"وضعت السلطات السورية الشبّان بين خيارَي الالتحاق بالجيش أو مغادرة البلاد". هذا ما تقوله عبير حسام الدين، وهي طالبة ماجستير في علم الاجتماع، مضيفة أنّ ذلك يتزامن مع "تضاؤل فرص هؤلاء بالبقاء والعمل والعيش في ظروف طبيعية".
لعلّ أكثر الأمكنة التي تتّضح فيها الزيادة الكبيرة في عدد الإناث بالمقارنة مع عدد الذكور في دمشق وغيرها من المناطق، هي ممرات الجامعات ومدرجاتها وحدائقها. كيفما جلت في جامعة، لاحظت أنّ أكثرية الطلاب من الإناث، في مقابل انخفاض كبير في عدد الذكور من بينهم، خصوصاً خلال السنتين أو السنوات الثلاث الماضية.
عبير حسام الدين، طالبة ماجستير في قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق، تخبر أنّها "منذ ست سنوات، لم أتغيّب عن الجامعة لأسبوع واحد. وخلال الفترة نفسها، رحنا نلاحظ أنّ أعداد الشبّان تتقلص تدريجياً. وفي المرة الأخيرة التي كُلّفت فيها بمراقبة قاعة امتحان، كان عدد الممتحَنين 42 طالباً، ستة منهم فقط من الذكور".
تفيد إحصاءات نشرتها منظمات دولية وحقوقية بأنّ نحو سبعة ملايين سوري غادروا بلادهم خلال السنوات الستّ الماضية، يقيمون بأكثريتهم العظمى في دول الجوار، تركيا ولبنان والأردن، وكذلك في دول عربية عدّة، أبرزها مصر والسودان، فضلاً عن مئات آلاف لجأوا إلى دول الاتحاد الأوروبي، معظمهم في ألمانيا والدول الإسكندنافية.
لا تتوفّر بيانات لمنظمات الأمم المتحدة المختصة، حول الفئات العمرية لهؤلاء الذين تركوا البلاد، لكن من شبه المؤكد أنّ نسبة الشباب من بينهم، والذين تراوح أعمارهم ما بين 18 و40 عاماً، هي الأكبر بين مختلف الفئات العمرية التي غادرت البلاد، خصوصاً من مناطق سيطرة النظام السوري. فتلك الفئة العمرية كانت أكثر عرضة من غيرها لمخاطر الاعتقال، لا سيما مع زيادة حملات النظام لتجنيد الشبان في قواته.
في السياق، تشير إحصاءات عدّة، غير رسمية بمعظمها، إلى أنّ الأكثرية العظمى من السوريين الذين غادروا البلاد من فئة الشباب (ذكور وإناث). واستناداً إلى تقرير أصدرته دائرة الهجرة التركية قبل أسبوعين، فإنّ 20 في المائة من السوريين في تركيا هم من الذكور الذين تراوح أعمارهم بين 19 و40 عاماً. فقد وصل عددهم إلى نحو 630 ألفاً، من أصل ثلاثة ملايين سوري يتوزعون في 81 ولاية تركية. وبالإمكان تقدير النسبة نفسها تقريباً، بالنسبة إلى بلدان العالم الأخرى حيث يتوزّع اللاجئون السوريون اليوم. يُذكر أنّ هذه النسبة ترتفع في دول اللجوء الأوروبي التي كانت وجهة الشباب بالدرجة الأولى، بخلاف دول الجوار التي اختارت العائلات - خصوصاً الفقيرة - بمعظمها البقاء فيها، نظراً إلى سهولة الوصول إليها.
