14 نوفمبر 2024
نقابة الصحفيين... مصر تحاصر حصارها
تخوض نقابة الصحفيين في مصر، منذ تأسيسها في منتصف الأربعينيات، معاركها، بداية من حق الصحفيين في تنظيم أنفسهم وإنشاء نقابتهم، وصولا لتشييد مقرّها بموقعه الحالي في شارع عبد الخالق ثروت في وسط القاهرة، والذي كانت تشغله القوات الإنجليزية، وصولاً إلى إقرار لائحة تضمن ظروف عمل عادلة ومناسبة، كحرية الرأي والتعبير وإزالة القيود عن الصحافة والتصدّي لوقف صدورها أو مصادرتها، وكذلك ضمان لائحة أجور عادلة، وهي الأهداف التي ناضل الصحفيون من أجلها ومازالوا، حين عرض مشروع قانون إنشاء نقابة على مجلس الشيوخ المصري، في ظل نظام الملكية والاحتلال الانجليزي، أراد نواب المجلس تقيد عملها، وطالبوا بحظر اشتغال الصحفيين بالسياسة، أما مجلس النواب الحالي فيتبنى أغلب أعضائه الموقف نفسه، بل هناك مواقف أكثر عنفاً واستبداداً وكرهاً للصحافة والصحفيين.
قبل إنشاء النقابة ومعارك الصحفيين ممتدة، دفاعاً عن الوطن والشعب، وبعد إنشائها خاض الصحفيون معاركهم، مواقف وطنية ثابتة من أجل التحرّر الوطني، وكفاحاً مستمراً ضد الاستبداد على مر العصور، لم تفترق الحركة الوطنية والحركة الاجتماعية عموماً عن مجال الصحافة، وعن نقابة الصحفيين، وارتبطت كل الحركات السياسية على تنوعها بالمهنة، حتى الحركات النوعية، كالحركة النسوية، كانت لها محطاتها المضيئة بين جدران النقابة، واشتبكت في علاقتها وحركتها مع الصحفيين، أصدرت الحركة النسائية صحفاً تحدثت باسمها، وربطت بين تحرير النساء وتحرير الوطن، هل يمكن نسيان مواقف درية شفيق التي اعتصمت في مقر النقابة، مطالبة بحق النساء في المشاركة السياسية، واستمرت حركتها مقتحمة مجلس النواب هي وألف فتاةٍ من رفيقتها، رافعة شعارات العدالة والمساواة والديمقراطية، وهي نفسها الصحفية المناضلة التي رفضت سياسات عبد الناصر غير الديمقراطية، على الرغم من تأييدها الخطوات الإيجابية لثورة يوليو 1952.
امتد نضال الصحفيين، ولم تكسر نقابتهم سنوات الحصار أو التضييق أو السيطرة عليها من نخب انحازوا لحكم الاستبداد والتبعية، فمن جدرانها امتد دعم القضية الفلسطينية منذ الخمسينيات وحتى الانتفاضة الثانية، كما لعب الصحفيون، وخصوصوا اليساريين، دوراً ضد اتفاقية كامب ديفيد، ورفضوا محاولات فرض التطبيع وترويجه، وعزلوا أصحاب تلك الدعاوي، وكانت النقابة، طوال العقد الماضي، إطارا جامعا للتيارات الفكرية المصرية، وتجاوزت النقابة محاولات السيطرة عليها من الدولة، بل احتضنت النقابة الحراك الاجتماعي بتنوعاته، فساندت مطالب الحركة العمالية والفلاحية، و كانت، في أوقات عديدة، بيتاً للمطالبين بالحرية والعدالة، وشهدت جدرانها فعالياتٍ ضد التمييز الطبقي والطائفي. ببساطة، كانت النقابة مسرحا لهموم الوطن، ولم تفسدها محاولات الاستمالة، ولم تقع فريسة لكتاب السلطة، ولن تصبح مستقبلا بوقا للسلطة، حتى وإن تراجع دورها.
