نشيد الإنشاد.. حياة قصيرة كما الربيع

06 يناير 2016
"نشيد الإنشاد" لـ مارك شاغال (1958)
+ الخط -

"أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ. صَوْتُ حَبِيبِي قَارِعاً: فْتَحِي لِي يَا أُخْتِي يَا حَبِيبَتِي يَا حَمَامَتِي يَا كَامِلَتِي لأَنَّ رَأْسِي امْتَلَأَ مِنَ الطَّلِّ وَقُصَصِي مِنْ نَدَى اللَّيلِ".

هذا صوت آتٍ من نشيد الإنشاد، نشيد الحب المقدس، أو "نَشِيدُ الأَنَاشِيدِ الَّذِي لِسُلَيْمَانَ" أو لعاشقين مجهولين يتغازلان أوان تفتّح الطبيعة وعلى أرائك مملكة مُتخيلة، يتطارحان الغرام بالصور الأكثر شعرية وإيروتيكية في الكتب المقدسة، قلبان وجسدان ذابا في المحبة الطاغية وصارا واحداً أشبه بتلك الأسطورة القائلة إن الذكر والأنثى كانا في الأصل واحداً في ذلك الفضاء الأثيري قبل أن "يسقُطا" من ذلك الفردوس المتخيل ويهبطان الأرض وينفصلان ليبحث كل منهما عن نقصانه في الآخر، من خلال العاطفة المُحركة للكون؛ ألا وهي الحب:

"اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ عَلَى قَلْبِكَ كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ. لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ. الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالْهَاوِيَةِ. لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ لَظَى الرَّبِّ. مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ وَالسُّيُولُ لاَ تَغْمُرُهَا. إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَاراً".

لا يعنينا في هذا المقام التفسير اللاهوتي للنشيد، بل إن ما يعنينا هنا - في هذه القراءة العابرة كما نفحة الحُب التي تشبه نور يتخلّل قلب المؤمن بالحب - هو الناسوتي والشعري، رغم احترامنا للتفسيرات اللاهوتية، كي لا تحمّل قراءتنا البسيطة أو بتعبير جَذِلٍ - أثر بوحنا المُترنّح بهذا الشعر المصفى - أكثر مما حلم وهام به العشاق والشعراء إزاء هذا الجمال الفني البادخ كـ "سفر قائم من الناحية الفنية على ما يشبه المناجاة بين عاشق وعاشقة مع خلفية لكورس يتقاطع مع مناجاة الحبيبين":

"قُومِي يَا حَبِيبَتِي يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَي. لأَنَّ الشِّتَاءَ قَدْ مَضَى وَالْمَطَرَ مَرَّ وَزَالَ. الزُّهُورُ ظَهَرَتْ فِي الأَرْضِ. بَلَغَ أَوَانُ الْقَضْبِ وَصَوْتُ الْيَمَامَةِ سُمِعَ فِي أَرْضِنَا. التِّينَةُ أَخْرَجَتْ فِجَّهَا وَقُعَالُ الْكُرُومِ تُفِيحُ رَائِحَتَهَا. قُومِي يَا حَبِيبَتِي يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ. يَا حَمَامَتِي فِي مَحَاجِئِ الصَّخْرِ فِي سِتْرِ الْمَعَاقِلِ. أَرِينِي وَجْهَكِ. أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ لأَنَّ صَوْتَكِ لَطِيفٌ وَوَجْهَكِ جَمِيلٌ".

"مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ مُسْتَنِدَةً عَلَى حَبِيبِهَا؟".

"أَيْنَ ذَهَبَ حَبِيبُكِ أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ؟ أَيْنَ تَوَجَّهَ حَبِيبُكِ فَنَطْلُبَهُ مَعَكِ؟".

"مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ! مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ حَتَّى تُحَلِّفِينَا هَكَذَا!"