على الرغم من غياب الإحصاءات الدقيقة، غير أنّ الأمر يؤشّر إلى مشكلة اجتماعية بالغة الخطورة تهدّد البنية المجتمعية داخل سورية، بسبب النزيف الشبابي الحاد بالمقارنة مع الفئات العمرية الأخرى التي ما زالت في البلاد حتى اليوم. وفيما تُعَدّ حملات التجنيد من أكثر العوامل التي دفعت مئات آلاف الشبّان إلى مغادرة بلادهم، يأتي سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية كعامل رئيسي كذلك لدفع هؤلاء إلى ترك بلادهم. وهذه هي حال ياسين صوالحة، الذي كان يقيم في دمشق قبل أن ينتقل إلى تركيا منذ سنتين. يقول إنّ "حملات التجنيد كانت عاملاً رئيسياً دفعني إلى السفر. في الفترة الأخيرة قبل سفري، لم أكن أخرج من البيت إلا للضرورة، إذ إنّ الخروج إلى العمل أو الجامعة كان يعني عبور أحد الحواجز الأمنية، وما أكثرها! ويمكن لأيّ حاجز أن يوقفني ويلحقني رغماً عني بالجيش، مثلما حصل مع عدد كبير من أصدقائي". يضيف الشاب الذي كان يدرس الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق قبل السفر: "إلى خطورة الاعتقال على الحواجز، فإنّ الوضع المعيشي أصبح بالغ السوء. فرص العمل قليلة والرواتب متدنية، مع ارتفاع جنوني في الأسعار. كلّ ذلك دفعني إلى اختيار السفر بعدما شعرت بأنّ لا جدوى من البقاء".
وصوالحة يقيم في شقة في مدينة إسطنبول مع تسعة شبّان آخرين دفعتهم الأسباب نفسها تقريباً إلى ترك مدنهم وبلداتهم الأصلية في سورية. بعضهم يعتزم الهجرة إلى أوروبا، فيما قرّر بعض آخر البقاء في تركيا، أمّا معظمهم فلا ينوي العودة إلى سورية "طالما أنّ تلك الظروف قائمة".
من جهته، طارق الشامي، شاب ثلاثيني يقيم منذ ثلاث سنوات في مدينة مالمو السويدية، بعدما تنقّل لمدّة سنتين بين لبنان ومصر وليبيا. يقول إنّ أسرته التي بقيت في دمشق، ومثلها عشرات الأسر الأخرى التي يعرفها، تضمّ فقط رجالاً مسنّين ونساءً وأطفالاً. يضيف أنّ "قلة قليلة فقط من أصدقائي الذين هم في مثل سنّي بقوا في سورية، أمّا الأكثرية فقد تركت البلاد قبل سنوات. للأسف لم يبقَ من سبيل للبقاء، فخطر الاعتقال يُهدّدك في أيّ لحظة، بالإضافة إلى عدم وجود أفق لمستقبل نرجوه".
إلى ذلك، تقول عبير حسام الدين إنّ "مشاكل فقدان الأسرة السورية لعنصر الشباب فيها، كثيرة وخطيرة. وقد بدأت نتائجها تطفو على السطح أخيراً، ومنها المعاناة النفسية بفقدان هذا العنصر الحيوي داخل الأسرة، فضلاً عن أنّ ظاهرة العنوسة بين الشابات آخذة في التفاقم". تضيف أنّ "تدنّي نسبة الشباب في المجتمع السوري باتت تحوّله شيئاً فشيئاً إلى مجتمع هرم، بعدما كان مجتمعاً فتياً".
تجدر الإشارة إلى أنّ القاضي الشرعي الأوّل في دمشق محمود معرواي، كان قد صرّح في أوائل شباط/ فبراير الماضي، بأنّ ظروف السنوات الخمس الأخيرة أفرزت تفوّقاً واضحاً في عدد الإناث بالمقارنة مع الذكور في المجتمع السوري، مشيراً إلى أنّ زواج الرجل من امرأة ثانية هو "الحلّ الأكثر واقعية ومنطقية" للقضاء على ظاهرة العنوسة، بعدما باتت الإناث تمثّل نسبة 65 في المائة من المجتمع السوري.
إلى ذلك، فإنّ بنية المجتمع في مناطق سيطرة المعارضة السورية تعاني من المشكلة نفسها تقريباً، مع اختلاف المخاطر. فيها، لا حملات إجبارية للتجنيد تدفع الشبّان إلى الهجرة، لكنّ القصف والغارات التي تخلّف قتلى ومصابين، فضلاً عن احتمال اشتعال معركة في أيّ وقت، إلى جانب غياب فرص العيش والعمل في ظروف طبيعية، كلّ ذلك دفع بآلاف الشبان إلى تركها بحثاً عن حياة مستقرّة.