.. في نهاية شهر إبريل/ نيسان الماضي، تم القبض على صحفيّيْن من مقر نقابتهما بالتهم
القديمة التي تلفقها أجهزة الأمن، كإشاعة معلوماتٍ من شأنها تكدير الأمن العام، ومحاولة قلب نظام الحكم والانضمام إلى إحدى المنظمات التي تبغي تعطيل الدستور والقوانين وتضر بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي. وفى نهاية مايو/ أيار، ولاول مرة فى تاريخ النقابات المهنية، يتم احتجاز ثلاثة من أعضاء مجلس النقابة، وهم خالد البلشي وجمال عبد الرحيم والنقيب يحيى قلاش، وخلال أسبوع واحد، يتم تحويلهم إلى المحاكمة، بتهم التستر وإيواء متهميْن مطلوبين للتحقيق، وقد أتت الاتهامات على خلفية المشهد الاحتجاجي ضد تنازل مصر عن جزيرتي صنافير وتيران للسعودية، والذي سبقته احتجاجات عدة ضد ممارسات الداخلية، لا تريد السلطة أن يكون لأحد صوت مختلف عنها، أو أي احتجاج ضدها، ولا تجد أمامها سبيلا سوى القمع، حتى لا يتفجر الوضع، خصوصاً وأن احتجاجات العمال بدأت تعود، وتراجع ظروف الفلاحين اقتصادياً واجتماعياً، يؤهل لصعود حركة احتجاجية بين صفوفهم. وبالتأكيد، سيترك ارتفاع الأسعار الذي لن تكون أسعار الدواء المحطة الأخيرة فيه الأمر اشتعالاً. ومستقبلاً تنوي السلطة إقرار ضريبة القيمة المضافة، وستعرض، مرة أخرى، على البرلمان، قانون الخدمة المدنية الذي سيقلص رواتب العاملين في الدولة، ويسمح، في الوقت نفسه، بتسريح عدد منهم، كما سيقدم، في يونيو/ حزيران، أيضا لمجلس النواب، قانون النقابات العمالية الذي سيحد من حركتها.
إذن، إنها ليست معركة نقابة الصحفيين فحسب، بل رغبة السلطة في استهداف الأصوات المعارضة التي بدأت تعلو وتتصاعد حركتها. من هنا، يمكن فهم أن الحصار الذي فرض على النقابة رسالة للطبقة الوسطى التي بدأت تتململ من المناخ المعادي للحرية، ومن الإجراءات الاقتصادية التي بدأت تمسها، ويحمل أيضاً رسالة بأنه ليس مسموحاً للنقابة العودة إلى دورها القديم في احتضان الحركة الاحتجاجية، كما أن الرسالة ليست موجهة لنقابة الصحفيين وحسب، بل كل النقابات، فقد حذر عبد الفتاح السيسي، في أحد خطاباته، من اشتباك النقابات مع الأحداث السياسية، وتزامن تحذيره مع احتجاجات الأطباء الحاشدة في جمعيتهم العمومية ضد ممارسات وزارة الداخلية.
وعلى الرغم من أن بعض الصحافيين النقابين استجابوا لدعوة السلطة، وأقاموا اليوبيل الماسي تحت رعاية الرئيس السيسي، إلا إن هذا لم يكن كافياً، فحاصر النظام النقابة، بعد مظاهرات الاحتجاج على بيع الجزرتين.
وفي أثناء حصار النقابة، برز شباب الصحفيين، وخصوصا جيل الثورة صف دفاع أول، وانضم إلى الحراك المناهض للحصار حتى الصحفيين غير النقابيين، على الرغم من أن النقابة لم تدافع بشكلٍ مناسب عن حقهم فى التعيين، ولم تأخذ مواقف جادة حيال تعرّض بعضهم للقمع أو السجن، وقف شباب الصحفيين، وشجعوا زملاءهم من أصحاب المواقف المترددة لمواجهة الاعتداء والحصار على نقابتهم، منهم من جمع عرائض احتجاج، ومن اعتصم مواجها عسف الأمن واعتداءات أتباعهم المأجورين بالمال، استطاعت الشابات الصحفيات والشباب الدعوة والحشد ضد الحصار، لكن ضعف بنى القوي الاجتماعية المؤيدة للصحفيين، وتراجع دور النقابة، في العامين الماضيين، أضعف موقفها، ولم تستطيع فرض مطالبها باعتذار مؤسسة الرئاسة، وإقالة وزير الداخلية، إثر اقتحام النقابة. وكشفت المعركة عن ضعف القوى السياسية والنقابية، على الرغم من الدعم الذي قدموه للصحفيين. من جانبها، حاولت ومازالت تحاول السلطة شق صفوف الجماعة الصحفية بتأسيس ما سميت "جبهة تصحيح المسار"، والذي تتزعمه نخب صحفية، ينتمي أغلبها إلى سلطة حسني مبارك، وكذلك شكلت السلطة مجموعاتٍ مشابهةً مؤيدة لها، بشكل مطلق داخل نقابات الأطباء والمهندسين، بغرض إبعاد النقابات عن المجال العام وتفريغها من أي قوى ديمقراطية تسعى إلى التغيير.