"حَبِيبِي أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ. مُعْلَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ. رَأْسُهُ ذَهَبٌ إِبْرِيزٌ. قُصَصُهُ مُسْتَرْسِلَةٌ حَالِكَةٌ كَالْغُرَابِ. عَيْنَاهُ كَالْحَمَامِ عَلَى مَجَارِي الْمِيَاهِ مَغْسُولَتَانِ بِاللَّبَنِ جَالِسَتَانِ فِي وَقْبَيْهِمَا. خَدَّاهُ كَخَمِيلَةِ الطِّيبِ وَأَتْلاَمِ رَيَاحِينَ ذَكِيَّةٍ. شَفَتَاهُ سَوْسَنٌ تَقْطُرَانِ مُرّاً مَائِعاً. يَدَاهُ حَلْقَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ مُرَصَّعَتَانِ بِالزَّبَرْجَدِ. بَطْنُهُ عَاجٌ أَبْيَضُ مُغَلَّفٌ بِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ. سَاقَاهُ عَمُودَا رُخَامٍ مُؤَسَّسَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ إِبْرِيزٍ. طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ. فَتًى كَالأَرْزِ. حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ. هَذَا حَبِيبِي وَهَذَا خَلِيلِي يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيم".

هذا نشيد "مُلهَم" أنزل أزمنة البشر والطبيعة إلى الأرض، إنه نشيد أشبه بحلم هام به العشاق قبل أن يتخلّق الكون وحتى قبل "التكوين"، فدعونا إذن نختلس نظرة عبر كوة العاشق:

"هُوَذَا آتٍ طَافِراً عَلَى الْجِبَالِ قَافِزاً عَلَى التِّلاَلِ. حَبِيبِي هُوَ شَبِيهٌ بِالظَّبْيِ أَوْ بِغُفْرِ الأَيَائِلِ. هُوَذَا وَاقِفٌ وَرَاءَ حَائِطِنَا يَتَطَلَّعُ مِنَ الْكُوى يُوَصْوِصُ مِنَ الشَّبَابِيكِ".

إذن فلنهم مع العاشقَين عبر هذا النشيد "الرعوي" الذي يحتفي بالحب وبالطبيعة بشجرها وحيوانها في تفتحها وقفزها قفز غزالة مسها سهم طائش في مركز القلب إذ يذكر النشيد "واحداً وعشرين نوعاً من النبات وخمسة عشر نوعاً من الحيوان"، أشبه بجوقة خلفية لمشهد الحب في الطبيعة الغناء، إنه "جنّة مُغلقة" حسب تشبيه الحبيب لحبيبته تذكرنا بالجنة الموعودة.

"أَنَا لِحَبِيبِي وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ. تَعَالَ يَا حَبِيبِي لِنَخْرُجْ إِلَى الْحَقْلِ وَلْنَبِتْ فِي الْقُرَى. لِنُبَكِّرَنَّ إِلَى الْكُرُومِ لِنَنْظُرَ هَلْ أَزْهَرَ الْكَرْمُ؟ هَلْ تَفَتَّحَ الْقُعَالُ؟ هَلْ نَوَّرَ الرُّمَّانُ؟ هُنَالِكَ أُعْطِيكَ حُبِّي. اَللُّفَّاحُ يَفُوحُ رَائِحَةً وَعِنْدَ أَبْوَابِنَا كُلُّ النَّفَائِسِ مِنْ جَدِيدَةٍ وَقَدِيمَةٍ ذَخَرْتُهَا لَكَ يَا حَبِيبِي".

نشيد غزل صريح يحتفي بالجسد في أدق تفاصيله بصفته "حسناً جداً" وبصفته "أحسن تقويم". ويحتفي بالجمال كروح هائمة أيضاً عبر جمال اللغة التي تفيض صوراً شعرية مكثفة كثافة مضغة القلب من كثر ما فاض بها الحب جسداً وروحاً وفاضت به:

