نصب بنغالي وفساد نيجيري وجريمة باراغوايانية
أحدث نجوم النصب في زمن كورونا يأتيكم من بنغلاديش هذه المرة. اسمه محمد شهيد وعمره 43 سنة، تمكن خلال الأشهر الماضية من جمع مبالغ تصل إلى 350 ألف دولار أميركي، بعد أن افتتح عدة مراكز لاختبار المصابين بفيروسكورونا المستجد، في عملية نصب مذهلة راح ضحيتها آلاف المواطنين الذين ذهبت العينات المأخوذة منهم إلى الزبالة، وحصل أغلبهم على شهادات مختومة تؤكد عدم إصابتهم بالفيروس، أما القلائل الذين قالت التحاليل المضروبة إنهم مصابون بالفيروس، فقد تركهم النصاب لنصيبهم، ليقوم بعضهم بإعادة عمل التحليل في مراكز محترمة ويكتشف خلوه من الفيروس، ويبقى الآخرون نهباً للذعر والقلق حتى يبان لحكايتهم بيان.
طبقاً لما نشرته صحيفة "ذي ديلي ستار" البنغالية، فقد تمكن النصاب من الفرار عقب انكشاف خدعته بفضل بعض ضحاياه الذين لم يكتفوا بالشك وتسليم أمرهم لله، وقرروا إبلاغ السلطات عنه، وبعد تسعة أيام من حملات البحث عنه، تم القبض عليه وهو يرتدي النقاب أثناء محاولته عبور نهر على المنطقة الحدودية مع الهند، لكن القبض عليه لم يشف غليل ضحاياه الذين طالبوا بالإجابة على سؤال أهم هو: كيف تم السماح لهذا النصاب بفتح عيادة ومراكز للفحوصات استمرت عدة أشهر وتردد عليها الآلاف من المواطنين دون أن يلفت ذلك نظر الأجهزة المسؤولة؟
محاولة الإجابة عن السؤال التي قام بها الصحفي محمد جميل خان قادت إلى مفاجأة أكبر، حيث اتضح أن محمد شهيد لم يكن متخصصاً فقط في النصب الطبي، بل قام منذ سنوات بإنشاء مجموعة شركات تضمها مظلة اسمها (ريجينت جروب)، تعمل في كل شيء تقريباً، من المقاولات إلى النسيج إلى الشحن، وبرغم اختلاف مجالات عمل الشركات، فنموذج البيزنس فيها واحد هو الاعتماد على الشيكات بدون رصيد، والتعامل مع صغار المستثمرين الحالمين بخبطات مربحة، وحين يكتشف هؤلاء المقلب الذي شربوه، وينجحون في العثور على محمد شهيد بعد عناء، يلجأ إلى كارته الأخير والمضمون: التهديد.
لم يحتج محمد شهيد إلى تكوين شبكة علاقات مع كبار المسؤولين ليقوم باستخدامها في تهديد ضحاياه، فيستعوضوا ربنا فيما خسروه، بل اكتفى بتسجيل أسماء كبار المسؤولين في أجهزة الأمن والحكم المحلي والمجالس النيابية على أرقام عدد من أصدقائه وأقاربه، وهي حيلة كان يستخدمها لإيقاع الضحايا في شباكه في البدء، حين يدخلون إلى مكتبه فيجدونه في مكالمة حميمة مليئة بالضحكات والمجاملات، وحين ينهي مكالمته، يري ضحاياه اسم المسؤول أو النائب المسجل على موبايله ويقول لهم إنه كان يتحدث معه بوصفه من أعز أصدقائه، فيشجعه ذلك على قرار تسليمه المبلغ المطلوب، ويرهبه حين يفكر في التوجه إلى الشرطة لكي يشتكيه، لكن يبدو أن الضحايا كانوا معذورين في تصديق وجود علاقات قوية للنصاب المحترف مع المسؤولين، لأنه حين تم القبض عليه في عام 2016 بعد تقديم عدة بلاغات ضده، تم الإفراج عنه بعدها بأسبوع في ظروف مثيرة للريبة، لم يستطع الصحفي أن يتأكد من طبيعتها، ولذلك اختار ألا يتفاءل بالقبض عليه هذه المرة، واكتفى بالتساؤل في ختام حديثه عما إذا كانت المخاطرة بصحة المواطنين خلال الوباء كافية لتكفي الناس شر محمد شهيد، الذي يوجد الكثير من أمثاله في أوطاننا، أولئك الذين يتربحون من الجهل، ولا يصنعهم سوى الفساد وانعدام الثقة في القانون والعدالة.
