10 فبراير 2024
ميكانيكي كلام (1)
خطب رجلٌ خطبة نكاحٍ فأطال؛ فقام أعرابي من الجلسة مُغضبًا وقال "إذا فرغَ هذا؛ فبارك الله لكم؛ فعليَّ شُغْلٌ". قد ترى نفسك في شخص هذا الأعرابي، إذ ينسى أحدهم أو يتناسى الوقت، ويسهب في عرض فكرة مستهلكة، أو يتحدث عن صولاته وجولاته، ويريد ممن حوله أن يشنِّفوا آذانهم بما يتحفهم به.
لم يُجهد صاحبنا -وأمثاله- نفسه في التحضير لحديثه، ولا يقدم لهم أطروحة جديدة، ولا حتى يقدم قراءة منطقية لما يدور حوله، شغله الشاغل أن يتحدث ليس إلا! أهمل فكرة أن مراعاة طبيعة الجمهور ونفسيته تؤثر أيما تأثير في تقبل فكرتك أو الإعراض عنها، ووفق ذلك فإنك مُلزم أن تفتش عمَّا يعقد أواصر الصلة مع جمهورك، وألا تُنفِّره منك بالإطالة أو التوسع في غير موضعه، وكذلك ألا تبتر فكرتك وتشوّه معالمها؛ فالبلاغة -على منهج الأعراب- لمحةٌ دالة.
دارت هذه الفكرة ببالي قبل سنوات، وعادت تُلحّ عليَّ وأنا أعيد ترتيب بعض أوراقي، إذ تذكرت دونما مقدمات الرئيس العراقي الأسبق، عبد الكريم قاسم (1914 – 1962)، وقد نقل موسى صبري -في سِفره الماتع "50 عامًا في قطار الصحافة"- لمحات من اجتماعات قاسم، لا تدفع الأعرابي إلى مغادرة القاعة مغضبًا فحسب، بل قد تُغريه بعدم حضور اجتماعاتٍ البتة.
في صفحة 510، يحكي صبري عن قاسم أنه استعمل مفردة (أنا) في اجتماعٍ واحد 311 مرة، ثم يأتي على تفاصيل قدوم وفد من اليمن برئاسة وزير دفاع اليمن يومها، عبد الله جزيلان (1936 – 2010)، أملًا في اعتراف قاسم بثورة اليمن. فور وصول الوفد إلى مدينة السلام، دعاهم قاسم للاجتماع به، استمر الاجتماع أربع ساعات بتمامها، وقد يكون في ذلك مؤشرًا لمناقشات تمهيدية إيذانًا بنجاح اليمنيين، واعتراف العراق بثورتهم.
لم يجرِ الاجتماع على هذا النسق، إذ انفرد قاسم بالحديث خلال 240 دقيقة، كان يُسمعهم تسجيلات لأحاديثه وخطبه، وبين حين وآخر يُوقف التسجيل ليقدم تحليلًا أو تعليقًا، أو ليتحدث عن مؤامرةٍ حيكت واستطاع رجالاته المخلصون أن يجهضوها في مهدها. قال لهم أثناء إيقاف التسجيل "هل سمعتم هذا التصفيق المدوي؟ هذا هو صوت الشعب"، ثم أدار التسجيل مرة أخرى، وبعد قليل أوقف الشريط ليقول "هنا لخبطة، بعض الخونة حاولوا التشويش عليَّ ولكنني أفحمتهم، انتبهوا جيدًا للفقرة التالية من خطابي".
عش هذه الأجواء واحكم بنفسك، أن تطير مسافة 1999 كيلومترًا من صنعاء إلى بغداد، وبعد هذه الرحلة المرهقة تحضر اجتماعًا مدته 4 ساعات، دون أن تخرج منه بفائدة مذكورة، والأنكى من ذلك أنك مضطر للصبر، ولا حيلة لك في الاحتجاج أو الاعتذار أو ترك القاعة، ما أقساه من شعور، وما أطولها من دقائق تمر على القلب كجبال تهامة.
