مُحدَثو حداثة

18 اغسطس 2017

(إبراهيم جوابرة)

+ الخط -
يصيبني تلبّكٌ وجدانيٌّ حادّ، كلما صادفتُ عبارة "مُحدَثو نعمة"، إذ لا يبدو المصطلح عدائياً للثروة واكتناز الفرد لها بقدرِ عدائه لحداثة الحصول عليها، وكأن الثراء يكون حميداً بقدرِ ما يكون قديماً، ولكأن رجسَه وشرَّه وغوايتَه آفاتٌ تسقط بالتقادم. ليس هذا مفاجئاً تماماً، فالمصطلح أصلاً لم يسبكه فقراء، وإنما اخترعه أثرياءُ للتشهير بمن يحاولون مزاحمتهم بناديهم المخملي؛ لا طعناً بفحش الثراء، ولا ترفّعاً عن مراكمة المال، وإنما على العكس تماماً، احتكاراً لهما، ومنعاً لانتساب أعضاءَ جدد عبر السخرية من فقرهم المَسلَكيّ، المُواكبِ لثرائهم الطارئ. لكن التفاهة الطبقية التي ألهمت أثرياء فرنسا في القرن الثامن عشر لاختراع هذا المصطلح لا تمنعنا بالضرورة من أن نجد فيه معنىً أعمَّ وأعمق مما أراد له مخترعوه؛ معنىً مرتبطاً بتناقضات الإنسان، وهو يلج مجالاً جديداً لم يخبره سابقاً، وفكاهيةِ سلوكِه وهو يخلط قديماً يريد مفارقَته مع جديدٍ يتوسّلُ الانتسابَ إليه، فلا هو متمكّنٌ من الثاني، ولا قادرٌ على مَحو الأول.
أمام أيِّ عالَمٍ جديد يقتحمه الإنسان، أو فكرةٍ حديثةٍ يهتدي لها، لا سبيل للنضج من دون شيءٍ من مراهقة. إن حداثة عهدنا بأي جديد تحتّم عبور جسرٍ صعبٍ لا نبدو عليه إلا مثيرين للضحك، ونحن نتلمّس طريقنا عبر عتمتِه إلى النضج والتمكّن. ونتفاوت في ما بيننا بكم يَطُول مسيرُنا على هذا الجسر، وبكم نبدو ساذجين وفكاهيين، كلٌّ بحسب تركيبته وخبرته وذكائه الشخصي. بهذا المعنى، وفوق هذا الجسر، نتصرّف جميعنا كمُحدَثي تجربة، كلما اجترأنا على فكرة جديدة. ومِن بين آلاف الأفكار التي تملأ فضاءنا العام، راكمت "الحداثة"، في بلادنا على وجه الخصوص، عدداً هائلاً من المُحدَثين، كثيرٌ منهم مثقفون وفنانون وصحافيون وسياسيون وقادة رأي عام، وأيُّ مسمّىً نخبويٍّ عَطِرٍ يخطر ببال المرء. وأصبحت ظاهرة "مُحدثي الحداثة" حَرِيّةً بالدراسة، لأنها لم تعد مؤشراً على مراهقةٍ فكرية مؤقتةٍ يمر بها من اكتشفوا
الحداثة أخيراً، وإنما تحوّلت إلى حالةٍ دائمة يفشل أصحابها في تجاوز سذاجتهم الأولى حيالها، ليصبح العبورُ صوب النضج تأبّداً في المراهقة. هؤلاء يَبدون طوال الوقت وكأنهم اكتشفوا الحداثة في الدقائق الخمس الأخيرة، حتى لو عايشوا الفكرة عقوداً، وثقبوا سقف السماء وهم يُنظّرون فيها ويسفسطون عنها ويُتاجرون بها. وآيةُ مراهقتهم المزمنة، قبل أيِّ شيءٍ آخر، هي الحماسة لأكثر مظاهر الحداثة تقدّماً وتفصيلاً وإرهافاً في سياقها الغربي، مصحوبة بعمىً تام تجاه ركائز الحداثة اللازمة في السياق الذي يعيشونه.
