هذا الإرهابيّ.. صديقي
يلخّص العنوان ثلاثة مشاهد تلفزيونيّة، تتعلّق بالصداقة والأصدقاء، وضعت جمهور الحملة الانتخابيّة في تونس أمام خلطة طريفة من الأفكار المتناقضة، بحكم ما أفرزته من تشابكٍ على مستوى المفاهيم والأشخاص. فارتقى الإرهابيّ إلى مرتبة الصديق، واستوى راشد الغنوشي مع هتلر، وعاد رجل الأعمال كمال لطيّف إلى سالف نشاطه لصناعة الزعماء في لوبيّ معترف به، محمودٍ لا مذمومٍ، بعد أن حصل على البراءة من شبهة التآمر على أمن الدولة، وصار مذكوراً في محافل المترشّحين للرئاسة، من أمثال كمال النابلي والباجي قايد السبسي وحتّى المناضل القديم أحمد نجيب الشابي. فقد أشاد هو، أيضاً، برجل الأعمال صاحب النفوذ والنفاذ، وذكر صداقتهما منذ الثمانينيات، عندما كان وزراء زين العابدين بن علي يتوافدون على مكتبه كلّ صباح (إجلالاً له واعترافاً بجميله) إذْ "كان له دور فاعل في الحياة السياسيّة، يسمح له حتّى بتعيين الوزراء".. هكذا يقول مرشّح الحزب الجمهوريّ لمنصب الرئاسة، عن صديقه (الفاعل)، ويعارض، في الوقت نفسه، محاولات الشيطنة التي حامت حول أدواره الخفيّة، مؤكّدا أنّ "كمال لطيّف صديقي وأعتزّ بصداقته... ولا أعتقد أنّه رجل خطير". والمشهد، بما تضّمنه من مديح لصاحب الجاه والمال، يعجّل بالسؤال عن المكاسب، أو الخسائر التي قد يجنيها نجيب الشابي، بفضل تلك العلاقة، أو بسببها، في موعد انتخابيّ، يعتبره الأخيرَ في مسيرته السياسيّة.
المشهد الثاني بطله راشد الغنوشي الذي يُذكر في منابر كثيرة، من دون أن يكون حاضراً ضمن ضيوفها، وذمّه أكثر من مدحه، وأعداؤه أكثر من أصدقائه، وهو بذلك الرصيد أقرب إلى الصديق اللدود، أو العدوّ المفضّل، ما دفع بإعلاميّةٍ إلى مشاكسة الكاتب التونسيّ، يوسف الصِدِّيق، حين فاجأها بالقول إنّ راشد الغنوشي صديقه، معتبرة أنّ تلك الصداقة لا تنسجم مع رأيه الوارد في كتابه الجديد (الثورة التي لم تكتمل)، حيث انتقد حركة النهضة، واعتبر مشاريعها السياسيّة، وبرامجها المستقبليّة "كابوسا" لتونس والتونسيين. ولكنّ الضيف دافع عن صداقته بالغنوشي الإنسان، على الرغم من اختلافه معه في جلّ المقاربات التي تتعلّق بالسياسة وتشعّباتها، من دون أن ينجح في إقناع محاوِرته بأنّه يعادي "النهضة"، لا رئيسها، حتّى قالت مستغربة: "كأنّك تعتبر هتلر صديقك".
ومرّت تلك (الجملة البليغة) بسلام، على الرغم من المضامين الدمويّة (النازيّة) التي أسندتها لحركة النهضة وقياداتها. بينما تورّط إعلاميّ آخر، وأحيل على التحقيق، بشبهة تبييض الإرهاب، والإشادة بأبطاله، بعد أن عبّر في منبر تلفزيونيّ، عن اعتزازه بصديقه أبي عياض، زعيم "أنصار الشريعة"، المصنّف تنظيماً إرهابيّاً، في قوله: ''تشرفني صداقة أبي عياض، أقولها على الملأ، وليسمع من يسمع من الأمنيّين والسياسيّين ورجال المخابرات داخل تونس وخارجها''، معتبراً أنّ إدانته ليست بيّنة، والقضاء وحده مؤهّل لتوجيه التهم وإثباتها بالأدلّة والبراهين.
ولكنّ تلك الحماسة لم تمنع صاحبها من التعجيل بالاعتذار، عندما اقتنع، لاحقاً، بخطورة ما ورد على لسانه. فاتّهام الآخرين بالإرهاب أيسرُ بكثير من تبرئتهم، خصوصاً إذا استعمل ذلك السلاح لمواجهة الخصوم السياسيّين. والدرس الذي خرج به الجمهور أنّه لا صداقة مع الإرهابيّين، ولا تعاطف معهم، وإلاّ فأنت منهم.
وإذا تعمّقنا في استخلاص الدروس، سيثبت لنا أنّ المشاهد المذكورة زاخرة بمعاني الصداقة ونقيضها، ضمن سياق يتعلّق بالإرهاب ومشتقّاته، نفياً وإثباتاً. والقاسم المشترك بين المتكلّمين جرأتهم في ذلك الاثبات أو النفي، ما يسمح بالعودة إلى طرح الأسئلة القديمة عن حقيقة الإرهاب وجماعاته في بلادنا. وقد اختفت، أخيراً، جميع مظاهره، وبرزت فجأة بطولات الداخليّة، وهي تفكّك شبكاته، وتعلن سيطرتها على مواردها، تمويلاً وتسليحاً، وتؤكّد للتونسيّين كشفها لجميع الخطط التي كانت تستهدف المواعيد الانتخابيّة، في وضع ختاميّ شبيه بنهاية سعيدة لمسرحيّةٍ حقّقت أهدافها. ويلتقي هذا الرأي مع موقف عبد الرؤوف العيّادي (مرشّح حركة وفاء لمنصب الرئاسة) الذي نفى، في تصريحاته الأخيرة، أن يكون الإرهاب أولويّة في تونس. بل هو "مجرّد فزّاعة، تمّ استعمالها لتخويف التونسيين، وإلهائهم عن أهداف الثورة"، ودعا وسائل الإعلام إلى كشف الحقائق المتعلّقة بالفساد والمفسدين، خصوصاً في هذا الظرف الذي يشهد تقهقراً للمسار الثوريّ.
غير أنّ وسائل الإعلام المحليّة في شغل عن الثورة وأهدافها. وقد هاجمت أصواتُها المدافعة عن النظام السابق قناةً فرنسيّة خاصّة، بعد عرضها برنامجاً استقصائيّاً عن الأموال التي نهبها بن علي وأصهاره. فاعتُبر البرنامج تافهاً، إنكاراً لما ورد فيه من الحقائق المفزعة عن الثروات التي هرّبها نظام السابع من نوفمبر. وبذكر النظام، يشمل الاتهام كلّ الذين عملوا مع بن علي، وتستّروا على جرائمه التي لا تُنسى، على الرغم من محاولات تجاوزها. أحصاها البرنامج لتكون ذكرى تنفع المؤمنين بحتميّة مقاومة الفساد ورموزه، وتنفع الناخبين الذين يحتاجون إلى التمييز بين الخبيث والطيّب، وبين الفاسد والمصلح.