لم يجد رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أمس الأحد، على مدار جلسة الحكومة، سبباً واحداً للتطرق إلى التظاهرات الصاخبة التي شهدتها القدس المحتلة وقيسارية، وتل أبيب، ومختلف مفترقات الطرق في إسرائيل، ولا إلى تعرض أحد المتظاهرين عند مفترق كيبوتس نير عام القريب من قطاع غزة، لعملية طعن من قبل يمينيين فاشيين. كما أنه تجاهل التطرق إلى الاعتداء على متظاهرين في القدس بعد مغادرتهم منطقة التظاهرات قبالة مقر إقامة نتنياهو الرسمي في القدس، وما بدا أنه تربص وكمين أعد مسبقاً من عناصر يعتقد أنها تتبع لتنظيم مؤيدي فريق بيتار القدس، العنصري، الذي يطلق عليه اسم لافاميليا.
كل الخطوط "الحمراء" التي تم تجاوزها في تظاهرات السبت، لم تحوّل نتنياهو عن مواصلة سياسته الثابتة في التحريض التام ضد كل معارضيه السياسيين والمتظاهرين ضده. وفي مقدمة ذلك، استمرار حملات التحريض ضد الإعلام كما فعل، عندما غرّد في حسابه على تويتر أن القناة الإسرائيلية 12 تنشر أخباراً كاذبة، مدعياً أن ساحة التظاهرات خالية من المتظاهرين. وزاد نتنياهو على ذلك عندما وصف المتظاهرين ضده بأنهم فوضويون، وهو آخر ما يمكن أن يوصف به المتظاهرون ضد نتنياهو الذين يصرّون على رفع علم دولة الاحتلال والمباهاة بخدمتهم العسكرية في الجيش.
لكن نتنياهو، المستفيد من ثمار عملية غسل الدماغ والتحريض الثابت والمنهجي ضد الوسط واليسار في إسرائيل، يشعر أنه لم يعد، في ظل ترسيخ ادعاءاته ضد خصومه، بحاجة إلى عمليات الاستعراض المستهزئة بخصومه والمحرضة عليهم في الوقت نفسه، كما فعل أول مرة في إحدى الاجتماعات الانتخابية في معركته الانتخابية الأولى قبل 25 عاماً مقابل شمعون بيرس. فقد قام نتنياهو آنذاك في أحد الاجتماعات الانتخابية، بعد أن سأل هل يوجد هنا يساريون، وعندما جاء الجواب بالنفي، بخلع معطفه بحركة مسرحية واضحة الدلالة. وكرر نتنياهو هذه الحركات الاستعراضية خلال لقاءات واجتماعات حزب الليكود، وهو يقول نصف الجملة الأولى على وقع صدر البيت ويعجزه: لن يحدث شيء، ليرد جمهوره لأنه لم يكن هناك شيء. ومع أن سياسات نتنياهو الإعلامية والتحريضية لم تعطه أغلبية في الكنيست إلا أن حزبه ظل يخرج من الانتخابات المعادة ثلاث مرات باعتباره القوة الأولى.
لكن شيئاً ما تشوش في خطط نتنياهو الإعلامية، وإن لم يوقف التحريض، عندما تحرك تنظيم لافاميليا، الخميس الماضي، وتكرر الأمر أمس الأول، ليقف في مواجهة معارضي رئيس الوزراء ويقوم بالاعتداء عليهم، كما سجلت التظاهرات الأخيرة وصولاً إلى رش غاز الفلفل على متظاهرين عند مفترق جنوبي تل أبيب والاعتداء بالطعن على متظاهر قرب قطاع غزة، ومباغتة المتظاهرين في القدس المحتلة. وكل ذلك يحدث وسط صمت واستنكاف عن استنكار الاعتداءات مقابل مواصلة التحريض على الإعلام واليسار، فيما لا يصدر الأخير سوى بيانات وتصريحات الإدانة، ودون أن يقوى شركاءه في الحكومة من حزب كاحول لفان، ولا سيما الجنرال بني غانتس وغابي أشكنازي على تجاوز تصريحات استنكار الاعتداء على المتظاهرين إلى تهديد بالانسحاب من الحكومة على خلفية هذه التظاهرات. وربما يعود ذلك إلى كون قسم كبير من المتظاهرين يعتبرون حزب كاحول لفان، الشريك في الحكومة، مساهماً في الفشل بمواجهة جائحة كورونا، حتى في صفوف من "أيدوا" بأثر رجعي انضمام كاحول لفان للحكومة بعد الانتخابات الأخيرة في مارس/آذار الماضي، كجزء من حكومة وحدة طوارئ وطنية لمواجهة جائحة كورونا.
تنوع في صفوف المناهضين لنتنياهو
ينتمي غالبية المتظاهرين ضد نتنياهو في الأسابيع الأخيرة إلى مجموعتين رئيسيتين، الأولى يطلق عليها أصحاب الرايات السوداء، هي مجموعة المتظاهرين ضد بقاء نتنياهو بالحكم لمجرد وجود لائحة اتهام ضده بتهم الفساد وخيانة الأمانة العامة والاحتيال. وينتمي هؤلاء عموماً إلى أحزاب الوسط المعارضة لنتنياهو ولا سيما حزب تيلم ييش عتيد بقيادة يئير لبيد.
