفن، يفترض أن تكون جماليَّةً، يرى فيها ويسمع الفنانَ/ـةَ أمامَه رأي العَين، فيملأ أذنيه بكثافة النصِّ، وعلى حساسيته تنثال الاستعارات وصور البيان بثخانتها أو بشفافيتها، التي حلل أبعادها الناقد الفرنسي-البلغاري تزفيتان تودوروف (1939-2017).
وتختلف هذه التجربة الحضورية بشكلٍ جذريٍّ عن تجربة الاستماع/المشاهدة، غيابياً، أي عبر الوسائط الإلكترونية، من تسجيلاتٍ صوتية ومرئية، فالحضور الجسدي للفنَّان وهو يؤدي نصَّه، يَضع الوعي أمام نفاذ الكلمة وقد اتَّحد فيها الدال بالمدلول، وارتبطَا معاً ضمنَ بنية النَّغمة والآلة المحسوسة، وحركات الجسد على خشبة المَسارح المضاءة، وتجاوب مئات الأفراد المتدافعين سلباً أو إيجاباً مع هذا الكل الذي لا يَتجزأ. وتحملنا الظاهرة على التساؤل، ضمن منظور ألسني - نقدي، عن قيمة "سجلِّ الكلام" (Registre de Langue)، في هذا الأداء اللغوي الخاص بالمهرجانات.
إنَّ المتابعة المتأنية لنصوص أغاني مهرجانات صائفة 2017، تؤكد هيمَنَة العروض التي تُستَقى كلماتها من اللهجات العربية، ولاسيما المشرقية، القريبة من اللغة الوسطى، بما هي سجلٌّ قائم بين الفصاحة بمعناها الكلاسيكي والدارجة المَحكيَّة، وبعض ألفاظها وعباراتها موغِلةٌ في المحليّة، وهي هيمنة تؤكد تكريس الوسطى بمُستواها المحكي، وعاءً أساسياً للتعبير عن التجربة الفنية، واعتمادها أداةً محورية لتصوير الإحساس الجمالي، المفترض فيه أن يكسر رتابة المعيش اليومي.
كذلك نسجِّل إجراءَ عملية تقارب وتقريب بين اللهجات المغربية والمشرقية، "وتهذيب" كلتيهما حتى تصيرا بمثابة لغةٍ فنية مُشتركة، تصعب نسبتها إلى بلدٍ واحدٍ بعينه. وقد تأكدت هذه الظاهرة بفضل أداء الفنانين العرب لأغانيَ بغير لهجاتهم الأصلية، أو تخفيف هذه الأخيرة من مميزاتها المفرطة في المَحليَّة (تفادي الكلمات الصعبة، المُقَتَرضَة، طريقة محددة في نطق بعض الحروف، الاستعمالات المحليِّة، الدلالات الجهوية لبعض الألفاظ الفصحى...)، حتى يَسهل تعميم تلك الأغاني والتوجه بها نحو أوسع جمهورٍ عربيٍّ ممكنٍ. ويمكن أن تتخذ نصوص لطفي بوشناق أو كاظم الساهر، نموذجاً لدراسة هذه الظاهرة.
وفي مقابل ذلك، نلاحظ صموداً نسبياً للسجلِّ الفصيح، الذي يأبى الضَّياع في متاهات آلات الإخراج الصاخبة وجلبة الأضواء، ويتحدى دعوات التبسيط والاستهلاكية السريعة، حين يُعتَمَدُ مقياساً لقوة الكلمة وأصالة الفنِّ. فمن خلال تراكيب الفصحى ومُعجمها العتيق تُبتكر بعض الأغاني، أو تُستعاد، وخاصة تلك التي حفرت في الذاكرة الفنية العربية أثراً وانتقشت فيها رباطَ هويةٍ، لا يعتريه الانفصام.
ولا يزال هذا السجل العالي يؤدي - لدى جمهور المهرجانات على اختلاف انتماءاته السوسيولوجية وتكوينه اللغوي - وظيفةَ الإمتاع والتطريب، مثل بعض فصيح كوكب الشرق أم كلثوم، وغزليات نزار قباني وترنيمات كاظم الساهر.
ويجدر التذكير هنا بالتحليلات المعمقة التي أجراها المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل (1929) حول مبدأ "الطرب" في الشعرية العربية القديمة، وتأكيده غياب أي مقابلٍ مفهومي له في اللغات الأوروبية، بما تجربة "سرور" بنفاذ الكلمة وروعة التراكيب.
