14 نوفمبر 2024
نقاش لم يحصل حول قضية زياد دويري
ليست جديدة قضية زياد دويري وإقامته في إسرائيل بين العامين 2010 و2011 لإنجاز شريطه "الصدمة". في العام الماضي، انتبه صحافي ممانِع للموضوع، وكتب عنه مقالاً، في الجريدة الممانِعة. وقبل أيام، كرّر الصحافي المقال نفسه، بالكاد نقّحه؛ تناول فيه تلك الإقامة نفسها لزياد دويري في إسرائيل، بالعبارات التخوينية نفسها، بالدعوة الملحّة إلى الاعتذار، بالإلحاح على العدالة أن "تطلبه" وتحاكمه... إلخ. قبل سنة، لم يجد الكاتب الممانع صدى "رسمياً". مرّ مقاله على الأجهزة المختصة مرور الكرام. لكن هذه المرة، أصابت دعوته، فأوقف دويري في المطار وصودر جوازَا سفره، اللبناني والفرنسي، وأحيل إلى المحكمة العسكرية، ليخرج منها "بريئاً، لا نية لديه بالإضرار بالقضية الفلسطينية". وإنما الأعمال بالنيَّات...
لماذا استجابت الأجهزة الأمنية لدعوة الصحافي الممانع الآن، بعدما تجاهلته قبل سنة؟ "الانتصارات" التي حققها حزب الله في جرود عرسال، والحملة الإعلامية التهويلية التي خاضها رئيس تحرير جريدته، ضد كل من تسوّل له نفسه إنكار هذه "الانتصارات"... هل هي الأصل "المعنوي" لهذه الاستجابة؟ هل تمّت هذه الأخيرة على وقع "الانتصارات"، فكان توقيف "المتعامل" اعترافاً بها؟
ولكن، عندما طرح أحد الصحافيين عليه السؤال الذي حضر في كل الأذهان: "لماذا صوّرتَ فيلمك في إسرائيل؟ وليس في أي بلد آخر"؟ أجابه دويري بأن ضرورات الفيلم فرضت ذلك، أي المشاهد ولغة الإعلانات والبحر... إلخ. طبعاً الإجابة غير مقنعة على الإطلاق؛ إذ يعرف كل مبتدئ بتصوير الأفلام أن المحيط الخارجي يمكن اختراعه، ولن تجد أشطر من السينما لفعل ذلك. ويعرف دويري أيضاً أن فيلمه ليس وثائقياً، إنما روائي، مستوحى من رواية لياسمينة خضرا؛ أي أن تصويره يتم في المكان الذي تحصل فيه وقائع الرواية السينمائية، ليس بالضرورة مكانها الفيزيائي. ولكن ردّ دويري والهمروجة التي أحدثها السجال العنيف لم يمكِّنا المتابع من معرفة الأسباب الحقيقية لمكوث دويري في إسرائيل مدة تقارب السنة. هل حجّته "المكانية" هي فقط برسم من هو مستعد لتصديقها؟ هل لتسويقه فيلمه يطرق أبوابا إسرائيلية؟ أم ان الإسرائيليين هم الذين طرقوا بابه، وبلطفٍ بالغ، فلم يتمكّن هو من مقاومة الإغراء؟ وهل الفيلم، بالتالي، حظي بدعم إسرائيلي في الإنتاج والإخراج والتمثيل؟ ومن أية جهة إسرائيلية؟ حكومية؟ حزبية؟ مدنية؟
الذين وقفوا ضد الصحافي الممانِع والتخوينيين المعتادين ساهموا بهذه الضبابية. بسرعة البرق،
استنفروا وأصدروا بياناً يضجّ بالكليشهات الجاهزة التي لا تختلف عن مضامين بيانات سابقة نظيرة لها. قالوا إن توقيف دويري اضطهاد لـ"حرية الإبداع". وليس أي مبدع "محلي" مغمور؛ إنما مبدع يعترف به الغرب، يمنحه الجوائز...
صحافي من بين المتحمسين لدويري صعد إلى الشاشة الصغيرة، وأخذ يطلق صرخات المراهقين: نعم، دويري خالف القانون اللبناني، و"شو يعني...؟!"، الجميع يخالف القانون في لبنان؛ مثلاً، قانون تعدّد الزوجات الذي تعترض عليه النساء. فإذا كان للنساء حق بالاعتراض على القانون، أليس للمبدع الحق نفسه؟ فلم يوفّق بحجته. فلو كان للنساء أن يخالفن هذا القانون، كما خالف دويري قانونا آخر، عليهن خرقه بالزواج بأكثر من رجل... والحماسة نفسها لم تلْهمه، في لحظة أخرى من حديثة التلفزيوني: في معرض وصفه "حرماننا" من ترجمة الإنتاج الأدبي الإسرائيلي، انزلق مرة أخرى فأعلن أن "رائعة" الأديب الإسرائيلي عاموس عوز "قصة عن الحب والظلام" مُنعت ترجمتها إلى العربية. فيما هذه الرواية صادرة بالعربية عن دار الجمل منذ العام 2010.