...
قبل عشرين عاماً، اندلعت في نيجيريا مظاهرات حاشدة وحملات تخريب لأنابيب النفط قام بها آلاف المواطنين الذين تسبب التلوث النفطي في تدمير مزارعهم وتلويث الأنهار التي يعتمدون عليها في الشرب والمعيشة، لتقوم الحكومة النيجيرية في محاولة منها لطمأنة المواطنين، بإنشاء وكالة متخصصة لتطوير وتنمية منطقة دلتا النيجر التي جرت فيها المظاهرات وحملات التخريب، وأوكل إلى الوكالة مهمة تخصيص جزء من عائدات أموال النفط لخلق فرص عمل لأهالي المنطقة والقيام بمعالجة الآثار البيئية التي يتسبب فيها التنقيب عن البترول واستخراجه.
يبدو أن الضحايا كانوا معذورين في تصديق وجود علاقات قوية للنصاب المحترف مع المسؤولين، لأنه حين تم القبض عليه في عام 2016 بعد تقديم عدة بلاغات ضده، تم الإفراج عنه بعدها بأسبوع في ظروف مثيرة للريبة
في محاولة لتقييم عمل تلك الوكالة بعد عشرين عاماً، يرى الكاتب النيجيري أزوبويكي إيشيكويني في مقال نشرت مجلة (ذي ويك) الأميركية مقتطفات منه، أن أهل دلتا النيجر لا زالوا يتعرضون بسبب هذه الوكالة لسرقة الثروات التي كان يجب أن يحصلوا عليها من عائدات النفط المستخرج من أراضيهم، وأن الوكالة أثبتت أنها مجرد مؤسسة بيروقراطية أضيفت إلى ركام المؤسسات الفاسدة التي دمرت حياة ملايين النيجيريين، وإن كانت قد تفردت عن غيرها بتقديم أشكال أكثر فضائحية من الفساد.
للتدليل على أن وكالة دعم سكان دلتا النيجر لم تدعم إلا نفسها ومسؤوليها، أشار الكاتب إلى تقرير أصدرته لجنة برلمانية الأسبوع الماضي كشف أن الوكالة أساءت التعامل مع المبلغ المخصص لتعويضات المواطنين الذين تضرروا من آثار وباء كورونا المستجد، والذي يصل إلى 8 ملايين دولار أميركي، فقام مسؤولو الوكالة بصرف نصف المبلغ على موظفيها الذين يصل عددهم إلى 1272 موظف، والذين حصل بعضهم على مبالغ قدرها 25 ألف دولار أميركي، في نفس الوقت الذي كان فيه مواطنو دلتا النيجر المتضررون من الوباء يسألون الله حق النشوق.
ما يزيد هذا التصرف وقاحة في رأي الكاتب أن مسؤولي الوكالة يعلمون أن حسابات الوكالة تتعرض للتدقيق من الجهات الرقابية، ومع ذلك لم يجدوا مشكلة في تدليع أنفسهم وتقسيم تلك المبالغ الضخمة بينهم، وهو ما يثير الكثير من الأسئلة عما يمكن أن يكشفه المزيد من التدقيق من فضائح، خصوصاً أن ذمة الجهات الرقابية نفسها لا تتمتع بالسمعة الحسنة لدى ملايين النيجيريين المبتلين بالفساد والذين يعانون من الفقر في بلد يحتل المرتبة الثامنة في قائمة الدول المصدرة للنفط، الذي كان الكثيرون يظنونه نعمة، لكنه تحول إلى لعنة لن تنصلح الأحوال إلا بزوالها.
...
