أعلن في العديد من وسائل الإعلام عن تنظيم ندوة عن قطر، في باريس، اليوم الاثنين، 26 يونيو/حزيران. وبنظرة سريعة إلى الجهات الثلاث الداعية لتنظيمها، تطرح علامات استفهام عديدة حول مصداقيتها، أكان على خلفية علاقاتها المفضوحة مع دوائر اليمين المتطرف الفرنسي، أو مع دوائر من بعض الأنظمة العربية، التي لا تكن ودّاً لدولة قطر، في الوقت الحالي، على الأقل، وأيضاً بسبب انعدام القيمة العلمية للكثير من أبحاثها ومنشوراتها وندواتها.
فما هو المركز الدولي للدراسات الجيوسياسية والاستشرافية الذي ينظم الندوة؟ هذا المعهد أسسه مزري حداد، الذي كان سفيرا للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، وظل وفياً لرئيسه ضد الثورة التونسية ولا يزال كذلك حتى اليوم. وقد أسس هذا المعهد في باريس، الذي أشرك فيه مجموعة من الإعلاميين الذين لا يخفون عداءهم لثورات الربيع العربي. وأراد حداد أن يُفعِّل مركزه عبر تنظيم ندوتين، في العام الماضي، الأولى بعنوان "5 سنوات من الربيع العربي"، وقد شارك فيها القيادي الأمني المطرود من حركة "فتح"، محمد دحلان، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع النظام المصري وولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، بالإضافة إلى ندوة أخرى بالتعاون مع معهد الاستشراق والأمن في أوروبا، حول "الملف التركي في الشرق الأوسط والطموحات العثمانية الجديدة لأردوغان"، وهذه الندوة ضد قطر، هي الثالثة، وتستغل الحدث الذي شكلته الحملة ضد الدوحة المستمرة منذ أكثر من شهر.
وقد حاول مزري أن يكون فاعلاً في المشهد السياسي التونسي بعد الثورة من خلال بعض المشاركات الإعلامية، ولكنه لم ينجح في إحداث أي اختراق حقيقي، وظلت مداخلاته المتعددة تثير السخرية من قبل الجمهور الفرنسي والعربي، خاصة التونسي، على السواء. باختصار، يتعلق الأمر، الآن، بدبلوماسي متقاعد، يريد أن يكون فاعلا وحاضرا من خلال هذا المركز.
والمعروف عن هذا الشخص حبه للظهور الإعلامي، فقد وصلت به سلوكياته حدّ المشاركة في المؤتمر الرابع لحزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف، والمعادي للعرب والأجانب والإسلام في فرنسا، والذي خصص لنقاش موضوع الضواحي، وهو ما كُوفئ عليه بشكر بالعربية من قبل مارين لوبان، التي لا تفوت فرصة إلا واستغلتها لشكر "النموذج الإماراتي في التعامل مع الحركات الإسلامية" ومع الثورات العربية. ولم يُعبّر بعدها عن أي شعور بالندم، وهو ما فسره بعض المراقبين بأنه كان مراهنة منه على صعود محتمل لمارين لوبان للسلطة، وبالتالي حصوله على منصب مستشار لها.
الجهة الثانية المشاركة في الندوة المخصصة لمهاجمة قطر، هي "المركز الفرنسي للبحث والمخابرات". ما هو هذا "المركز الفرنسي للبحث والمخابرات"؟ تمكن الإجابة على هذا السؤال من خلال كشف هوية إيريك دينيسي، رئيس هذا المركز. قبل كل شيء يتعلق الأمر بمركز خاص، تأسس سنة 2000، ولا علاقة له بالدولة الفرنسية مثلما يمكن أن يوحي اسمه.
ويقدم نفسه باعتباره "مركز تفكير"، متخصص في دراسة المعلومة الاستخباراتية والأمن الدولي. ومن أهدافه، كما يزعم: تطوير البحث الأكاديمي والمؤلفات المكرسة للعمل الاستخباراتي والأمن الدولي، والإسهام في تقديم الخبرة لفائدة أصحاب القرار والإدارة والبرلمانيين ووسائل الإعلام... وأخيرا يهتم بـ"نزع القداسة" عن المعلومة الاستخباراتية وتفسير دورها أمام الجمهور.