لم يُفضِ الاجتماع إلى شيء، لكن المُضيف ضرب لهم موعدًا ثانيًا في اليوم الموالي، وذهب اليمنيون للاجتماع بأجندة محددة، وبدأ قاسم الحديث عن محاولة اغتياله، وكيف أنه الزعيم الأوحد في الشرق الأوسط الذي يحارب الاستعمار، وخططه لتحرير الخليج العربي، وخطته لتحرير فلسطين، وكلما حاول أحدهم أن يقاطعه، رد عليه قائلًا "انتظر! انتظر"، ومضت 3 ساعات أخرى دون فائدة؛ "فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًّا".
وتناجى الوفد ليخرجوا من ورطتهم، أضاعوا 420 دقيقة هباءً منثورا، لم يحضروا لأداء دور المستمع، إنما حرّكتهم قضية ويتعين عليهم الإنجاز فيها، ولسان حالهم "اقطع عرق وسيَّح دمه"؛ فلما اجتمع بهم قاسم للمرة الثالثة، قاطعه جزيلان بعنف قائلًا "يا سيادة الزعيم! إننا سعداء جدًا أن نسمع منك، لكننا جئنا في مهمة سريعة، ونريد منك جوابًا بنعم أو لا.. هل ستعترف بثورة اليمن؟ ننتظر منك جوابًا لهذا السؤال من ثلاثة أيام، ولا وقت لدينا لإضاعته في غير ذلك".
بُهت قاسم من المقاطعة وفحوى المداخلة، ولم يُجب عن السؤال، وتحدث عن الاستعمار في الخليج العربي؛ فقاطعه جزيلان للمرة الثانية وطلب جوابًا مباشرًا؛ فانتزع منه اعترافًا بثورة اليمن، ولم يبالِ الوفد بأنهم اضطروا للجلوس أكثر من ساعتين بعد الاعتراف بثورتهم، واستمعوا إلى قاسم وهو يتحدث عن قدراته الخطابية وما يتمتع به من جماهيرية، وأعاد عليهم تسجيلاته، وقتها كان في وادٍ وهم في غيره، ثم اعتذروا منه عائدين إلى اليمن في اليوم نفسه.
يهوى كثيرون الحديث أمام جمهور، حتى وإن جلس الجمهور متبرِّمًا، المهم أن يتكلموا في حضور جمهورٍ ما، لم يحللوا جمهورهم ولم يراعوا ظروفه، ولم يتفهموا احتياجاته واهتماماته وتطلعاته؛ فينعِقون بما لا يسمعون، واهمين أنهم أثروا في جمهورهم وحرَّكوا منه كل ساكن، وأنهم يملكون قدراتٍ خطابية فذة، وتكون الصدمة أن المحصلة لا شيء!
لو أن عبد الكريم قاسم حلَّل آمال وفد اليمن، لاستبقى ماء وجهه موفورًا، لكنَّه آثر أن يُرضي غروره على حسابهم؛ فسمعوه بدايةً على مضض، ثم قاطعوه بلطف غير مرة، وبالأخير قاطعوه بعنف أو حزم؛ لينجزوا مسألة حيوية لا مناص من البتِّ فيها دون مواربة. لو دندن قاسم على ما يريده اليمنيون، لكان أقرب إلى الحكمة وأوقع في قلوبهم وأجلب لاستمالتهم.
لمس خالد بن صفوان ما كابده الأعرابي في خطبة النكاح؛ فقال لرجل كَثُرَ كلامُه: "إن البلاغة ليست بكثرة الكلام، ولا بخفة اللِّسان، ولا كثرة الهذيان، ولكنَّها إصابة المعنى، والقصد إلى الحُجَّة". ولتفوِّت الفرصة على الأعرابي وابن صفوان، ولتحتفظ بجسرٍ متين الصلة بجمهورك، فكِّر في مقياسين ضروريين عندما تتحدث أمام النَّاس؛ مقياس الملاءمة/المواءمة (أن يتناسب موضوعك مع الجمهور المستهدف)، ومقياس الأهمية (مدى أهمية موضوعك للجمهور).
