وكانت الجماعات المسلّحة أثبتت قوتها وجسارتها في مواجهاتها مع الجيش وقوى الأمن الموريتاني خلال حربهما المفتوحة على مدى نحو ست سنوات، علماً أن موريتانيا تضمّ خليطاً من تيارات إسلامية قوية، فيما يُعدّ الشعب الموريتاني، المسلم بالكامل، من أكثر الشعوب العربية محافظة وتديناً.
وينص دستور البلاد على أن الشريعة الإسلاميّة هي المصدر الوحيد للتشريع، وحرصت مختلف الأنظمة، التي تعاقبت على البلاد، على تأكيد إسلاميتها، في وقت لا يزال فيه اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية، الاسم الرسميّ للبلاد. وعلى الرغم من أنّ الاسلام المعتدل هو الغالب في التيارات الإسلاميّة الموريتانيّة، لكنّ مجموعات إسلامية أخرى، اختارت حمل السلاح وتبني العنف ضد الدولة. والتحق العديد من الشباب الموريتاني بالمجموعات المسلّحة الناشطة في شمال مالي، وسواه من مناطق تواجدها.
حسابات الداخل والخارج
لعبت العوامل الخارجية دوراً مؤثراً في تحرّكات الدولة الموريتانيّة، خلال تصديها للمجموعات المسلّحة، تجاوباً مع التحوّل العالمي للحرب على الإرهاب. دفعت الولايات المتحدة وفرنسا، موريتانيا إلى إعلان الحرب على التنظيمات المتطرّفة، وأسهمت في تدريب وحدات من الجيش الموريتاني على مكافحة الإرهاب، ولعب الفرنسيون والأميركيون الدور الأبرز في المعارك الناجحة، ضدّ المجموعات المسلحة، ومعركة غاو مثال على ذلك.
كذلك، لم تغب الحسابات الداخليّة عن تعامل الدولة الموريتانية، مع التنظيمات المتطرّفة، فالأوضاع السياسيّة والأمنيّة الداخليّة السائدة عام 2005، أعطت القاعدة مبررات، لم تكن بحاجة إليها، للهجوم على ثكنة لمغيطي العسكرية (قُتل خلاله 15 جندياً وجرح 17 آخرين). لم تستطع موريتانيا الردّ ولا الانتقام لجنودها، نتيجة حسابات الداخل وانهماكها بحالة اللااستقرار. بعدها، دخل تنظيم القاعدة، في الفترة الممتدة بين عامي 2007 و2008، في صلب النقاشات والمناكفات السياسيّة المحليّة، واتخذ متكئاً ساعده في الانقلاب على الرئيس المدني سيد محمد ولد الشيخ عبد الله.
تاريخ العلاقة بين الخصمين
يمكن تقسيم تاريخ العلاقة بين الدولة والتنظيمات الإسلامية المسلّحة إلى ثلاث مراحل أساسية، الأولى هي مرحلة الهدنة من مارس/آذار 2005 حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2007. لم تشهد هذه الفترة أيّ عملية من الطرفين، وكانت بمثابة هدنة غير موقعة، على الرغم من أن رئيس الفترة الانتقالية حينها، أعلي ولد محمد فال، لم يغير من سياسة الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع تجاهها. واستثمرت "القاعدة" في تلك الفترة حالة الهدوء، خصوصا مع بداية فترة الحكم المدني، لإدخال بعض عناصرها إلى موريتانيا، ليشكلوا لاحقاً، تنظيم "أنصار الله المرابطون".
ويمكن اعتبار المرحلة الممتدّة من نهاية عام 2007 حتّى منتصف عام 2010، مرحلة التصعيد من قبل القاعدة، إذ نفّذ خلالها تنظيم "أنصار الله المرابطون"، الذي أسّسه الخديم ولد السمان، بأمر من القيادي في تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي والمعروف بلقب بلعور، أولى عملياته الإرهابيّة، لتتمدّد القاعدة بعدها داخل الأراضي الموريتانية. وشهدت هذه المرحلة 12 عملية من تدبير "القاعدة"، نفّذ ثماني منها مسلحون موريتانيون.
وخلال الفترة الممتدة من منتصف عام 2010 حتّى عام 2011، شهدت البلاد مرحلة التصعيد من جانب السلطات الموريتانية، التي خاضت "عمليات استباقية"، وفق ما أسمتها الحكومة الموريتانية، وبدأت بعملية نفّذها الجيش الموريتاني في 22 يوليو/تموز 2010، واستهدفت مجموعة من مقاتلي التنظيم داخل الحدود المالية (بحدود 150 كلم)، بمساعدة من الجيش الفرنسي. ولم يتأخّر ردّ "القاعدة" كثيرا، وجاء هذه المرّة عن طريق تفجير سيارة مفخّخة في المنطقة العسكرية الخامسة، بمدينة النعمة، في 25 أغسطس/آب 2010. ونفّذ العملية الانتحارية، إدريس ولد محمد الأمين، الملقّب بأبو إسحاق الشنقيطي، وجرح فيها أربعة من عناصر الجيش، وفق المصادر الموريتانية.
نجاح إلى حين
وجّهت السلطات الموريتانيّة ضربات قوية إلى تنظيم "أنصار الله المرابطون"، الفرع الموريتاني لتنظيم "القاعدة" في المغرب الإسلامي، نهاية عام 2011، مع اعتقالها أبرز قادته، وفي مقدّمهم الخديم ولد السمان، زعيم التنظيم ومعروف ولد الهيبة، إضافة إلى مفتي التنظيم محمد سالم المجلسي.
ومن المعروف عن موريتانيا، انخراطها في الاستراتيجية الفرنسية لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، فكانت أراضيها منطلقا للتحرّكات العسكريّة الفرنسيّة ضد شمال مالي. كما توجد قاعدة عسكريّة فرنسيّة، غير معلنة، على الأراضي الموريتانية، يُعتقد أنها كانت مقر تنسيق عملية "سرفال"، التي أطلقها الجيش الفرنسي ضد المسلّحين في شمال مالي.
ولوحظ خلال هذه المرحلة، اتباع الحكومة الموريتانية، سياسة مرنة في التعامل مع المجموعات السلفيّة، فقد نظمت حواراً مع السجناء السلفيين وأطلقت سراح أغلب المعتقلين ممن لم يشاركوا فعلياً في عمليات مسلحة. كما رفضت موريتانيا المشاركة في الحملة العسكريّة الفرنسيّة، التي استهدفت المجموعات المسلّحة في شمال مالي عام 2012.
ولعلّ هذه الخطوات ساهمت في تجنّب فتح تنظيم "القاعدة"، معركة جديدة مع موريتانيا. ويبدو أنّ هذه الاستراتيجية المركبة، والتي تزاوج بين العمل العسكري الاستباقي، وبين الحوار والانفتاح على المجموعات الشبابيّة، المتعاطفة فكرياً مع "القاعدة"، قلّلت من حجم مخاطر هذه المجموعات على موريتانيا.
كما أن مناخ الحريات النسبي، الذي عاشته موريتانيا منذ انقلاب عام 2005، وحالة الانفتاح السياسي في البلاد، كلّها عوامل ساهمت في تراجع الظروف المساعدة لتطور الفكر المتطرف، إضافة إلى تطوّر الأجهزة الأمنيّة الموريتانيّة، من حيث الكفاءة والتسليح والتدريب، وهو عبء تحمّله حلفاء موريتانيا في مكافحة الإرهاب، خصوصا فرنسا والولايات المتحدة الأميركية.