وهذه ليست أعظم إشكاليات الردود على الصحافي والصحافة الممانعّين، والدفاع عن دويري. فحيثية الإبداع والتقدير الغربي، والجوائز الغربية... تطرح التساؤلات التي لا بد منها: هل هي تعني أن المبدعين وحدهم يحق لهم خرق القانون؟ وأن على المواطن البسيط احترامه؟ وهل الشهرة المستمدّة من الغرب تُعلي شأن المبدع، فترفعه درجةً عن غيره من أقرانه، فتسامحه وتتيح له حرية الخرق مرتين، بقدر وجاهة حيثياته ورفعتها؟ بل، هل هذه الشهرة، ذات المنْبت الغربي، شهادة ناصعة، بريئة من كل اعتبار؟ ألا تشبه هذه الحجة التشبيح "بانتصارات حزب الله"؟ تشبيح بالسلاح يقابله تشبيح بإبداع وشهرة غير موثوقَين؟
يستنكر الممانعون تبرئة دويري في المحكمة العسكرية، فيقولون إنهم "فهموا لماذا أوقف"، لكنهم لم "يفهموا كيف أُطلق سراحه". والحال أن السؤال المقلوب هو أيضاً يداعب الغموض: هناك من فهم "لماذا أطلق سراح دويري"، لكنه "لم يفهم كيف أوقف". سؤال يحيلنا إلى قلب الموضوع القانوني. زياد دويري أطلق سراحه كواليسياً، كما أوقف كواليسياً، بفضل توازن القوى بين حزب الله والباقين، الأضعف منه، ممن يشاركونه الحكم. القانون بمنع التعامل مع إسرائيل موجود من زمان. وإذا كان بحاجة إلى الإلغاء أو التطوير، أو الشرح، أو التعديل، كأن يُسمح لفلسطينيي إسرائيل بالدخول إلى بلادنا، أو يُفتح باب المعرفة العلنية بكل ما يخص إسرائيل، من الثقافة إلى العسكر... فهذا من صميم وظائف نواب الأمة. وفي أحوال طبيعية، يوضع هذا القانون على بساط البحث التشريعي، بعد حوادث أو ضغوط أو مطالبات شعبية. والمحطات الثقافية المتعاملة مع موضوع التطبيع كثيرة، ولها صدى إعلامي واسع. ومع ذلك، لماذا لا يُناقش البرلمان اللبناني هذا القانون؟ لماذا لم يقمْ بواجبه؟ هل فقط لأن البرلمان معطّل
منذ ثماني سنوات، لا يشرّع إلا لما يمدِّد لرجالاته؟ ولأن أعضاءه من النواب أنفسهم يخالفون جلّ القوانين؟ علانية وخلف الكواليس؟ إذا كان حزب الله هو الأب الفكري لهذا الخرق، عبر إنشاء دويلته، وعدالته وسجونه الخاصة... فهل يأخذ خصومه حقهم منه بممارسة تعطيل مماثل في مجالات أخرى، فيقبضون بذلك ثمن تغاضيهم عن خروقاته؟ وفي هذه الحالة، ما الذي يردع أي مواطنٍ بسيط، وليس "مبدعا مشهوراً"، عن خرق القانون؟
هذه المعْمعة القانونية والإعلامية هي وصف لحال لبنان نفسه: تبرز على سطحه مسألة نارية، يستنفر من أجلها إعلاميون وكتاب وفيسبوكيون، كلٌ خلف متاريسه، يشعلون مجالاتهم بالقدح والذم. ثم تنتهي القصة بانتظار جديدةٍ لن تكون أكثر ديمومةً منها... وكأن ذاكرة البلاد أوتوماتيكية، كبْسة زر. هكذا انتهت الزوبعة الهستيرية الأخيرة التي لم تزد ولم تنقص شيئاً. راوحت مكانها، ثم نامت...