لم يُجهد صاحبنا -وأمثاله- نفسه في التحضير لحديثه، ولا يقدم لهم أطروحة جديدة، ولا حتى يقدم قراءة منطقية لما يدور حوله، شغله الشاغل أن يتحدث ليس إلا! أهمل فكرة أن مراعاة طبيعة الجمهور ونفسيته تؤثر أيما تأثير في تقبل فكرتك أو الإعراض عنها، ووفق ذلك فإنك مُلزم أن تفتش عمَّا يعقد أواصر الصلة مع جمهورك، وألا تُنفِّره منك بالإطالة أو التوسع في غير موضعه، وكذلك ألا تبتر فكرتك وتشوّه معالمها؛ فالبلاغة -على منهج الأعراب- لمحةٌ دالة.
دارت هذه الفكرة ببالي قبل سنوات، وعادت تُلحّ عليَّ وأنا أعيد ترتيب بعض أوراقي، إذ تذكرت دونما مقدمات الرئيس العراقي الأسبق، عبد الكريم قاسم (1914 – 1962)، وقد نقل موسى صبري -في سِفره الماتع "50 عامًا في قطار الصحافة"- لمحات من اجتماعات قاسم، لا تدفع الأعرابي إلى مغادرة القاعة مغضبًا فحسب، بل قد تُغريه بعدم حضور اجتماعاتٍ البتة.
في صفحة 510، يحكي صبري عن قاسم أنه استعمل مفردة (أنا) في اجتماعٍ واحد 311 مرة، ثم يأتي على تفاصيل قدوم وفد من اليمن برئاسة وزير دفاع اليمن يومها، عبد الله جزيلان (1936 – 2010)، أملًا في اعتراف قاسم بثورة اليمن. فور وصول الوفد إلى مدينة السلام، دعاهم قاسم للاجتماع به، استمر الاجتماع أربع ساعات بتمامها، وقد يكون في ذلك مؤشرًا لمناقشات تمهيدية إيذانًا بنجاح اليمنيين، واعتراف العراق بثورتهم.
لم يجرِ الاجتماع على هذا النسق، إذ انفرد قاسم بالحديث خلال 240 دقيقة، كان يُسمعهم تسجيلات لأحاديثه وخطبه، وبين حين وآخر يُوقف التسجيل ليقدم تحليلًا أو تعليقًا، أو ليتحدث عن مؤامرةٍ حيكت واستطاع رجالاته المخلصون أن يجهضوها في مهدها. قال لهم أثناء إيقاف التسجيل "هل سمعتم هذا التصفيق المدوي؟ هذا هو صوت الشعب"، ثم أدار التسجيل مرة أخرى، وبعد قليل أوقف الشريط ليقول "هنا لخبطة، بعض الخونة حاولوا التشويش عليَّ ولكنني أفحمتهم، انتبهوا جيدًا للفقرة التالية من خطابي".
عش هذه الأجواء واحكم بنفسك، أن تطير مسافة 1999 كيلومترًا من صنعاء إلى بغداد، وبعد هذه الرحلة المرهقة تحضر اجتماعًا مدته 4 ساعات، دون أن تخرج منه بفائدة مذكورة، والأنكى من ذلك أنك مضطر للصبر، ولا حيلة لك في الاحتجاج أو الاعتذار أو ترك القاعة، ما أقساه من شعور، وما أطولها من دقائق تمر على القلب كجبال تهامة.
لم يُفضِ الاجتماع إلى شيء، لكن المُضيف ضرب لهم موعدًا ثانيًا في اليوم الموالي، وذهب اليمنيون للاجتماع بأجندة محددة، وبدأ قاسم الحديث عن محاولة اغتياله، وكيف أنه الزعيم الأوحد في الشرق الأوسط الذي يحارب الاستعمار، وخططه لتحرير الخليج العربي، وخطته لتحرير فلسطين، وكلما حاول أحدهم أن يقاطعه، رد عليه قائلًا "انتظر! انتظر"، ومضت 3 ساعات أخرى دون فائدة؛ "فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًّا".
