"أطفال ماركس والكوكا كولا" تعتبر من أشهر الأمثلة وربّما أقواها تعبيراً حتى اليوم في وصف "جيل 68"، كما جاء في كتاب "1968: الثوار الشباب.. موجة تمرد عالمية" للمؤرخ والأكاديمي الألماني نوربرت فراي، وهو وصف يعبّر عن مدى صخب وجموح رؤى العالم المختلفة التي بشرت بها ثورات الشباب عام 1968. رؤى قد تبدو متعارضة في ظاهرها، لكنها حملت بداخلها رغبة قوية لتجاوز كل الأفكار والأيديولوجيات المكرّسة.
الكتاب الصادر في ترجمته العربية مؤخراً عن "دار صفصافة" بالقاهرة بتوقيع علا عادل، بالتزامن مع مرور خمسين عاماً على ذكرى ثورات الشباب، أشار مؤلفه نوربرت فراي خلال ندوة أقيمت يوم الإثنين الماضي، ضمن فعاليات البرنامج الثقافي لـ"معهد غوته" بمعرض القاهرة للكتاب، إلى أن الحديث عن ثورة الشباب عام 1968، يستدعي العودة إلى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت حراكاً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً في مختلف الدول التي شهدت اندلاع ثورات الشباب، موضّحاً أن عام 1968 كان ذروة هذا الحراك الممتد لأكثر من عشر سنوات.
يشير فراي في كتابه إلى أن حركة المطالبة بحقوق المواطنة في الولايات المتحدة، ساهمت بصورة كبيرة في ميلاد جيل من الشباب الأميركي الرافض للتمييز العنصري، والمدرك "للتناقض بين مثالية الدستور والواقع الأميركي".
ويضيف: "لقد تغيّرت أميركا - في نظر الطلاب - إلى الأسوأ"، ولم تعد على تلك الصورة التي كانتها "منذ أيامها السعيدة إبان الحرب العالمية الثانية وفي فترة طفولتهم في ما بعد الحرب كأغنى وأقوى دولة في العالم".
وقد تمثّلت الأسباب الرئيسية وراء الاضطرابات التي عاشتها أميركا، حسب فراي، "في الإهانة المستمرة للسود جنوب البلاد، وفي التهديد النووي للإنسانية في صورة الحرب الباردة".
ساهمت حرب فيتنام أيضاً، في مزيد من الغضب والتمرّد، خاصّة مع تأسيس حركة "طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي"، وتبنّيها لأفكار "اليسار الجديد"، والدعوة لتأسيس مجتمع قائم على الحرية والديمقراطية التشاركية، إذ كانوا يعرّفون عن نفسهم قائلين: "نودّ أن نستبدل القوة المتأصلة في التملّك والتمييز والظروف، بالقوة والتفرد المتأصلين في الحب والإبداع. نحن نسعى باعتبارنا نظاماً اجتماعياً إلى تأسيس ديمقراطية المشاركة الفردية التي يحكمها هدفان رئيسان: أن يشارك الفرد في القرارات الاجتماعية لتقرير جودة حياته وتوجيهها، وأن ينتظم المجتمع؛ لتشجيع الاستقلالية في نفوس الناس وإمدادهم بالوسائل المساعدة لهم في مشاركتهم العامة".
في أوروبا وتحديداً في ألمانيا لم يختلف المشهد كثيراً عن الولايات المتحدّة الأميركية، مع ولادة جيل جديد، رافض للروح النازية التي كانت ما تزال تسيطر على المجتمع الألماني. ومنذ عام 1955 كانت هناك احتجاجات مستمرّة ضد إعادة التسليح، وطريقة إدارة الجامعة، بالإضافة إلى انتقاد الأطروحات التقليدية للأحزاب الماركسية.
في هذا الصدد يقول فراي: "كافح طلاب اليسار الجديد من أجل القضاء على مراكز السلطة، وعلاقات الخضوع في الجامعات، ومن أجل إتاحة المشاركة والتغلّب على البنى المستبدّة، وقد قربهم ذلك من زملائهم الأميركان. وبطريقة مشابهة عُقدت مناقشات لدوائر صغيرة لليساريين الأكاديميين الشبّان في أماكن كثيرة غرب أوروبا".
الندوة التي امتدت لأكثر من ساعتين، شهدت حالة من السجال، خاصة في ما يتعلّق بموقف الثوار الشباب من القضية الفلسطينية، فبينما تضامنوا مع الشعب الفلسطيني ونضاله ضد الصهيونية، لكن تعاطفهم مع "اليهود" لم يجعلهم يرون جرائم "إسرائيل" بالشكل الكافي. وأشار فراي إلى أن هذا الموقف الملتبس، يمكن أن يجد تفسيره في تاريخ اليهود في أوروبا وما تعرضوا له من اضطهاد. وهو ما كان دافعاً للشباب لرفض أي ممارسة عنصرية تجاههم، ولذلك رفعوا شعارات ترفض معاداة السامية، في الوقت نفسه الذي رفضوا فيه أي اضطهاد يتعرّض له الفلسطينيون.