في الأسبوع الماضي، تم نبش قبر ديكتاتور باراغواي ألفريدو سترويسنر لأسباب لا علاقة لها بما ارتكبه من جرائم ومظالم خلال فترة حكمه الطويلة، ولكن لكي يتم أخذ عينة من حمضه النووي، بناءً على طلب من محكمة تنظر قضية مرفوعة من رجل اسمه إينريكو ألفريدو فليتاس، يدعي أنه ابن الديكتاتور، وأن والدته السيدة ميشيل فليتاس كانت لديها علاقة سرية وطويلة المدى مع الديكتاتور، وأنه كان ثمرة لتلك العلاقة التي لم يعترف بها الديكتاتور الراحل رسمياً، وبالطبع لا يهدف إينريكو من وراء دعواه إلى نيل شرف نسبته إلى الديكتاتور، وإنما للحصول على نصيبه في ميراثه والذي يتوقع أن يصل إلى عشرين مليون دولار أميركي، وهو مبلغ وجده إينريكو كافياً لفتح ملفات ماضي أمه التي لم تكن العشيقة الوحيدة للديكتاتور، الذي أنجب ثلاثة أبناء من من زوجته الرسمية، لكنه كان معروفاً لدى الجميع بتعدد علاقاته النسائية.
بالطبع لا يهدف إينريكو من وراء دعواه إلى نيل شرف نسبته إلى الديكتاتور، وإنما للحصول على نصيبه في ميراثه والذي يتوقع أن يصل إلى عشرين مليون دولار أميركي
حكم ألفريدو سترويسنير باراغواي من عام 1954 وحتى عام 1989 حيث تمت إطاحته بانقلاب عسكري، ليذهب للإقامة في منفاه الاختياري في البرازيل التي عاش فيها حتى وفاته في عام 2006 بعد مضاعفات أعقبت عملية جراحية، وتم دفنه في مدينة برازيليا التي شهدت أخيراً نبش قبره، بعد أن وافقت على ذلك ابنته جراسييلا آخر من بقي حياً من ذريته.
كان ألفريدو ستروسنر من أبرز زعماء أميركا اللاتينية المشتركين في خطة (كوندور) التي دعمتها المخابرات المركزية الأميركية رسمياً بدءاً من نهاية الستينات وحتى أواخر الثمانينيات للقضاء على المعارضين اليساريين، بدعوى مكافحة الشيوعية ووقف النفوذ السوفيتي في أميركا اللاتينية، وهو ما نتج عنه ضحايا يقدر عددهم بحوالي 60 ألف مواطن من أبناء البرازيل والأرجنتين وتشيلي وأوروغواي وبوليفيا وباراغواي التي كانت آخر تلك الدول في فتح ملفات الجرائم المرتكبة في عهد ديكتاتورها الرهيب، حيث تشكلت لجنة الحقيقة والعدالة متأخراً مقارنة بنظيراتها في باقي الدول، لتقول اللجنة في تقرير صدر عام 2008 إن عدد المتضررين من حكم سترسنر تجاوز العشرين ألف مواطن ما بين قتيل ومصاب وسجين ومنفي ومفقود.
كانت سيرة ديكتاتور باراغواي قد انفتحت العام الماضي في سياق له علاقة بالقبور أيضاً، حيث فتحت السلطات في باراغواي تحقيقاً رسمياً بعد اكتشاف جماجم وعظام بشرية في أرضية حمام يقع في منزل مهجور كان يملكه سترويسنر في مدينة تقع على الحدود مع البرازيل، لتقرر السلطات بعدها نبش أرض المنزل والأرض الضخمة المحيطة به والتي تبلغ مساحتها 12 هكتاراً، وكانت العظام قد اكتشفت بالصدفة على يد مشردين سكنوا في منزل الديكتاتور الذي كان معروفاً عنه حرصه على حضور تعذيب معارضيه بنفسه في مقرات أجهزته الأمنية، ليكون ذلك الحادث سبباً في فتح ملفات مئات المعارضين السياسيين الذين اختفوا في ظروف غامضة خلال فترة حكمه الطويلة، في حين يصل عدد الذين تم التأكد من قتلهم إلى 450 مواطن، لم يحصل أي من ذويهم على أي تعويضات من ثروته التي يطمع فيها ابنه غير الشرعي، ولله في خلقه شئون.