"مَا أَجْمَلَ رِجْلَيْكِ بِالنَّعْلَيْنِ يَا بِنْتَ الْكَرِيمِ! دَوَائِرُ فَخْذَيْكِ مِثْلُ الْحَلِيِّ صَنْعَةِ يَدَيْ صَنَّاعٍ. سُرَّتُكِ كَأْسٌ مُدَوَّرَةٌ لاَ يُعْوِزُهَا شَرَابٌ مَمْزُوجٌ. بَطْنُكِ صُبْرَةُ حِنْطَةٍ مُسَيَّجَةٌ بِالسَّوْسَنِ. ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْنِ، تَوْأَمَيْ ظَبْيَةٍ. عُنُقُكِ كَبُرْجٍ مِنْ عَاجٍ. عَيْنَاكِ كَالْبِرَكِ فِي حَشْبُونَ عِنْدَ بَابِ بَثِّ رَبِّيمَ. أَنْفُكِ كَبُرْجِ لُبْنَانَ النَّاظِرِ تُجَاهَ دِمَشْقَ. رَأْسُكِ عَلَيْكِ مِثْلُ الْكَرْمَلِ وَشَعْرُ رَأْسِكِ كَأُرْجُوَانٍ. مَلِكٌ قَدْ أُسِرَ بِالْخُصَلِ. مَا أَجْمَلَكِ وَمَا أَحْلاَكِ أَيَّتُهَا الْحَبِيبَةُ بِاللَّذَّاتِ! قَامَتُكِ هَذِهِ شَبِيهَةٌ بِالنَّخْلَةِ وَثَدْيَاكِ بِالْعَنَاقِيدِ. قُلْتُ: «إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى النَّخْلَةِ وَأُمْسِكُ بِعُذُوقِهَا». وَتَكُونُ ثَدْيَاكِ كَعَنَاقِيدِ الْكَرْمِ وَرَائِحَةُ أَنْفِكِ كَالتُّفَّاحِ وَحَنَكُكِ كَأَجْوَدِ الْخَمْرِ. لِحَبِيبِي السَّائِغَةُ الْمُرَقْرِقَةُ السَّائِحَةُ عَلَى شِفَاهِ النَّائِمِينَ".

هناك في عمق الأعماق الذي لا يصل إليه الإنسان نفسه هناك "السر الأقدس"، هناك صوت القلب وهسهسة الحب المختبئة كنار تحت الرماد أو نُشدان القلب إلى جمال عابر لا يوصف.

إن للنشيد جذراً لا نعرفه - هنا لا اقصد الجذور الكنعانية أو السومرية أو الفرعونية كما يرى بعض الباحثين - ذلك لأننا، كما أسلفنا من قبل، نهيم مع العاشقَين فحسب، ونجري معهما جريان الماء في تعرّجاته الرقراقة، وجريان الغزلان مع الوحوش الضارية، جذر الجذور هذا الذي حاولت اللغة من خلاله تصيّد همهمة القلب الأولى، محاولة إجلاس اللغة على حَجْري العاشق والعاشقة، الراعي والراعية شُولَمِّيث:

"كَالسَّوْسَنَةِ بَيْنَ الشَّوْكِ كَذَلِكَ حَبِيبَتِي بَيْنَ الْبَنَاتِ. كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ كَذَلِكَ حَبِيبِي بَيْنَ الْبَنِينَ".

"هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ. عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ. هَا أَنْتَ جَمِيلٌ يَا حَبِيبِي وَحُلْوٌ وَسَرِيرُنَا أَخْضَرُ. جَوَائِزُ بَيْتِنَا أَرْزٌ وَرَوَافِدُنَا سَرْوٌ".

يبدو لي أن النشيد يقول سرّاً في منتهى الوضوح والغموض في آن واحد: إنه السر الأعمق في قِصر الحياة كما في الربيع؛ إذ سرعان ما تتفتّح الزهرة وتذبل، سرعان ما يولد الإنسان ويموت ويبقى الحب منشور الضوء الذي يعبر بنا من الحياة إلى الموت، حين يصير الإلهي والبشري كما السماء والأرض نشيداً واحداً، حين يصير العاشق والمعشوقة واحداً، حين يتناغم الواحد في الكلي، حين كأننا لم نكن سوى قصيدة حُب غنّت بالقلب "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، تغنت بالحب في رحِمه قبل أن يتخلّق، غنت نشيد الإنشاد هذا الذي عبرنا عليه عبور راعٍ على مرعى:

أَسْنِدُونِي بِأَقْرَاصِ الزَّبِيبِ. أَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ فَإِنِّي مَرِيضَةٌ حُبّاً. شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي. أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ الْحُقُولِ أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ!

ما أجمله من نشيد ورب "نشيد الأناشيد"!

المساهمون