يشير فراي إلى أن ما يبدو من تناقض في توجّهات ثورات الشباب عام 1968، يعكس روح هذه الثورات، فهناك طاقة هائلة من التمرّد، تحمل بداخلها تناقضات ورؤى مختلفة، كما تحمل مشتركات عديدة. ويضيف: "الفكرة الأساسية التي كان يقف وراءها "جيل 68" هي التحرّر من كل أشكال السلطة والخضوع والتقاليد والعادات والفروض المزعجة والتصورات الأخلاقية التقليدية".
واستطرد: "من ثم يجب أن نقرّ بأنه في المقام الأول كانت هناك أهداف مثالية تجمع الشباب الناقد، متمثّلة في مزيد من الديمقراطية والشفافية والمشاركة، والحقيقة أن عدداً غير قليل كان يحلم بالاشتراكية وبعضهم بعنف ثوري وديكتاتورية "مؤقتة"، وهو ما يشير بشكل أكبر إلى مطلب التمييز بين المجموعات التأسيسيّة لليسار الجديد والحركات الاحتجاجية المتنامية خلال سنتي 1967/ 1968".
من جهة أخرى، يشير فراي إلى تحذير أحد الشباب في المؤتمر التأسيسي للطلاب الاشتراكيين في ألمانيا، من هيمنة فلسفة الاستهلاك وسعي الرأسمالية لتفريغ الثورة من محتوها عن طريق تسليعها، قائلاً: "إن الإجبار على الاستهلاك خدعة تسعى إلى سحب الحرية المكتسبة من الشباب، والمثال على ذلك هو قصة "موسيقى البيت" (Beat)، التي كانت في بدايتها في مدينة ليفربول بمثابة احتجاج ثوري ضد المجتمع، وتمكّنت صناعتنا من إدماج موسيقى البيت وتحويلها إلى سلعة استهلاكية".
ويضيف فراي بأن الرأسمالية لم تكتفِ باحتواء ثورات الشباب فقط، بل قامت بتسليع رموز الثورة وتحويلها إلى موضة ومنتجات تباع وتشترى. موضحاً أنه على الرغم من اكتساب حريات جديدة خلال الثورة، فإنه لم يكن من النادر تزايد عدد القيود والتحديات، ويقول: "كان هناك قرابة 300 ألف طالب في جمهورية ألمانيا عام 1968، كان نصفهم تقريباً في الشوارع طوال فترة الصيف أو شاركوا في الاحتجاجات من وقت لآخر، ومع بداية الفصل الشتوي كان لا يمكن إغفال أن خريف الثورة قد بدأ. وظهر ذلك في الخلافات المتنامية داخل اتحاد الطلاب الاشتراكيين، الذي حُلّ تنظيمياً في ربيع 1970، غير أن التفكّك الفكري كان قد بدأ قبل ذلك بفترة طويلة".
شارك في الندوة إلى جانب مؤلف الكتاب، أنور مغيث أستاذ الفلسفة ومدير "المركز القومي للترجمة"، وركّز في كلمته على أصداء ثورات عام 1968 في مصر، مشيراً إلى أنه ورغم اختلاف السياقات التاريخية والشعارات التي رفعها المتظاهرون في مختلف الدول التي اندلعت فيها ثورات الشباب، يمكن إيجاد العديد من المشتركات مثل المطالبة بالحرية والتخلّص من السلطة التقليدية المتمثّلة في سلطة الأب والمعلّم والأسرة والعادات والتقاليد.
وأضاف مغيث بأن الحكم العسكري في مصر الممتد منذ عام 1952، واجه للمرة الأولى حراكاً طلابياً كبيراً، رافضاً للنظام ومطالباً بمحاكمة القادة المسؤولين عن نكسة 1967، كما سعى هذا الجيل وخاصة على المستوى الثقافي إلى تأسيس أطر مستقلة تماماً عن هيمنة الدولة التي كانت قد أمّمت الحياة العامة بالكامل. ويستطرد: "أسّس هذا الجيل الحركة الطلابية المصرية، التي قادت حراكاً كبيراً، امتد حتى منتصف السبعينيات".
وفي ردّ له على سؤال حول مدى تشابه احتجاجات 1968 مع الانتفاضات والثورات العربية عام 2011، أشار مغيث إلى أنّ ثورات الشباب عام 1968 لم تغيّر الأنظمة السياسية كما هو معتاد في الثورات، ولكنها أحدثت ثورة اجتماعية هائلة، ولذلك يعتبرها المواطنون والمؤرخون بمثابة ثورة، وكذلك ثورات الربيع العربي، فرغم إعادة إنتاج الأنظمة القديمة، لكن التأثير الكبير للثورة على المستوى الاجتماعي سيمتد أثره لسنوات طويلة.