عُدّ وصول الرئيس الانتقالي، عبد ربه منصور هادي إلى الحكم قبل عامين فرصة لحل قضايا شائكة لطالما فشل الرئيس السابق علي عبد الله صالح في حلها، وكانت سياسته سبباً في تفاقمها. في مقدمها، القضية الجنوبية التي يعلو فيها صوت الحراك الجنوبي المطالب بفك الارتباط بين الشمال والجنوب. كذلك، تبرز قضية صعدة (أبرز معاقل جماعة أنصار الله (الحوثيين)). لكن أظهر عامان من حكم هادي تعثر ارساء الثقة بين الحراك الجنوبي وجماعة أنصار الله.
هادي والحسابات الجنوبية
أدى انحدار هادي من الجنوب دوراً بارزاً في جعله خياراً مقبولاً لدى مختلف الأطراف السياسية، إذ كان الكثيرون، مدفوعين بالخوف على الوحدة وبحاجة البلاد إلى رئيس من المحافظات الجنوبية، على أمل أن يسهم ذلك في تهدئة مطالب الداعين إلى فك ارتباط الشمال والجنوب.
ويرى البعض أنه لم يكن الاتفاق على شخص مثل هادي، ليس في تاريخه السياسي أو قدراته المعروفة ما يجعله الخيار الأول، إلا لثلاثة أمور؛ الظرف التاريخي الذي جاء في ظل وجوده نائباً للرئيس، كذلك كونه من أبناء المحافظات الجنوبية، ما من شأنه أن يمثل خطوةً للحفاظ على الوحدة وقطعاً على الأصوات التي ترى أن الشمال محتكر للحكم. والأمر الثالث هو موقفه خلال فترة الثورة الذي بقي على مسافة متوازنة من أطرافها.
عندما صعد هادي إلى السلطة تصاعدت احتجاجات الحراك الجنوبي وبخاصة التيار المنادي بفك الارتباط، الذي أدى دوراً اساسياً في افشال انتخاب هادي في الجنوب في عام 2012.
أما في الذكرى الأولى لانتخابه، فقمعت بنحو دموي محاولة أنصار الحراك افشال احتفال أقيم لمناسبة مرور عام على حكم هادي، في ساحة العروض في عدن. وهو ما عزز نظرة أبناء الجنوب المؤيدين لخيار فك الارتباط لهادي بصفته خصماً لهم.
وساعدت التطورات الأمنية في جنوب اليمن، وخصوصاً في منطقة الضالع، التي تتعرض بين الحين والآخر لقصف عشوائي من الجيش غالباً ما يسقط فيه مدنيون، في الابقاء على هذه النظرة حتى اليوم.
كذلك فشل هادي في بدء خطوات جادة لتلبية الكثير من المطالب المحقة للجنوبيين، سواء في ما يتعلق باعادة الأراضي المنهوبة بعد حرب فرض الوحدة بالقوة في عام 1994 أو حتى في اعادة المسرحين من وظائفهم على خلفية هذه الحرب. وتبدو اللجان التي شُكلت للنظر في هذه القضايا إلى الآن حبراً على ورق.
واتهم هادي بصنع حراكه الخاص. ويستدل أصحاب الاتهام بعودة القائد الجنوبي البارز، محمد علي أحمد، من المنفى بعد فترة وجيزة من انتخاب هادي، وذلك لأول مرة منذ 1994. وبدأ الأخير، الذي سبق له أن شغل منصب محافظ أبين، بنشاط حراكي تكلل في مكون "المؤتمر الوطني لشعب الجنوب"، الذي قرر المشاركة في مؤتمر الحوار.
كان محمد علي أحمد من بين أبرز قادة المؤتمر الجنوبي الذي عقد في القاهرة في العام 2011، إلى جانب الرئيس السابق علي ناصر محمد ورئيس أول حكومة لدولة الوحدة حيدر أبوبكر العطاس قبل أن ينشقّ عنهم ليكوّن تياره الخاص.
حاول الأخير منافسة تياري نائب الرئيس اليمني، علي سالم البيض، وتيار زعيم الحراك، حسن باعوم المطالبين بفك ارتباط أو ما يعرف بالتحرير واستعادة الدولة الجنوبية.
شارك محمد علي أحمد مع مكونه في مؤتمر الحوار. ووضع رؤية تطالب بفك الارتباط، لكن سرعان ما بدأت الخلافات حول وثيقة حلول القضية الجنوبية.
قاطع علي أحمد الجلسات أكثر من مرة، واستطاع هادي في هذا الوقت شقّ صف المشاركين مع محمد علي أحمد. غادر القائد الجنوبي من جديد إلى خارج اليمن، فيما نجح هادي، بالتحالف مع حزبه المؤتمر الشعبي وحزب التجمع اليمني للاصلاح (الإخوان المسلمين) في تمرير رؤيتهم للحل عبر اقرار تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم عوضاً عن خيار الاقليمين الذي كان يطرحه الحزب الاشتراكي.
يمكن القول بالمجمل، إن هادي استفاد من القضية الجنوبية وفعاليات الحراك لتدعيم وجوده بالسلطة. لكنه، حسب مراقبين، لم يتعامل مع هذه القضية، على أهميتها، كرئيس جمهورية يريد حلها، بل تعامل كطرف مثل باقي الأطراف في الجنوب، على الأقل خلال العامين الماضيين.
ثقة منقوصة مع أنصار الله
كانت جماعة أنصار الله (الحوثيين) قبيل وصول هادي إلى السلطة، خارج اتفاق المبادرة الخليجية الذي عدّته "التفافاً على الثورة".
وأثناء الانتخابات حصل هادي على نسبة قليلة من الأصوات في صعدة، معقل الجماعة الأبرز.