ويُعرَف عن هذا المتخرج في العلوم السياسية، عمله في كمبوديا إلى جانب "المقاومة المناهضة للشيوعية"، كما عمل في دولة بورما، في حماية مصالح شركة توتال ضد المتمردين على النظام في هذا البلد. ثم مارس التدريس بعدها في كثير من المعاهد التابعة لوزارة الدفاع الفرنسية. واشتهر دينيسي، منذ سنوات، بمعاداته الشديدة للربيع العربي وكل الثورات التي تمخضت عنه، ولم تَخْلُ كتاباته من نزعات تتبنى نظريات المؤامرة، التي تنزع عن الربيع العربي صفته العفوية، وتدّعي أن الولايات المتحدة هي التي ساهمت في خلقه.
وليس غريباً أن تجد أطروحاته المدافعة عن النظام السوري، التي ينشرها في مواقع يمينية، (موقع أتلانتيكو)، صدى واسعا ودعما كبيرا لدى أنصار جان لوك ميلانشون، الداعمين لفلاديمير بوتين وغير المعادين لبشار الأسد. وقد دافع دينيسي في مقال له في صحيفة لوموند سنة 2014، عن كفاءة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لحكم مصر. وفي عز المجزرة الروسية بحق مدينة حلب نهاية العام الماضي، لم يجد دينيسي ما يقول سوى إدانة التزوير الذي تتعرض له، في نظره، المعلومة التي تتحدث عن حلب، في إشارة إلى رفضه لكل حديث عن مجازر النظام السوري وحليفه الروسي في حلب.
ويقول في لقاء معه، سنة 2016، مع قناة "إيل سي إي" الفرنسية: "أعتقد أن وسائل الإعلام في فرنسا، إما أنها تابعة للموقف السائد المفروض من قبل وسائل الإعلام الأنغلو-ساكسوني، أو من قبل وسائل الإعلام العربية.. (...) حيث تُقدَّم لنا الأخبار كما لو أن الأسد قتل 90 في المائة من الشعب، وهو ما ليس صحيحا"، ويستدرك: "هذا لا يعني أنه قديس".
وأعاد هذا الشخص تكرار مواقفه بعد سقوط حلب في يد الجيشين الروسي والسوري، فقال إن "جيش الأسد حرّرها، ولم تسقط". ويقدم رؤيته لمرحلة ما بعد حلب، فيقول إنه "في المرحلة الأولى، يجب على السوريين والحكومة الشرعية في سورية مع حلفائها إرساء النظام واستعادة البلد. وبعدها، سنطرح سؤال معرفة كيف سيحدُثُ تطور للنظام".
ومن يقرأ التساؤلات التي تتضمنها الندوة الباريسية المخصصة ضد قطر، يرى فيها بصمات اليمين المتطرف الفرنسي، من جهة، ومن جهة أخرى، قائمة الشروط التي قدمتها السعودية والإمارات لقطر، قبل أيام. ومن يقرأ عناوين محاور الندوة، يلاحظ محاولة لتكبير نفوذ قطر في أوروبا لاختراع خطر قطري ما، ولكي تكون الإدانة بحجم "الخطر" المزعوم. يطرح المنظمون سؤالاً عن "تأثير قطر في دول أوروبا"، ثم حول دعمها "حركات الإسلام السياسي في أوروبا"، وهو سؤال استخباراتي بامتياز.
وتحاول الندوة، بشكل مفتوح ومفضوح، تشجيع بلدان الاتحاد الأوروبي، وخاصة فرنسا وبريطانيا، على التخلي عن الاستثمارات القطرية، لـ"صالح استقلالية سياستها"، وكأن دولة قطر دولة عظمى، كالولايات المتحدة، قادرة على سلب الاتحاد الأوروبي حريته واستقلالية سياساته. ثم تصل النبرة الاستفزازية إلى ذروتها عند الحديث عن هيمنة قطر على الإسلام في أوروبا، وتحديدا في فرنسا، عبر تمويل "الإخوان المسلمين"، وهو الشيء الذي تكرره ليل نهار أبواق اليمين الفرنسي، والذي تحدثت عنه دولة الإمارات قبل أكثر من سنة، ولم تجد له السلطات الفرنسية المختصة أيَّ أثَر على أرض الواقع.