وتناجى الوفد ليخرجوا من ورطتهم، أضاعوا 420 دقيقة هباءً منثورا، لم يحضروا لأداء دور المستمع، إنما حرّكتهم قضية ويتعين عليهم الإنجاز فيها، ولسان حالهم "اقطع عرق وسيَّح دمه"؛ فلما اجتمع بهم قاسم للمرة الثالثة، قاطعه جزيلان بعنف قائلًا "يا سيادة الزعيم! إننا سعداء جدًا أن نسمع منك، لكننا جئنا في مهمة سريعة، ونريد منك جوابًا بنعم أو لا.. هل ستعترف بثورة اليمن؟ ننتظر منك جوابًا لهذا السؤال من ثلاثة أيام، ولا وقت لدينا لإضاعته في غير ذلك".
بُهت قاسم من المقاطعة وفحوى المداخلة، ولم يُجب عن السؤال، وتحدث عن الاستعمار في الخليج العربي؛ فقاطعه جزيلان للمرة الثانية وطلب جوابًا مباشرًا؛ فانتزع منه اعترافًا بثورة اليمن، ولم يبالِ الوفد بأنهم اضطروا للجلوس أكثر من ساعتين بعد الاعتراف بثورتهم، واستمعوا إلى قاسم وهو يتحدث عن قدراته الخطابية وما يتمتع به من جماهيرية، وأعاد عليهم تسجيلاته، وقتها كان في وادٍ وهم في غيره، ثم اعتذروا منه عائدين إلى اليمن في اليوم نفسه.
يهوى كثيرون الحديث أمام جمهور، حتى وإن جلس الجمهور متبرِّمًا، المهم أن يتكلموا في حضور جمهورٍ ما، لم يحللوا جمهورهم ولم يراعوا ظروفه، ولم يتفهموا احتياجاته واهتماماته وتطلعاته؛ فينعِقون بما لا يسمعون، واهمين أنهم أثروا في جمهورهم وحرَّكوا منه كل ساكن، وأنهم يملكون قدراتٍ خطابية فذة، وتكون الصدمة أن المحصلة لا شيء!
لو أن عبد الكريم قاسم حلَّل آمال وفد اليمن، لاستبقى ماء وجهه موفورًا، لكنَّه آثر أن يُرضي غروره على حسابهم؛ فسمعوه بدايةً على مضض، ثم قاطعوه بلطف غير مرة، وبالأخير قاطعوه بعنف أو حزم؛ لينجزوا مسألة حيوية لا مناص من البتِّ فيها دون مواربة. لو دندن قاسم على ما يريده اليمنيون، لكان أقرب إلى الحكمة وأوقع في قلوبهم وأجلب لاستمالتهم.
لمس خالد بن صفوان ما كابده الأعرابي في خطبة النكاح؛ فقال لرجل كَثُرَ كلامُه: "إن البلاغة ليست بكثرة الكلام، ولا بخفة اللِّسان، ولا كثرة الهذيان، ولكنَّها إصابة المعنى، والقصد إلى الحُجَّة". ولتفوِّت الفرصة على الأعرابي وابن صفوان، ولتحتفظ بجسرٍ متين الصلة بجمهورك، فكِّر في مقياسين ضروريين عندما تتحدث أمام النَّاس؛ مقياس الملاءمة/المواءمة (أن يتناسب موضوعك مع الجمهور المستهدف)، ومقياس الأهمية (مدى أهمية موضوعك للجمهور).
إن لم تُمهل الأيام عبد الكريم قاسم طويلًا، ولم يستدرك على نفسه هذا الخلل، فبإمكانك أن تفعلها وتتفادى ما وقع فيه، لا سيَّما أن الأمر ليس بالمستحيل، ولعلَّك سمعت عن أحدهم نجح في هذا التحدي، ووصف لاحقًا بأنه ضمن أفضل ثلاثة رؤساء في الولايات المتحدة الأميركية، يقال له "بيل كلينتون"، وسنطوف في رحاب تجربته قريبا.