على الرغم مما يبدو من إخفاق فى معركة الصحفيين مع الاستبداد، إلا أنها عادت بهذه المواجهة النقابة إلى دورها في مواجهة قوى التسلط. وثمة عشر سنوات تفصل بين الأربعاء الأسود في مايو/ أيار 2005 والذي شهد اعتداء بلطجيي الأمن على متظاهري حركة كفاية على سلالم نقابة الصحفيين، وأربعاء الكرامة 2016، اليوم الذى قالت فيه الجمعية العمومية للصحفيين للاستبداد لا، ورفضت اقتحام النقابة والاعتداء على الصحفيين. وعلى الرغم من مرور عشر سنوات، إلا أن السلطة تستخدم الأساليب نفسها، فتستأجر بلطجية لتعتدي على معارضي النظام من الصحفيين وقادة الرأي والسياسيين والنقابيين، والصحفيين والقوى الاجتماعية والسياسية، لتحاصر حصارها المضروب على المجال العام. ومع تطور الأحداث، تغير بعض النخب الذين ظنوا أنهم بعيدون عن يد الاستبداد موقفها. ويعود النظام ليستخدم شعارات التخوين والمؤامرة ضد الجميع، سياسيين وصحافيين ومنظمات مجتمع مدني ونقابيين.
قد يقول بعضهم إن المعركة نقابية وحسب، وانجر الصحفيون فيها إلى أتون السياسة. وهذا المنطق سليم شكلاً، وخطأ من حيث مضمونه، فعلى الرغم من أن أغلب المطالب نقابي، إلا أن كل ما يحيط بها سياسي، بداية من الاقتحام والحصار، إلى التضييق على وسائل الإعلام ومصادرة الصحف، والقبض على صحفيين، أضف إلى ذلك أن كسر تفتيت النقابات، وأي تنظيمات، هو هدف ضمن مشروع السلطة. وينطلق من رفض أي تجمع أو تنظيم. يرى بعضهم أن هناك تجمعات على أساس مهني غير سياسي وغير طبقي. لكن، في أتون معارك التغيير التي تمر بها مصر منذ الثورة، لا يمكن الفصل بين المهني والطبقي والسياسي.
باختصار، إنها قضية حرية الصحافة والتجمع والتنظيم النقابي، إنها حيوية المجال العام التي لا تريد دولة القمع أن تعود مرة أخرى، ولو حتى على سلالم نقابة الصحفيين.
امتد نضال الصحفيين، ولم تكسر نقابتهم سنوات الحصار أو التضييق أو السيطرة عليها من نخب انحازوا لحكم الاستبداد والتبعية، فمن جدرانها امتد دعم القضية الفلسطينية منذ الخمسينيات وحتى الانتفاضة الثانية، كما لعب الصحفيون، وخصوصوا اليساريين، دوراً ضد اتفاقية كامب ديفيد، ورفضوا محاولات فرض التطبيع وترويجه، وعزلوا أصحاب تلك الدعاوي، وكانت النقابة، طوال العقد الماضي، إطارا جامعا للتيارات الفكرية المصرية، وتجاوزت النقابة محاولات السيطرة عليها من الدولة، بل احتضنت النقابة الحراك الاجتماعي بتنوعاته، فساندت مطالب الحركة العمالية والفلاحية، و كانت، في أوقات عديدة، بيتاً للمطالبين بالحرية والعدالة، وشهدت جدرانها فعالياتٍ ضد التمييز الطبقي والطائفي. ببساطة، كانت النقابة مسرحا لهموم الوطن، ولم تفسدها محاولات الاستمالة، ولم تقع فريسة لكتاب السلطة، ولن تصبح مستقبلا بوقا للسلطة، حتى وإن تراجع دورها.
.. في نهاية شهر إبريل/ نيسان الماضي، تم القبض على صحفيّيْن من مقر نقابتهما بالتهم
إذن، إنها ليست معركة نقابة الصحفيين فحسب، بل رغبة السلطة في استهداف الأصوات المعارضة التي بدأت تعلو وتتصاعد حركتها. من هنا، يمكن فهم أن الحصار الذي فرض على النقابة رسالة للطبقة الوسطى التي بدأت تتململ من المناخ المعادي للحرية، ومن الإجراءات الاقتصادية التي بدأت تمسها، ويحمل أيضاً رسالة بأنه ليس مسموحاً للنقابة العودة إلى دورها القديم في احتضان الحركة الاحتجاجية، كما أن الرسالة ليست موجهة لنقابة الصحفيين وحسب، بل كل النقابات، فقد حذر عبد الفتاح السيسي، في أحد خطاباته، من اشتباك النقابات مع الأحداث السياسية، وتزامن تحذيره مع احتجاجات الأطباء الحاشدة في جمعيتهم العمومية ضد ممارسات وزارة الداخلية.