وحده زياد دويري ربح المعركة. فاضت شهرته، وكثرت شكواه إلى الصحافة الغربية عن "القمع الذي يلاقيه المبدع في بلده الأم" (مهرجان تورنتو للسينما). والأكثر من ذلك، لاقى فيلمه الجديد "القضية 23" اسقبالاً جيداً من جمهور حرّكه الفضول... فتضخم بذلك رأسماله الرمزي، واعتبر نقاد سينمائيون فيلمه هذا "تحفة سينمائية"... فيما هو، أي الفيلم، افتعال قضية وممثلين وسيناريو، لم ينجُ منه إلا الممثل الفلسطيني كمال باشا. وهو في النهاية فيلم "كان يمكن تفاديه" على حد قول شاعر. وإذا ما قارنته بفيلمه الأول "بيروت الغربية" (1998)، سوف يلحّ عليك سؤال: ما الذي يحصل لسينمائيين، أو كتاب، بعدما يفوز عملهم الأول بالنجاح؟ لماذا تتراجع موهبتهم التي وعدت بالأفضل عند نضوجها؟ وهل يحتكر المبدع العربي هذه "المسيرة"، أم إنه يتقاسمها مع مبدعين من جنسيات أخرى؟ أو، هل كنا أصلاً، بصدد مبدع؟ أم خُدعنا بعمله الأول؟ كما سبق وخُدعنا بومْضاتٍ أخرى؟
لماذا استجابت الأجهزة الأمنية لدعوة الصحافي الممانع الآن، بعدما تجاهلته قبل سنة؟ "الانتصارات" التي حققها حزب الله في جرود عرسال، والحملة الإعلامية التهويلية التي خاضها رئيس تحرير جريدته، ضد كل من تسوّل له نفسه إنكار هذه "الانتصارات"... هل هي الأصل "المعنوي" لهذه الاستجابة؟ هل تمّت هذه الأخيرة على وقع "الانتصارات"، فكان توقيف "المتعامل" اعترافاً بها؟
ولكن، عندما طرح أحد الصحافيين عليه السؤال الذي حضر في كل الأذهان: "لماذا صوّرتَ فيلمك في إسرائيل؟ وليس في أي بلد آخر"؟ أجابه دويري بأن ضرورات الفيلم فرضت ذلك، أي المشاهد ولغة الإعلانات والبحر... إلخ. طبعاً الإجابة غير مقنعة على الإطلاق؛ إذ يعرف كل مبتدئ بتصوير الأفلام أن المحيط الخارجي يمكن اختراعه، ولن تجد أشطر من السينما لفعل ذلك. ويعرف دويري أيضاً أن فيلمه ليس وثائقياً، إنما روائي، مستوحى من رواية لياسمينة خضرا؛ أي أن تصويره يتم في المكان الذي تحصل فيه وقائع الرواية السينمائية، ليس بالضرورة مكانها الفيزيائي. ولكن ردّ دويري والهمروجة التي أحدثها السجال العنيف لم يمكِّنا المتابع من معرفة الأسباب الحقيقية لمكوث دويري في إسرائيل مدة تقارب السنة. هل حجّته "المكانية" هي فقط برسم من هو مستعد لتصديقها؟ هل لتسويقه فيلمه يطرق أبوابا إسرائيلية؟ أم ان الإسرائيليين هم الذين طرقوا بابه، وبلطفٍ بالغ، فلم يتمكّن هو من مقاومة الإغراء؟ وهل الفيلم، بالتالي، حظي بدعم إسرائيلي في الإنتاج والإخراج والتمثيل؟ ومن أية جهة إسرائيلية؟ حكومية؟ حزبية؟ مدنية؟
الذين وقفوا ضد الصحافي الممانِع والتخوينيين المعتادين ساهموا بهذه الضبابية. بسرعة البرق،
صحافي من بين المتحمسين لدويري صعد إلى الشاشة الصغيرة، وأخذ يطلق صرخات المراهقين: نعم، دويري خالف القانون اللبناني، و"شو يعني...؟!"، الجميع يخالف القانون في لبنان؛ مثلاً، قانون تعدّد الزوجات الذي تعترض عليه النساء. فإذا كان للنساء حق بالاعتراض على القانون، أليس للمبدع الحق نفسه؟ فلم يوفّق بحجته. فلو كان للنساء أن يخالفن هذا القانون، كما خالف دويري قانونا آخر، عليهن خرقه بالزواج بأكثر من رجل... والحماسة نفسها لم تلْهمه، في لحظة أخرى من حديثة التلفزيوني: في معرض وصفه "حرماننا" من ترجمة الإنتاج الأدبي الإسرائيلي، انزلق مرة أخرى فأعلن أن "رائعة" الأديب الإسرائيلي عاموس عوز "قصة عن الحب والظلام" مُنعت ترجمتها إلى العربية. فيما هذه الرواية صادرة بالعربية عن دار الجمل منذ العام 2010.