لكن هادي نجح في تطبيع العلاقة مع الجماعة بعد التوصل إلى اتفاق مطلع العام الماضي، سلّم بموجبه رفات مؤسسها، حسين الحوثي، الذي كان محتجزاً لدى السلطات منذ 2004، ضمن اتفاق هيأ لاحقاً لمشاركة الجماعة في الحوار الوطني.
استطاعت جماعة أنصار الله، خلال الفترة الانتقالية، أن تنتزع الشرعية السياسية لوجودها من خلال المشاركة في مؤتمر الحوار، وما لزم ذلك من تعامل رسمي معها. اذ شاركت في الاحتجاجات الشعبية، سواء داخل صعدة، حيث مركز نفوذها الأساسي او من خلال مشاركتها في ساحات الاعتصام في صنعاء.
لكن الجماعة واجهت عمليات اغتيال طاولت أبرز ممثليها في الحوار، وهما عبد الكريم جدبان، وأحمد شرف الدين. والأخير اغتيل يوم اختتام الحوار.
في المقابل، لم يمنع دخول الجماعة في الحوار من الحد من المعارك المسلحة التي خاضتها مع رجال قبائل محسوبين على آل الأحمر (أبرز القوى القبلية في اليمن) والتجمع اليمني للاصلاح (الإخوان المسلمين). وهو ما انتهى بتوسيع نفوذها.
وفضلاً عن إتمام سيطرتها على صعدة، توسعت في مناطق مجاورة بمحافظات حجة وعمران والجوف، فيما خاضت أخيراً اشتباكات مع رجال قبائل والجيش في همدان، الواقعة على مشارف صنعاء.
وإذا كان هادي قد نجح في استقطاب الجماعة إلى الحوار، إلا أن العلاقة معها لم تكن على مسار واحد طوال الوقت، اذ هاجم هادي التدخلات الإيرانية في اليمن أكثر من مرة. واتهم طهران بدعم المجموعات في الجنوب والشمال، (في إشارة إلى الحوثيين وبعض فصائل الحراك).
كذلك كان عرضة للنقد اللاذع والحملات التحريضية من قبل الحوثيين، خصوصاً في العام الأول من المرحلة الانتقالية، ثم خفّت نسبياً مع مشاركتهم في مؤتمر الحوار.
نقل البعض عن هادي تعهده، في اجتماع حضره شيوخ قبائل نازحة من صعدة وشخصيات اجتماعية، بوضع حد لتوسع جماعة أنصار الله وسيطرتها على تلك المناطق. لكنه طلب مهلةً إلى أن ينتهي الحوار وسيسعى إلى فرض هيبة الدولة.
هادي والإدارة بالصراعات
في المجمل، يمكن القول إن هادي استفاد كثيراً من الخلافات بين القوى المختلفة وجعلها تصارع بعضها بعضاً نيابة عنه، بينما كان يقوي نفوذه مستفيداً من حاجة الناس إلى التغيير ونظرتهم السلبية إلى مسؤولي النظام السابق. أي أنه أدار هذه القوى بالصراعات في ما بينها، وليس بالمواجهة معها، باستثناء الرئيس السابق الذي كان لابد من أن يقع معه في خلاف واضح.
وفي السياق، استفاد هادي من وجود خصوم أشد لصالح ولحزبه، فلم تكن معركة نزع النفوذ مباشرة.
كذلك استغل هادي وجود أطراف تصارع الإخوان وبيت الأحمر نيابة عنه. وأصبح الإخوان في وضع أصعب مع توسع أنصار الله على حساب نفوذهم القبلي. وظل هادي محايداً في جعلهم يواجهون توسع الجماعة، بعدما استفاد كثيراً منهم باعتبارهم قوة احتاج إليها لإزاحة الحكم عن صالح. لكنهم قليلاً ما يظهرون حنقهم على هادي، ذلك أنهم استفادوا منه أيضاً بعد اطاحة صالح وتعزيز نفوذهم داخل مؤسسات الدولة.
ولم يقطع هادي العلاقة مع أي من الأطراف، بل حافظ على "شعرة معاوية" مع الجميع. وهكذا، بعد عامين لم يعد صالح وأقاربه سوى مركز من بين مراكز القوى، اذ ذهب الكثير من نفوذه وسلطته على الدولة. أما الحراك الجنوبي فقوي وتشرذم في آن واحدٍ، في الفترة الماضية. وسحب هادي البساط من قادة محددين، لمصلحة حراك يستفيد منه هو في صنعاء بتقاسم المناصب، بينما ساعدت سياسات هادي في تأكد الجنوبيين المطالبين بفك الارتباط، أنه لا وجود لإدارة جادة لحل قضيتهم.
وضعفت أبرز مراكز القوى المعروفة في اليمن باستثناء الحوثيين، الذين حصلوا على مشروعية سياسية من خلال الحوار من دون أن يتركوا السلاح. واستطاعوا من هذه النافذة تحقيق الكثير من المكاسب وتوسعوا على حساب قوى أخرى، سواً كان ذلك برضا هادي أو لمجمل العوامل السياسية والأبعاد المحلية والدولية التي جعلت الحوثيين قوة حققت العديد من المكاسب الميدانية خلال عامين من الفترة الانتقالية، وإن خسرت بزيادة عدد الخصوم.
وأصبح هادي هو الأقوى في السلطة بالفعل، لكن على حساب دور الدولة الذي تآكل. ومثلما قويَ هادي في السلطة، خسر أيضاً الكثيرين ممن تحمسوا لانتخابه في 21 فبراير/شباط 2012. وهو ما جعل التمديد له، بموجب المبادرة الخليجية وليس عبر الانتخابات، يقابل بانتقادات.