وعلى الرغم من أن بعض الصحافيين النقابين استجابوا لدعوة السلطة، وأقاموا اليوبيل الماسي تحت رعاية الرئيس السيسي، إلا إن هذا لم يكن كافياً، فحاصر النظام النقابة، بعد مظاهرات الاحتجاج على بيع الجزرتين.
وفي أثناء حصار النقابة، برز شباب الصحفيين، وخصوصا جيل الثورة صف دفاع أول، وانضم إلى الحراك المناهض للحصار حتى الصحفيين غير النقابيين، على الرغم من أن النقابة لم تدافع بشكلٍ مناسب عن حقهم فى التعيين، ولم تأخذ مواقف جادة حيال تعرّض بعضهم للقمع أو السجن، وقف شباب الصحفيين، وشجعوا زملاءهم من أصحاب المواقف المترددة لمواجهة الاعتداء والحصار على نقابتهم، منهم من جمع عرائض احتجاج، ومن اعتصم مواجها عسف الأمن واعتداءات أتباعهم المأجورين بالمال، استطاعت الشابات الصحفيات والشباب الدعوة والحشد ضد الحصار، لكن ضعف بنى القوي الاجتماعية المؤيدة للصحفيين، وتراجع دور النقابة، في العامين الماضيين، أضعف موقفها، ولم تستطيع فرض مطالبها باعتذار مؤسسة الرئاسة، وإقالة وزير الداخلية، إثر اقتحام النقابة. وكشفت المعركة عن ضعف القوى السياسية والنقابية، على الرغم من الدعم الذي قدموه للصحفيين. من جانبها، حاولت ومازالت تحاول السلطة شق صفوف الجماعة الصحفية بتأسيس ما سميت "جبهة تصحيح المسار"، والذي تتزعمه نخب صحفية، ينتمي أغلبها إلى سلطة حسني مبارك، وكذلك شكلت السلطة مجموعاتٍ مشابهةً مؤيدة لها، بشكل مطلق داخل نقابات الأطباء والمهندسين، بغرض إبعاد النقابات عن المجال العام وتفريغها من أي قوى ديمقراطية تسعى إلى التغيير.
على الرغم مما يبدو من إخفاق فى معركة الصحفيين مع الاستبداد، إلا أنها عادت بهذه المواجهة النقابة إلى دورها في مواجهة قوى التسلط. وثمة عشر سنوات تفصل بين الأربعاء الأسود في مايو/ أيار 2005 والذي شهد اعتداء بلطجيي الأمن على متظاهري حركة كفاية على سلالم نقابة الصحفيين، وأربعاء الكرامة 2016، اليوم الذى قالت فيه الجمعية العمومية للصحفيين للاستبداد لا، ورفضت اقتحام النقابة والاعتداء على الصحفيين. وعلى الرغم من مرور عشر سنوات، إلا أن السلطة تستخدم الأساليب نفسها، فتستأجر بلطجية لتعتدي على معارضي النظام من الصحفيين وقادة الرأي والسياسيين والنقابيين، والصحفيين والقوى الاجتماعية والسياسية، لتحاصر حصارها المضروب على المجال العام. ومع تطور الأحداث، تغير بعض النخب الذين ظنوا أنهم بعيدون عن يد الاستبداد موقفها. ويعود النظام ليستخدم شعارات التخوين والمؤامرة ضد الجميع، سياسيين وصحافيين ومنظمات مجتمع مدني ونقابيين.
قد يقول بعضهم إن المعركة نقابية وحسب، وانجر الصحفيون فيها إلى أتون السياسة. وهذا المنطق سليم شكلاً، وخطأ من حيث مضمونه، فعلى الرغم من أن أغلب المطالب نقابي، إلا أن كل ما يحيط بها سياسي، بداية من الاقتحام والحصار، إلى التضييق على وسائل الإعلام ومصادرة الصحف، والقبض على صحفيين، أضف إلى ذلك أن كسر تفتيت النقابات، وأي تنظيمات، هو هدف ضمن مشروع السلطة. وينطلق من رفض أي تجمع أو تنظيم. يرى بعضهم أن هناك تجمعات على أساس مهني غير سياسي وغير طبقي. لكن، في أتون معارك التغيير التي تمر بها مصر منذ الثورة، لا يمكن الفصل بين المهني والطبقي والسياسي.
باختصار، إنها قضية حرية الصحافة والتجمع والتنظيم النقابي، إنها حيوية المجال العام التي لا تريد دولة القمع أن تعود مرة أخرى، ولو حتى على سلالم نقابة الصحفيين.