ويؤكد هذا التلازم بين السِّجليْن ازدواجية التجربة الجمالية العربية الراهنة وانقسامها - ونخصُّ ببحثنا هذا التجربة المعيشة أثناء المهرجانات الصيفية - إلى دائرتيْن متمايزتيْن، تستعيدان جدليَّة الرفيع والوضيع، أو الأصيل والرذيل. كذلك ظهرت نزعةٌ جديدة، غدت تقرن مفهومَ الطرب بمجال العربي الفصيح أو الوسيط، في حين تقترن الأغاني السريعة ذات الإيقاع الراقص، أو الأغاني الدخيلة، سواء تلك التي تُؤَدَّى بلغةٍ أجنبية أو ممتزجةً ببعض كلمها (مثل أغاني الرَّاب)، بالمجال الدارج، وحتى العاميِّ المنبوذ.
ولا شك أنَّ هذا الانقسام يقوم على إيديولوجية ألسنية تؤسس لتفضيل الفصيح واعتباره المجال الأوحد للجماليَّة الرسمية، وتربط اللهجات بالإنتاج الشعبي ومخيّلته العفوية التي تتصل محاورها بالمبتذل. وهكذا، تقصر "الضاد" على الفصحى، وتلغي ما سواها من مجالات الأداء اللغوي في العربية على اتساعها.
وقد يشتدُّ التنازع القائم بَين هذين النسقيْن ويستقطب الأداء اللغوي في هذه العروض حتى يصير من بين معايير الجمالية فيه، ويطبق آنذاك - وفي غالب الأوقات بطريقة لا واعية - ضربٌ من المقارنة والتفاضل بين أجناس الكلام مع ربط جازمٍ للجمالية بسجل الفصيح، رغم أنَّ للدارجة، هي الأخرى، إبداعها.
وتسوقنا هذه الملاحظات إلى التساؤل عن دور طبيعة السجل اللغوي المستخدم في المهرجانات، وقدرتها على تفسير الإقبال الجماهيري عليها أو إعراضه عنها. ويبدو أنَّ استخدام السجل الوسيط يخفي رغبة واضحة في الفرار من الواقع العربي المتأزم سياسياً، بمعنى أنَّ الإحساس بـ"الجمالية السريعة" يوفر "زمنيةَ فرارٍ" تُنسى خلالها مَشاكل البطالة وغلاء المعيشة وتوترات الأوضاع، وتكاد تضيع فيها نصوص الأغاني وكلماتها أمام سطوة الحضور الجماهيري وتأثير الحشود وهو ما يطلق عليه في سوسيولوجيا التواصل "Effet de Foule" أي تأثير الاحتشاد في تلقي الخطاب، بقطع النظر عن مضمونه ومرجعياته التي تربط الفكرَ باللغة، وعن أدوات التعبير ومكوناته التي تنتظم في نسيجه. فلا تقع وظيفة فنِّ المهرجانات ضمن بنية الكلام، وإنما خارجَه تماماً، أي ضمنَ الفِعل الجماعي للسهر، والوجود بينَ الجماهير الغفيرة النكرة، تلك التي تخضع لمبدأ Anonymat (المجهولية)، وقد انْشَدَّت بالهتاف والحضور الحركي للفنان/ـة، بعد أن تَلاشت كلماتُ أغانيه في خضمِّ أمواجٍ تتلاطم من ديكورٍ، وأضواء وملابس، وتقنيات إخراج، وما يرافقها جميعًا من "شعائر" الحضور.
وهكذا، قد يشكِّل تركز التجربة الفنية العربية ضمن هيكل المهرجان السنوي، وربطها بموسم دوري ثابت ومحدود في الفضاء والزمان، صدىً لشعائر الفن القبلية، كما كانت بعض الرقصات والأهازيج متزامنة مع المواسم الزراعية في المجتمعات البدائية. كما أنها تربِط الجمالية بتأثير الحشود وما يقترن بها من حركات للجسد وهتافٍ، وهو ما يؤدي إلى ضُمور دور الكلمة في خلق إنشائية الغناء، وتضييقٍ لدائرة المتعة الجمالية عند الجمهور العربي، وربما تضييع مفهوم الطرب الذي شدَّ مستشرقَ فرنسا أندريه ميكيل.