"كوسموس" (الكون)، أو "في سبيل حكمة بمنأى عن الأخلاق"، هو عنوان هذا العمل الصادر أخيراً عن "دار فلاماريون"، وهو الكتاب الأول لأونفري من ثلاثية تحمل عنوان "موسوعة موجزة عن العالم".
نذكر بدايةً أن أونفري من المثقفين المؤثرين والفاعلين في صناعة الرأي العام في فرنسا، وقد لُقّب أيضاً بالفيلسوف المفضّل لدى الفرنسيين، ويمتاز عن معاصريه بغزارة مؤلّفاته وحضوره الإعلامي والسياسي المكثّف.
وبعيداً عن آرائه حول الإسلام والأديان عموماً، والتي استولت على صورته طويلاً، ما أسهم في حجب جوانب مهمة من فكره وأدخله طوعاً أو كرهاً في خانة التهم والأحكام الضيّقة، يمكننا أن نرى في كتاب "الكون" مرحلة جديدة من مراحل حياة هذا المفكر الروحية، مرحلة افْتُتِحت بما يمكن أن ندعوه بانقلاب أو "تحوّل" أسّس له ديوانه الشعري الأول "رثائية ملحد"، وديوان الهايكو "قبيل الصمت".
وفي هذه المرحلة، يتجلى أونفري خارجاً لتوّه من بطون الكتب، مبتعداً عن مدرجات جامعته الشعبية، رازحاً تحت ثقلٍ رهيب. فـ"تحوّل" هو أشبه بالتحول الثاني من جملة التحولات الثلاثة التي بشّر بها أستاذه نيتشه: الجمل فالأسد فالطفل. إذ يثابر أونفري فيه على ذلك النسق الحميمي المقترب أكثر فأكثر من الطبيعة والحياة والعالم. من هنا عنوان كتابه الجديد، "الكون"، كمفهوم أكثر شمولية.
يبتدئ أونفري مؤلفه الضخم هذا (أزيَدْ من 500 صفحة)، بأحاديث من سيرته الذاتية، وهو ما دأب عليه في جلّ كتبه السابقة، مؤكداً العلاقة الوثيقة بين الفكر وصاحبه، ومتحدياً ذلك الفصْلَ المميت والعقيم بين النص ومبتدعه، في إصرار على النظرة النيتشوية التي ربطت لأول مرة في تاريخ الفلسفة بين الفلسفة والجسد كمعين أوحد لها.
يتحدث أونفري هذه المرة عن والده، عن موته بين ذراعيه في ليلة غائمة، مستعيداً دروس الحياة والحكمة والصمت التي أنشأه عليها والده بين حقول النورماندي، حيث كان يعمل فلاحاً بسيطاً.
"كان أشبه بفرجيل وسط الحقول، نيتشوياً، دون أن يقرأ له حرفاً". هكذا يصف أونفري والده مفتتحاً الصفحات الخمس والعشرين الأولى. ولم يكن حدث موت الأب هنا حدثاً أوديبياً تنميطياً، بل إنه مناسبة حاسمة في حياة هذا الفيلسوف جعلته يعتنق سيرة أبيه الأولى ويرى فيها النموذج المُحتذى.
يستمر الفيلسوف في تتبّع الموت والفقد كموضوعين فلسفيين خالدين، بذكر صديقته التي عاش معها زهاء أربعين عاماً والتي رحلت بعد معاناة مريرة مع السرطان. تسبب الفقد في صدع كبير في ثقة الرجل، بما كان يقرأ ويفكر، وحتى بما كان يدعو إليه. أحس بتلك الشروخ العميقة التي تفصل الفلسفة التقليدية عن العالم والمعيش الإنساني.
هكذا يحاول أونفري العودة بالفلسفة إلى منبتها الأول، إلى تربتها الخصيبة، الأرض، الطبيعة، النجوم. ونجد كتابه هذا أشبه بردّة حقيقية عن فلسفة استعلائية ما عادت تفيد أحداً، بما في ذلك نفسها.
ويصلنا الفيلسوف بالخيط الذي انقطع في بدايات القرن العشرين مع جمهرة الفيزيائيين الفلاسفة، فنجده يربط الفلسفة من جديد بالفلك وعلم الحشرات والبيولوجيا. إنه أشبه بكتاب "فلسفة طبيعية" على النموذج اليوناني، نموذج الحكيم الذي كان يقف في باحة المدينة متحدثاً بكلام يفهمه الجميع. نموذج طالما نادى به أونفري لأنه الأقرب، الأصدق، والأجمل. "لقد قال الإغريق (مع استثنائه للأفلاطونية دوماً) "نعم" عظيمة للحياة، وهو ما يجب أن نقوله نحن أيضاً".
ولمضمون هذا الكتاب ما يبرّر وصفه من طرف صاحبه بأنه "كتابه الأول"، رغم أنه يحتل الرقم 74 من جملة مؤلفاته التي صدرت في مدة زمنية قصيرة نسبياً. فعنفوان الكتابات الأولى وشعرية البدايات حاضرة بين طياته، إضافة إلى الاستعارات المكثفة والدائمة لسيرة المؤلف جنباً إلى جنب مع آراء ذوقية خالصة، في جرأة يبرّرها حجم الفيلسوف وثقل اسمه في الساحة الثقافية الفرنسية.
وفي تقديرنا، فإن أونفري اضطلع أخيراً بمهمة الإجابة عن سؤال فعالية القراءة كنشاط وحيد ومعزول، إذ إن هذا القارئ النهم استعاض طويلاً بالكتب والمتون عن التفكير والتأمل، وهو ما يتجلى في حماسه المحموم في تقريع الأديان، والمسيحية خصوصاً، ناهيك عن آرائه المتسرّعة حول الإسلام، والتي أبان فيها عن نظرة استشراقية ـ فرنسية أساساً ـ تقليدية ومركزية، متناسياً الشيء الذي طالما دعا إليه، ونقصد السياقية Contextualisation، لدى أي عمل يتوخّى الفعل التأويلي والهرمنيوطيقي. ومن هنا، فإن هذا الكتاب عبارة عن اعتذار عن جفاء مديد تجاه الكون ومحاولة جديّة لوصاله من جديد.