نصف الكأس الفارغ
مرت أكثر من ثلاث سنوات على وصول حزب العدالة والتنمية المغربي إلى الحكومة، على ظهر الحراك العربي، الذي كسر الجمود السياسي والتف حول عنق المغرب، وجعل المملكة تدخل، تدريجياً، إلى نادي الاستبداد الناعم. وعلى الرغم من مرور هذه السنوات الثلاث، يلاحظ على الحكومة أن رئيسها، عبد الإله بنكيران، مشغول بأربع قضايا، ليس منها تحديث نظام الحكم وتوفير ضمانات عدم الرجوع إلى الوراء. مشغول، أولا، بتطبيع علاقة حزبه مع القصر الملكي والدولة العميقة، وتجاوز سوء الفهم الذي ساد سنوات طويلة بين الإسلاميين والبلاط. وإذا كان هذا الهاجس مفهوماً، في ضوء ما وقع للإخوان المسلمين في مصر، وانتعاش الثورات المضادة في المنطقة، باعتبار أن هذا التطبيع بين الحكومة والدولة العميقة الزيت الذي سيسمح للمحرك السياسي بالاشتغال بسلاسة، فإن جعل التطبيع الهدف الأول والأخير للعمل السياسي لا يساعد على التقدم في ملفات أخرى، سياسية وحقوقية واجتماعية.
بنكيران مشغول، كذلك، بالتوازنات المالية للدولة، وتقليص عجز الموازنة والدين العمومي، وإعادة النظر في سياسة دعم المحروقات والمواد الأساسية الموروثة عن العهد السابق. وإذا كان هذا الانشغال مفهوماً، بل ومطلوب، لأن الصحة المالية للدولة جزء من استقلالية قرارها الاقتصادي، واستقرارها السياسي، فإن اقتصار عمل الحكومة على (الترقيع) من دون التوفر على خطة كاملة للتنمية، وعلى برامج مهيكلة للاقتصاد المغربي، يجعل الحكومة جهازاً تكنوقراطياً أكثر منها حكومة سياسة منتخبة، لها اختيارات كبيرة وحاسمة في المستقبل الاقتصادي للبلد.
بنكيران مشغول، أيضاً، بالحفاظ على قوة حزبه وتوسيع نفوذه ورعاية شعبيته، بالتواصل القريب مع الناس بلغتهم. وإذا كان التسويق السياسي جزءاً من العمل السياسي، فإنه لا يجب أن يعوض التواصلُ القرارَ، والكلامُ الفعلَ، والصورةُ الحقيقةَ. يحاول رئيس الحكومة أن يعوّض ما يخسره في القرار العمومي بالتواصل الشعبي. فمثلاً، عوض أن يحارب الفساد في الدولة بالقضاء، يلجأ إلى التشهير به شفوياً وشن الحملات الإعلامية على المفسدين، من دون تسميتهم، أو المس بمصالحهم.
بنكيران مهموم كذلك ببقاء يده، وأيدي وزرائه، نظيفة في الحكومة، وهو حريص على هذا الأمر، لأنه يعرف حساسية الرأي العام تجاه الفساد، خصوصاً فساد الطبقة السياسية، لكن هذا الحرص لدى بنكيران لا يُقابل بسياسة عمومية، لمحاربة الريع والاحتكار في السوق. حرصه الشديد على عدم الاصطدام بمراكز القرار يجعله يقف متفرجاً على فساد كبير ينخر الدولة. أكثر من هذا، اعترف، أمام الرأي العام، بأن الفساد هو الذي يحاربه، وليس هو من يحارب الفساد، وهذا طبيعي، لأن الفساد مثل الفيروس، إذا لم تقتله قتلك.
هذه هموم بنكيران الأربعة، ليس من بينها، مثلاً، الاحترام التام لحقوق الإنسان وحرية الصحافة والتعبير وتأسيس الجمعيات، أو توطيد أركان دولة الحق والقانون واستقلال القضاء، أو إصلاح أجهزة الأمن، وصولاً إلى الحكامة الأمنية، وإخراج وزارة الداخلية من جبة السياسة إلى جبة الإدارة، أو تطبيق الدستور المغربي بحذافيره وتطوير نصوصه في اتجاه تحديث نظام الحكم، ليقترب، ولو تدريجياً، من الأنظمة الملكية الأوروبية، حيث الجالس على العرش يسود ولا يحكم.
أعرف أن هذه أوراش كبيرة ومعقدة، وتحتاج وقتاً أطول ونفساً وذكاء وإرادة، وهي من مهام جميع الأطراف، وليس الحكومة وحدها. لكن، لابد من إعطاء إشاراتٍ على أن هذه المطالب حاضرة في جدول أعمال السياسة في المغرب. وما يجب الانتباه إليه هو أن المكتسبات التي تحققت مع هذه الحكومة التي جاءت في ظرف استثنائي إذا لم تسجل، وتحفظ في السجل الديمقراطي، فإن التراجع عنها سيكون سهلاً وميسراً. وبذلك، سيغلق القوس الحالي، ويفتح آخر لا علاقة له بما سبق. وآنذاك، سيعض الجميع على أصابعه ندماً على عدم استغلال زمن الإصلاح القصير.