موسكو ترحب بفرسان الثورة المضادة
يعلم السوريون، قبل غيرهم، الموقف الروسي المعادي لثورتهم، والمؤيد لنظام القتل والاستبداد، وباتوا على بينة من أن مئات الآلاف من الضحايا قضوا بالسلاح الروسي، وأن حوالى نصف مناطق بلادهم تدمر ببراميل وصواريخ وقذائف، خرجت من الترسانة العسكرية الروسية، وأن استمرارية النظام الحاكم وحمايته من الإدانة والعقوبات الدولية تعود إلى الفيتو الروسي في مجلس الأمن، وإذا كان قسم واسع من شعبنا ما زال يختزن في ذاكرته بعض أفضال (الاتحاد السوفييتي) السابق، ونظامه الاشتراكي المنهار، حيال قضايا تحرر الشعوب، فإنه، في الوقت نفسه، يعلم، علم اليقين، أن من يحكم الآن في الكرملين، ومنذ بداية التسعينيات، ليس ورثة نهج لينين، بل تحالف المافيات من بيروقراطية الأجهزة الأمنية والحزبية، وممثلي الصناعات الحربية بزعامة الثنائي، بوتين وميدفيديف، حيث الأول يصنف في قائمة الأغنى في العالم، وكان موظفا يتقاضى ما يعادل مائة دولار في الشهر.
منذ اندلاع الانتفاضة الثورية السورية، وقفت الحكومة الروسية إلى جانب نظام الأسد، وقبل ذلك، كانت من مناوئي جميع ثورات الربيع في المغرب والمشرق، وإذا كان التعاطي الأميركي – الغربي مع الأحداث الجارية في المنطقة، منذ نهاية العقد الأول من القرن الجديد، قد مر بفترات (ساخنة وباردة) ومد وجزر، إلا أن الموقف العام من ظاهرة ثورات الشباب لم يكن كله سلباً، بعكس الموقف الروسي، الذي وقف معادياً ومشاركاً في الحرب والإبادة، على طول الخط، بل أراد الروس استثمار الفوضى وحالات الحرب الداخلية لمصالحهم الخاصة، في صراعهم مع المراكز الغربية على المواقع والنفوذ والمنافسة العسكرية الاقتصادية، بما في ذلك تجاهل قضايا شعوب المنطقة، وثوراتهم من أجل الحرية والكرامة والتغيير الديموقراطي .
ولم يعد خافياً دور الخبراء الروس العسكريين والأمنيين، وحتى الاقتصاديين، إلى جانب نظرائهم الإيرانيين الموجودين في دمشق والمناطق السورية الأخرى، في التخطيط والتسليح والتموين وتوزيع القوى النظامية والميليشياوية، لمواجهة الثوار في المدن والمراكز والجبهات، في طول البلاد وعرضها، إلى درجة أن مصير سورية بات في عهدة الأجنبي، ومصدر القرار لم يعد نظام الأسد، بل أصبح مجرد تابع ذليل للقرار الإيراني الممول للصفقات التسليحية الروسية، والولي الفقيه مرجعية مذهبية نافذة.
شارك الروس بفعالية في رسم الاستراتيجية السياسية في مواجهة النظام الثورة السورية، خصوصاً في مجال تشويه صورة الثورة، وإغراقها بجماعات الإسلام السياسي، واستغلال ما يطلق عليها (الأقليات الدينية – المذهبية – العرقية)، ودعم عملية إبراز ما سميت المعارضة الداخلية أو (الوطنية)، ومن بينها عناصر وفئات تتعامل كوكلاء مع المؤسسات الروسية التسليحية، وكذلك هيئة التنسيق، ومن ضمنها جماعات (ب ك ك)، ومن على شاكلتها من المجموعات المزايدة، وذلك لإضعاف المعارضات الأخرى، التي تزعم أنها تمثل الثورة من مجلس وطني وائتلاف، أو في أضعف الإيمان إظهار المعارضة بمشهد متفكك متناقض، وكأنها من دون لون أو طعم، من دون قضية .
انطلق التحرك الروسي، أخيراً، من فرضيات عديدة، منها ضعف وتردد الإدارة الأميركية تجاه الملف السوري، وملاقاة مبادرة دي ميستورا في منتصف الطريق والتناقضات في صفوف (التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب)، وخصوصاً بين تركيا وأميركا وفشل كل من المجلس والائتلاف في إدارة الصراع السياسي لمصلحة انتصار الثورة، وعجز الثوار عن إعادة تنظيم صفوفهم، وتمدد الجماعات الإرهابية (داعش والنصرة)، خصوصا على حساب قوى الثورة الحقيقية، وأخيراً استثمار الورقة السورية للتعويض عن المأزق الأوكراني. وفي ظل هذا المشهد المؤلم، ستتمكن الدبلوماسية الروسية من استحضار معارضات مدجنة، موالية للنظام، أو باحثة عن مواقع ومصالح حزبية آنية، وشخوص لا يتمتعون بأية صدقية أمام الثوار السوريين، يجمعهم قبول التعايش والمصالحة مع النظام المستبد القائم، وخيانة مبادئ الثورة في إسقاط النظام والتغيير الديموقراطي التي استشهد ونزح وتشرد من أجلها الملايين.
كلما تأخر الوطنيون السوريون في إعادة بناء وتنظيم ثورتهم، وكلما تأخر الجيش الحر في إعادة هيكلة تشكيلاته، وصولاً إلى إقامة المجلس السياسي – العسكري المشترك للإنقاذ، وكلما بقي المشروع الوطني الديموقراطي من دون تفعيل، ظهرت المبادرات الداخلية والخارجية لتتقاطع مع أجندة الثورة المضادة، التي تصب في النهاية لصالح نظام الاستبداد.