وهذه ليست أعظم إشكاليات الردود على الصحافي والصحافة الممانعّين، والدفاع عن دويري. فحيثية الإبداع والتقدير الغربي، والجوائز الغربية... تطرح التساؤلات التي لا بد منها: هل هي تعني أن المبدعين وحدهم يحق لهم خرق القانون؟ وأن على المواطن البسيط احترامه؟ وهل الشهرة المستمدّة من الغرب تُعلي شأن المبدع، فترفعه درجةً عن غيره من أقرانه، فتسامحه وتتيح له حرية الخرق مرتين، بقدر وجاهة حيثياته ورفعتها؟ بل، هل هذه الشهرة، ذات المنْبت الغربي، شهادة ناصعة، بريئة من كل اعتبار؟ ألا تشبه هذه الحجة التشبيح "بانتصارات حزب الله"؟ تشبيح بالسلاح يقابله تشبيح بإبداع وشهرة غير موثوقَين؟
يستنكر الممانعون تبرئة دويري في المحكمة العسكرية، فيقولون إنهم "فهموا لماذا أوقف"، لكنهم لم "يفهموا كيف أُطلق سراحه". والحال أن السؤال المقلوب هو أيضاً يداعب الغموض: هناك من فهم "لماذا أطلق سراح دويري"، لكنه "لم يفهم كيف أوقف". سؤال يحيلنا إلى قلب الموضوع القانوني. زياد دويري أطلق سراحه كواليسياً، كما أوقف كواليسياً، بفضل توازن القوى بين حزب الله والباقين، الأضعف منه، ممن يشاركونه الحكم. القانون بمنع التعامل مع إسرائيل موجود من زمان. وإذا كان بحاجة إلى الإلغاء أو التطوير، أو الشرح، أو التعديل، كأن يُسمح لفلسطينيي إسرائيل بالدخول إلى بلادنا، أو يُفتح باب المعرفة العلنية بكل ما يخص إسرائيل، من الثقافة إلى العسكر... فهذا من صميم وظائف نواب الأمة. وفي أحوال طبيعية، يوضع هذا القانون على بساط البحث التشريعي، بعد حوادث أو ضغوط أو مطالبات شعبية. والمحطات الثقافية المتعاملة مع موضوع التطبيع كثيرة، ولها صدى إعلامي واسع. ومع ذلك، لماذا لا يُناقش البرلمان اللبناني هذا القانون؟ لماذا لم يقمْ بواجبه؟ هل فقط لأن البرلمان معطّل
هذه المعْمعة القانونية والإعلامية هي وصف لحال لبنان نفسه: تبرز على سطحه مسألة نارية، يستنفر من أجلها إعلاميون وكتاب وفيسبوكيون، كلٌ خلف متاريسه، يشعلون مجالاتهم بالقدح والذم. ثم تنتهي القصة بانتظار جديدةٍ لن تكون أكثر ديمومةً منها... وكأن ذاكرة البلاد أوتوماتيكية، كبْسة زر. هكذا انتهت الزوبعة الهستيرية الأخيرة التي لم تزد ولم تنقص شيئاً. راوحت مكانها، ثم نامت...
وحده زياد دويري ربح المعركة. فاضت شهرته، وكثرت شكواه إلى الصحافة الغربية عن "القمع الذي يلاقيه المبدع في بلده الأم" (مهرجان تورنتو للسينما). والأكثر من ذلك، لاقى فيلمه الجديد "القضية 23" اسقبالاً جيداً من جمهور حرّكه الفضول... فتضخم بذلك رأسماله الرمزي، واعتبر نقاد سينمائيون فيلمه هذا "تحفة سينمائية"... فيما هو، أي الفيلم، افتعال قضية وممثلين وسيناريو، لم ينجُ منه إلا الممثل الفلسطيني كمال باشا. وهو في النهاية فيلم "كان يمكن تفاديه" على حد قول شاعر. وإذا ما قارنته بفيلمه الأول "بيروت الغربية" (1998)، سوف يلحّ عليك سؤال: ما الذي يحصل لسينمائيين، أو كتاب، بعدما يفوز عملهم الأول بالنجاح؟ لماذا تتراجع موهبتهم التي وعدت بالأفضل عند نضوجها؟ وهل يحتكر المبدع العربي هذه "المسيرة"، أم إنه يتقاسمها مع مبدعين من جنسيات أخرى؟ أو، هل كنا أصلاً، بصدد مبدع؟ أم خُدعنا بعمله الأول؟ كما سبق وخُدعنا بومْضاتٍ أخرى؟