لم يكن كتاب "زمن الرواية" لجابر عصفور أوّل إعلان عن تحوّل النبوغ الأدبي العربي من الشعر إلى الرواية رغم ما تعرّض له من انتقادات، وكأنّه بأطروحته تلك اجترأ على الشعر العربي واعتدى على حرمته. علي الراعي كان سبّاقاً إلى الانتباه لهذا التحوّل، حيث اعتبر قبل عصفور بأن الرواية هي "ديوان العرب المحدثين". بل لعل أول من أشرقت في ذهنه هذه الفكرة هو نجيب محفوظ في ردّ له على العقاد نشره سنة 1945 أوضح فيه أن الشعر ساد في عصور الفطرة والأساطير، ولعل العصر الجديد "عصر العلم والصناعة والحقائق يحتاج حتماً إلى فن جديد". ذات الفن الذي سيحصل بفضله محفوظ على جائزة نوبل بعد أربعة عقود من مقالته السجالية على صفحات مجلة الرّسالة القاهرية.
اليوم حتى أشرس الشعراء لم يعودوا قادرين على مواجهة هذه المقولة. الديوان الشعري تراجع على مستوى المبيعات، وملتقيات الشعر فقدت بريقها وجمهورها. أما الجوائز، فنرى كيف أن كبيرها من عيار البوكر العربية، وكتارا، وجائزة نجيب محفوظ وغيرها، توجّهت للرواية دون باقي الأجناس الأدبية. حتى الجوائز المفتوحة على مختلف الفنون الأدبية عادة ما تتعامل مع دواوين الشعر كأرانب سباق، إذ غالباً ما تؤول في النهاية إلى الروائيين. ثم إن جائزة نوبل للآداب نفسها إذا ما تعاملنا معها بمنطق إحصائي سنكتشف أنها جائزة رواية وروائيين في المقام الأول.
لذلك ربما انخرط عدد من شعرائنا في موسم الهجرة إلى الرواية. كانوا يتسللون خلسة خارج مداراتهم الشعرية. فيهم من صرّح في البداية أن الكتابة السردية مجرّد تنويع يصقل فيه الشاعر أدواته، قبل أن يغادروا خيمة الشعر بشكل نهائي ويتكرّسوا روائيين بالأساس. النماذج عديدة، لعل أشهرها عربيًا الجزائرية أحلام مستغانمي التي لا يعرف جمهورها العربي أنها بدأت واشتهرت شاعرة في بلادها قبل أن يجرفها مدّ الرواية. اللبناني رشيد الضعيف بدأ شاعراً هو الآخر قبل أن يتفرّغ للرواية وينبغ فيها، نفس الشيء بالنسبة للسوري خليل صويلح الذي مذ توالت عناوينه الروائية لم يصدر له أي ديوان جديد. مع العلم أن هناك شعراء آخرين جرّبوا حظّهم مع الرواية لمرة أو مرتين وأحياناً أكثر، ثم عادوا إلى حضن قصيدتهم للتأكيد على أن الشاعر فيهم هو الأصل: سليم بركات، سعدي يوسف، عباس بيضون، ميسون صقر .. على سبيل المثال لا الحصر.
في حالتنا المغربية نعيش الهجرة ذاتها. أهم الأصوات الشعرية المغربية انخرطت في هذه الهجرة التي دشّنها الطاهر بنجلون الذي لا يعرف الكثير من قرّائه العرب أنه بدأ شاعراً قبل أن توقعه الحبكة الروائية في حبائلها. بنجلون لم يكن استثناء في هذا المجال، فأهم الشعراء المغاربة باللغة الفرنسية استقطبتهم الرواية بدءاً بمحمد خير الدين وعبد الكبير الخطيبي وعبد اللطيف اللعبي وانتهاء بمحمد حمودان. فيما ابتدأ نزوح الشعراء المغاربة بالعربية باتجاه الرواية مع محمد الأشعري أولاً من خلال روايته "جنوب الروح" ثم "القوس والفراشة" فـ "علبة الأسماء". فاتحة مرشد بدأت تتكرّس روائية بعدما أصدرت أربعة عناوين روائية تباعاً. عبد الله زريقة كتب "المقبرة". حسن نجمي أصدر "الحجاب" ثم "جيرترود". محمود عبد الغني كتب "الهدية الأخيرة". عائشة البصري أصدرت "ليالي الحرير". حتى الشعراء الشباب من الجيل الجديد -جيل الفيسبوك- وبدعم من منح المورد وآفاق بدأت أسماؤهم تطلع في لوائح الفائزين بمنح التفرغ لإنجاز روايات لا أعمال شعرية (سكينة حبيب الله، محمد بنميلود). كل الأجيال الشعرية المغربية اليوم بدأت تهاجر نحو مجرّة السرد الروائي. ومع ذلك هناك بين المتعصّبين لمحورية الشعر في أدبنا العربي من يغضب من النقاد الذين "يزايدون" على لحظتنا الشعرية الهشة بـ"زمن الرواية".