كم هو لافتٌ أن ترى شخصاً يطرح قضية الحاجة لدورات مياه خاصة بأصحاب الجنس الثالث أو الترانسجندر في بلادنا، ثم تجده يعقّب على قمع القوات المسلحة لمجموعات مدنية في مجتمعه بعبارة "الجيش خط أحمر". كم هو غريبٌ أن يجاهد المرء دفاعاً عن قيم حداثية تتعلق بالبيئة، كرفض استخدام الأكياس البلاستيكية، وترويج الحواضن الورقية والكرتونية بديلاً صديقاً للبيئة والكوكب، ثم يكتب دفاعاً عن إمطار مدن ببراميل محشوّة بالديناميت يُحدِث واحدُها من التلوث ما يفوق كل البلاستيك الذي رآه المذكور بحياته. كم هي مدهشةٌ تلك الإعلامية الفاتنة التي تنضحُ الحريةُ والتمكين من ملابسها الشفيفة، ويصعبُ تمييزها عن أي امرأة غربية، لكنها ما أن تفتح فمها بالكلام، حتى تعمَّ العتمةُ في الأرجاء، وهي تلعن لاجئين، أو تسخر من فقراء أو تزدري جنسيات.
مِن أين يأتي الإنسان بالصفاقة، ليكتب هجوماً على التحيزات الجنسية للغة العربية في تاء التأنيث ونون النسوة، ثم يبدو شامتاً ببنت بلده، عندما تُودَع زنزانةً تتعرضُ فيها لكل انتهاكٍ جسديٍّ يمكن تخيّله، لأنها عبّرت عن رأيٍ سياسيٍّ مخالف. كيف يمكن أن يتصدّى المرء لقانون يمنع الإفطار علناً برمضان، ويبدو غافلاً عن بنيةٍ قانونيةٍ بأسرها تجرّم الحديث علناً (وسرّاً) في أي شأن عامٍ ذي قيمة، ليس في رمضان وحسب، بل في كل يومٍ من كل شهرٍ من كل عامٍ من كامل الدهر. لا يبدو هؤلاء إلا كمن يلبس ربطة عنق فاخرة بالتزامن مع بيجامة نوم مزركشة وصندل مطاطي ممزّق الأطراف. ولربما لو اقتصر الأمر على البشاعة وحدها لمَا استلزم الأمر التفاتاً كثيراً، فالكوميديا التي يوفّرها مُحدَثو الحداثة هؤلاء قد تشفع لهم، لكنهم يرتكبون سلسلة جرائمَ موصوفةٍ فيما يفعلون، أسوأها على الإطلاق أنهم يُشيعون سمعةً رديئة عن قيم الحداثة، ويُصوّرونها مساحيق تجميل رخيصة لبشاعات خَلقية مُريعة. مسار الحداثة يفضي دوماً إلى أسئلة تتعلق بالحريات الشخصية، والمسألة النسوية، وقضايا المثلية، وحماية البيئة، لكنه لم ينطلق تاريخياً منها. المسيرة الطويلة التي قادت الغرب إلى ما هو عليه اليوم، بتدرجها وتسلسلها، هي ما يستوجب التأمل ويستحق الدراسة، وليس الشكل الخاص الذي أفضى له المجتمع الغربي بعد تلك الرحلة الشاقة.
لن يفضي بدء رحلة الحداثة مِن أطرافها إلى جوهرها، ولا حريةُ اللباس والمأكل ستمهّد الطريق إلى حرية الفكر وحرية العمل السياسي، ولا تثقيف الناس على احترام فكرة الطابور والنظام ستصنع انتخابات نزيهة ودولة عادلة، بينما العكس صحيح. ليس هذا وحسب، بل لعل الإصرار على خوض أسئلة الحداثة المتأخرة والفرعية يبدو مصمماً، في أحيان كثيرة، لمشاغلة الناس عن أسئلتها الجوهرية الأُولى.
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
عوني بلال
عوني بلال