ينتمي غالبية المتظاهرين ضد نتنياهو في الأسابيع الأخيرة إلى مجموعتين رئيسيتين
لكن أيضاً يوجد بين صفوفهم عشرات ومئات من القادة العسكريين السابقين غير المحزبين، والذين ينشطون بشكل أساسي تحت ستار نشاط جمعية نزاهة الحكم. المجموعة الثالثة التي برز دورها في التظاهرات الأخيرة هي أصحاب الأعمال الحرة الذين تضررت مصالحهم من جائحة كورونا، كأصحاب المطاعم والمهن الحرة الأخرى، وبضمنها فئة واسعة من جيل الشباب الذين بقوا بلا عمل، خصوصاً من الجنود المسرّحين، والأزواج الشابة من بين العاطلين عن العمل الذين يخشون فقدان بيوتهم بعد انتهاء فترة دفع مخصصات البطالة.
استخلاص العبر من موجات الاحتجاج السابقة
ويبدو أن نتنياهو استخلص العبر من موجتين من الاحتجاجات ضد حكم اليمين في إسرائيل، وأهمها أن الوسط واليسار في إسرائيل لن يلجأ إلى العنف، خلافاً لتصريحات وزراء في حكومة نتنياهو وعلى رأسهم وزير الأمن الداخلي، أمير أوحانا، والذي زعم أمس أنه يخشى أن تنتهي هذه التظاهرات بسفك دماء. وكانت أولى موجات التظاهر ضد حكم اليمين التي شهدتها إسرائيل في هذا السياق، انطلقت خلال الغزو الإسرائيلي للبنان (الذي بدأ في 1982 لكن حركة الاحتجاج عام 1983) حيث اعتاد نشطاء يسار ولا سيما حركة السلام الآن التظاهر أسبوعياً بأعداد صغيرة ضد الحرب، عندما قام يميني إسرائيلي يدعى يونا أفروشمي بإلقاء قنبلة باتجاه متظاهري حركة السلام الآن في العاشر من فبراير 1983 أسفرت عن مقتل الناشط اليساري إميل غرينتسفاغ.
أما الموجة الثانية التي استخلص منها العبر بشأن سكوت اليسار وعجزه عن تقديم بديل حقيقي فكانت عند اندلاع موجة الاحتجاج الاجتماعية في العام 2011، وبلغت أوجها بنصب خيام في جادة روتشيلد في تل أبيب. لم تسفر تلك الموجة عن خلق بديل جديد يهدد حكم نتنياهو، ولم تأتِ بأكثر من إبراز اثنين من قادة الحركة الشباب انضما لاحقاً إلى حزب العمل، وهما ستاف شفير وإيتسيك شمولي. وقد وجدت شافير نفسها خارج الكنيست على لائحة حزب العمل، فيما تمكن شموليك من البقاء في الكنيست، لينضم إلى حكومة نتنياهو سوية مع زعيم العمل عمير بيرتس.
استطاع نتنياهو أن يجتاز "أزمة" المجتمع الإسرائيلي بعد قتل رابين، ليؤكد فوزه حجم انزياح المجتمع الإسرائيلي، نحو اليمين، إلى درجة قبول "ورثة" رابين بالتحالف مع نتنياهو لاحقاً في حكومات عدة. كما تمكن من احتواء تداعيات موجة الاحتجاجات الاجتماعية عام 2013. وعلى الرغم من أن تشكيل كاحول لفان بتحالف أركانها الثلاثة: ييش عتيد وتيلم وحوسن يسرائيل بقيادة غانتس، شكل لأول مرة تهديداً لنتنياهو بعد الانتخابات الأخيرة في مارس، إلا أنه تمكن من تفتيت كاحول لفان وشقه بعد انضمام الجنرال بني غانتس له مع 17 مقعداً.
يبني نتنياهو، والذي يواجه عدا عن جائحة كورونا، لائحة اتهام رسمية، على حقيقة أن المتظاهرين ضده إلى الآن لم يتجاوزا عشرة آلاف متظاهر
غياب بديل واقعي في الخريطة الحزبية
ويبني نتنياهو، والذي يواجه عدا عن جائحة كورونا، لائحة اتهام رسمية، على حقيقة أن المتظاهرين ضده إلى الآن لم يتجاوزا عشرة آلاف متظاهر، علماً بأن عدد المتضررين من جائحة كورونا والعاطلين عن العمل يتجاوز المليون شخص. إلا أن بقاء هؤلاء في البيوت يشجع نتنياهو على تجاهل التظاهرات الأخيرة، وتركيز جهده على كيفية التخلص من الملف القضائي ضده. ويبدو أن نتنياهو يحاول تحقيق ذلك، من خلال السعي لتكريس حالة الفوضى الاحتجاجية، في الشارع مع السكوت عن عصابات الفاشية المختلفة، من جهة، وتكريس حالة الشلل في عمل الحكومة مع اتهام شركائه في الحكومة ولا سيما حزب كاحول لفان بقيادة الجنرال بني غانتس بعدم تمكينه من الحكم كمبرر للذهاب لانتخابات جديدة.
وقد يكتفي نتنياهو بإسقاط الحكومة لعدم إقرار ميزانية جديدة، حتى 25 أغسطس/آب المقبل، ليتم الإعلان رسمياً عن انتخابات جديدة خلال تسعين يوماً، من دون أن يكون في الخريطة الحزبية الإسرائيلية شخصية قادرة أن تشكل بنظر الإسرائيليين بديلاً لنتنياهو.