(كاتب وشاعر مغربي)
اليوم حتى أشرس الشعراء لم يعودوا قادرين على مواجهة هذه المقولة. الديوان الشعري تراجع على مستوى المبيعات، وملتقيات الشعر فقدت بريقها وجمهورها. أما الجوائز، فنرى كيف أن كبيرها من عيار البوكر العربية، وكتارا، وجائزة نجيب محفوظ وغيرها، توجّهت للرواية دون باقي الأجناس الأدبية. حتى الجوائز المفتوحة على مختلف الفنون الأدبية عادة ما تتعامل مع دواوين الشعر كأرانب سباق، إذ غالباً ما تؤول في النهاية إلى الروائيين. ثم إن جائزة نوبل للآداب نفسها إذا ما تعاملنا معها بمنطق إحصائي سنكتشف أنها جائزة رواية وروائيين في المقام الأول.
لذلك ربما انخرط عدد من شعرائنا في موسم الهجرة إلى الرواية. كانوا يتسللون خلسة خارج مداراتهم الشعرية. فيهم من صرّح في البداية أن الكتابة السردية مجرّد تنويع يصقل فيه الشاعر أدواته، قبل أن يغادروا خيمة الشعر بشكل نهائي ويتكرّسوا روائيين بالأساس. النماذج عديدة، لعل أشهرها عربيًا الجزائرية أحلام مستغانمي التي لا يعرف جمهورها العربي أنها بدأت واشتهرت شاعرة في بلادها قبل أن يجرفها مدّ الرواية. اللبناني رشيد الضعيف بدأ شاعراً هو الآخر قبل أن يتفرّغ للرواية وينبغ فيها، نفس الشيء بالنسبة للسوري خليل صويلح الذي مذ توالت عناوينه الروائية لم يصدر له أي ديوان جديد. مع العلم أن هناك شعراء آخرين جرّبوا حظّهم مع الرواية لمرة أو مرتين وأحياناً أكثر، ثم عادوا إلى حضن قصيدتهم للتأكيد على أن الشاعر فيهم هو الأصل: سليم بركات، سعدي يوسف، عباس بيضون، ميسون صقر .. على سبيل المثال لا الحصر.
في حالتنا المغربية نعيش الهجرة ذاتها. أهم الأصوات الشعرية المغربية انخرطت في هذه الهجرة التي دشّنها الطاهر بنجلون الذي لا يعرف الكثير من قرّائه العرب أنه بدأ شاعراً قبل أن توقعه الحبكة الروائية في حبائلها. بنجلون لم يكن استثناء في هذا المجال، فأهم الشعراء المغاربة باللغة الفرنسية استقطبتهم الرواية بدءاً بمحمد خير الدين وعبد الكبير الخطيبي وعبد اللطيف اللعبي وانتهاء بمحمد حمودان. فيما ابتدأ نزوح الشعراء المغاربة بالعربية باتجاه الرواية مع محمد الأشعري أولاً من خلال روايته "جنوب الروح" ثم "القوس والفراشة" فـ "علبة الأسماء". فاتحة مرشد بدأت تتكرّس روائية بعدما أصدرت أربعة عناوين روائية تباعاً. عبد الله زريقة كتب "المقبرة". حسن نجمي أصدر "الحجاب" ثم "جيرترود". محمود عبد الغني كتب "الهدية الأخيرة". عائشة البصري أصدرت "ليالي الحرير". حتى الشعراء الشباب من الجيل الجديد -جيل الفيسبوك- وبدعم من منح المورد وآفاق بدأت أسماؤهم تطلع في لوائح الفائزين بمنح التفرغ لإنجاز روايات لا أعمال شعرية (سكينة حبيب الله، محمد بنميلود). كل الأجيال الشعرية المغربية اليوم بدأت تهاجر نحو مجرّة السرد الروائي. ومع ذلك هناك بين المتعصّبين لمحورية الشعر في أدبنا العربي من يغضب من النقاد الذين "يزايدون" على لحظتنا الشعرية الهشة بـ"زمن الرواية".
(كاتب وشاعر مغربي)