تستعدّ القوات الفرنسية للخروج من إفريقيا الوسطى، بعد عامين ونيّف حافلين بالتوترات فيها، وذلك عقب مشاورات مكثّفة جرت، في الآونة الأخيرة، بين وزارة الدفاع الفرنسية ورئاسة أركان الجيش والرئاسة الفرنسية، أعلن بعدها وزير الدفاع، جان إيف لودريان، أن فرنسا ستُخفّض من عديد قواتها المتمركزة في جمهورية إفريقيا الوسطى في إطار عملية "سنغاريس" من 900 إلى 300 جندي، وستستمر في تخفيض عديد هذه القوات إلى أن تنسحب نهائياً في العام الحالي، وتضع حدّاً للتدخّل العسكري الفرنسي في هذا البلد.
لم يُشكّل هذا الإعلان مفاجأة للمتتبعين للشأن الإفريقي. ذلك لأن فرنسا كانت وضعت سقفاً لتدخّلها، انتخاب رئيس جديد للبلاد وتأمين الانتخابات الرئاسية والتشريعية، التي تمخّضت دورتها الأولى، الشهر الماضي، عن تأهّل مرشحين للدورة الثانية المقررة في 14 فبراير/شباط الحالي، على أمل أن يؤمّن نجاح هذه الانتخابات، تدشين مرحلة جديدة في هذه الجمهورية، التي تعيش أوضاعاً اقتصادية كارثية وتوتّراً عرقياً مستفحلاً بين الغالبية المسيحية والأقلية المسلمة.
وكانت عملية "سنغاريس" قد بدأت في 5 ديسمبر/كانون الأول 2013، بعد الانقلاب الذي قامت به مليشيات "سيليكا" ذات الغالبية المسلمة ضد نظام الرئيس، فرانسوا بوزيزي، في 18 أبريل/نيسان 2013. واندلعت حينها أعمال عنف أسفرت عن مقتل المئات على وقع تقاتل عرقي بين الأقلية المسلمة والغالبية المسيحية، ما أثار مخاوف كبيرة من وقوع مجازر عرقية جديدة شبيهة بتلك التي وقعت في رواندا.
على أثرها بدأ التدخل العسكري الفرنسي بطريقة عاجلة وبمباركة من الأمم المتحدة وغالبية الدول الغربية والإفريقية. وتولّى مهمة "سانغاريس" الجنرال الفرنسي فرانسيسكو سوريانو، الذي لم يكن على دراية كبيرة بإفريقيا الوسطى وطبيعتها السياسية والعرقية. واتسمت بداية الانتشار الفرنسي في العاصمة بانغي ومحيطها، بتعثّر شديد، نظراً للصعوبات الميدانية وتردّي البنية التحتية، وأيضاً التعليمات التي تلقّاها الجنود، التي تقضي بعدم التدخّل سوى في الحالات التي تكون فيها حياتهم معرضة للخطر. والنتيجة أن القوات الفرنسية كانت تكتفي بدور الشاهد على المعارك بين مليشيات "سيليكا" وقوات "انتي بالاكا" المناصرة للرئيس المخلوع بوزيزي.
اقرأ أيضاً: الأمم المتحدة تعين رئيساً جديداً لبعثتها في إفريقيا الوسطى
ومنذ عام 2013 وجدت القوات الفرنسية المتمركزة في مطار بانغي نفسها في وضع صعب، بسبب المواجهات اليومية بين المسلمين والمسيحيين في مخيم "مبوكو" في محيط المطار، الذي استقبل مئات الآلاف من النازحين، وتحوّل إلى مدينة من الخيام وبيوت الصفيح، التي تشهد أوضاعاً صحيّة متفاقمة وتسود فيها الفوضى والعنف.
ومنذ بداية التدخّل الفرنسي، اتسمت العلاقات بين الجنود الفرنسيين والسكان بتوتّر شديد، نظراً للعديد من التجاوزات وجهل الجنود بالخصوصيات المحلية. وتفاقمت الأمور بعد وصول السفير الفرنسي شارل مولينا، الذي عيّنه وزير الخارجية لوران فابيوس، على الرغم من عدم كفاية خبرته الدبلوماسية وجهله المطلق بالقارة الإفريقية. وبسرعة ألب السفير الجديد السكان ضده وحقدهم عليه بسبب "عجرفته" وسلوكه الاستعماري مع المحليين، حسب مصادر إعلامية عدة في العاصمة بانغي.
كما أن الأقلية المسلمة باتت تتهم القوات الفرنسية بـ"الانحياز لمليشيا أنتي بالاكا"، خصوصاً أن الفرنسيين جرّدوا مليشيا "سيليكا" من أسلحتهم ووضعتهم تحت المراقبة داخل ثكنات معزولة، ما زاد من تقوية شوكة أنتي بالاكا خصوصاً في المحافظات النائية.
وبلغت أعمال العنف ذروتها في عام 2014، بعد وقوع مذابح جماعية وعمليات تهجير قسري لآلاف السكان في محيط بانغي والمحافظات الريفية. وتحت ضغط الأسرة الدولية والتدخل العسكري الفرنسي، اضطر زعيم الانقلاب ميشال دجوتوديا إلى الاستقالة من منصب الرئاسة وتسليم مقاليد الحكم إلى كاترين سامبا بانزا، التي ترأست مجلساً انتقالياً لإدارة شؤون البلاد في انتظار تنظيم الانتخابات الرئاسية (التي تمّ تأجيل دورتها الثانية حتى اشعار آخر) والتشريعية (التي جرت في 30 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأُلغيت نتائجها).
مع ذلك، تمكنت القوات الفرنسية، بدعمٍ من قوات الاتحاد الإفريقي وبعثة الأمم المتحدة، من تأمين هذه المرحلة الانتقالية والمحافظة على مؤسسات الدولة الهشة واحتواء المواجهات العرقية وأعمال العنف تحديداً في بانغي.
وعلى الرغم من الحضور العسكري الفرنسي وجهود قوات بعثة الأمم المتحدة "مينوسكا" في بانغي، لم يتمكن المجلس الانتقالي من وضع حد للتوتر الطائفي وللأزمة الاجتماعية والفقر المدقع الذي يعاني منه السكان والمهجّرون، نتيجة اقتصاد مخنوق يعيش على الإعانات الدولية والفرنسية تحديداً.
وتبقى النقطة الأكثر قتامة في تجربة التدخل الفرنسي في إفريقيا الوسطى هي الفضائح الجنسية، التي لطخت سمعة الجيش بعد نشر عدة تقارير العام الماضي، تُثبت تورّط جنود فرنسيين عاملين في قوة "سنغاريس" في جرائم اغتصاب بحق قاصرين، ومقايضة خدمات جنسية بالطعام، وهو الأمر الذي وضع قيادة الجيش الفرنسي في موقف حرج. وأثار غضب وزير الدفاع الفرنسي الذي أكد وقتها لوسائل الإعلام، أنه لن يتساهل مع هذا النوع من الفضائح الذي ترتكبه عناصر قليلة العدد، لكنها "تلطخ سمعة الآلاف من الجنود في مناطق النزاع في إفريقيا".
اقرأ أيضاً: لودريان.. ورقة هولاند الرابحة