02 يونيو 2017
هذه المطالبات النسوية السعودية
هاشم الرفاعي
باحث وكاتب سعودي في علم الاجتماع، مهتم بدراسات علم الاجتماع الثقافية والدينية، ومهتم بدراسة الحركات الاجتماعية في الجزيرة العربية، مبتعث لدراسة علم الاجتماع في الولايات المتحدة.
تتعاطى وسائل الإعلام، الأجنبية والعربية، بشكل واسع مع قضايا المرأة السعودية، فالمرأة حاضرة قضيةً، ونوعاً من الصراع الفكري في الداخل بين أطراف عدة، كما أن الخارج يستخدم حالة المرأة السعودية مؤشراً إلى وجود أزمة. وللأسف، التعاطي مع ملف المرأة بشكل عام، والمرأة السعودية خصوصاً، غاية في الصعوبة والتعقيد، لما له من امتدادات دينية واجتماعية وكذلك سياسية.
تبدأ الإشكالية في السعودية بعدم وجود دراسات سوسيولوجية أو أنثروبولوجية جادة بشأن تشخيص حالة المرأة وقضاياها وصورتها داخلياً ومآلات الواقع الذي تعيشه. للأسف، أغلب ما يكتب مجرد "فضفضة" ولغة مشاعرية انطباعية، لا تستند إلى دراسات بحثية، ولا إلى تشخيص معرفي جاد.
ربما من الدراسات النادرة والجادة دراسة الباحثة الفرنسية، أميلي لورونار "النساء والفضاءات العامة في السعودية"، وترجمت للعربية بواسطة الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2013. حاولت أن تتقصى أنماط عيش الشابات السعوديات في الفضاءات الاجتماعية في السعودية، وتوصلت إلى أن هناك أربعه فضاءات حضرية وميادين أساسية للفتيات السعوديات، الجامعات ومراكز العمل والفضاءات الدينية وأخيراً المجمعات التجارية كفضاء اجتماعي واسع ومهم لهن. وقد عنيت الدراسة بمدينة الرياض أكثر من غيرها ميداناً بحثياً، والدراسة ممتعة لما فيها من بعد سوسيولوجي عالي المستوى في تجاوز كل معوقات إجراء دراسة اجتماعية في السعودية، خصوصاً عن المرأة، وهي دراسة جديرة بالاطلاع، ونموذج في تقديم القضية في قالب سوسيولوجي.
ربما يكون تعليم المرأة المرحلة الأولى التي حدثت حول الصراع الذي لم يحسم بشكل كامل، ابتداءً من قرار سيادي بفتح مدارس للطالبات إلى ممانعةٍ مضادة من التيار الديني الرسمي في ذلك الوقت. وقد أقرّت الحكومة السعودية التعليم الإلزامي منذ أكثر من خمسة عقود، و تقلصت معها الممانعة إلى أن تنمّطت بقالبٍ معين، ينحصر حالياً في فكرة "ولي الأمر"، وسيطرته على (الدراسة، الابتعاث، حضور الملتقيات العلمية، والمعاملات الحكومية، السماح بالسفر، إلخ). وبسبب التعليم، ومخرجاته من التوظيف وخروج المرأة إلى ساحات جديدة، تمدّدت مطالب المرأة السعودية وحاجاتها في الفضاءات العامة، مثل قيادة السيارة، وسن قانون التحرش والحماية الأسرية، إلى أن وصلت إلى سقف عالٍ، وهو المطالبة بإسقاط الولاية.
هذا التراكم المتصاعد في المطالبات النسوية التي تزداد يوماً بعد يوم مسار يعكس بعض معاناة المرأة السعودية التي تسلط الضوء حول القوانين والتشريعات الذكورية والأبوية، وأيضاً تروي شيئاً من معاناة الواقع شاهداً حياً على عمق الأزمة وتجذّرها اجتماعيا وثقافيا.
كانت المطالبات النسوية في العقدين الماضيين محدودة، وربما كان ما يخرج منها إلى الفضاء
الإعلامي هو بموافقة حكومية ضمنية، كنوع من إدارة الصراع الفكري في الفضاء العام. لكن ما حدث، في السنوات الخمس الماضية، هو كسر هذا الروتين، وصعود جيل نسوي جديد وحاد، يتحدّث عن معاناة حقيقية في موضوع المواصلات "قيادة السيارة"، و يتناول أيضاً أبعاد الأزمة مالياً واقتصادياً. وبفضل شبكات التواصل الاجتماعي، ظهرت عدة حركات اجتماعية ذات مطالب محدّدة، وذات سقف وهدف معينين، هو كسر حظر قيادة السيارة، كانت ردة فعل الجهات الرسمية اعتقال بعض الفاعلين الناشطين والمبادرين وتوقيفهم، حتى أنه صدرت بيانات من وزارة الداخلية تحذّر من قيادة السيارة. الفارق الجلي في هذه المرحلة أن الحكومة كانت، طوال العقود الماضية، تشير إلى أنها تلزم الحياد في قضايا المرأة بشكل عام، وأن قضايا المرأة ذات خلاف اجتماعي، ومن الصعب أن تتحرّك الحكومة بحلول في هذه الملفات الخلافية، أي أنها تصور للجميع أن هناك طرفين متخاصمين حول قضيةٍ، كقضية قيادة السيارة، لكن ما حدث، أخيراً، أنها هي نفسها الخصم والحكم في موضوع قيادة السيارة، أي أنها خصمٌ لمن يطالب بقيادة السيارة، وهن نساء وفتيات سعوديات ليس إلا.
التطور الجديد لهذا التيار الواسع والكبير هو رفع سقف المطالب إلى فكرة إسقاط الولاية التي تعتبر الحجرة العاثرة في طريق المرأة السعودية، كما يتم تصويره من الفاعلين في هذا التيار. وبما أن التيار والحملة تجاوزت المائة يوم، وتصرّ، في كل يوم، على المطالب نفسها، وأيضاً تروج أنه حق مشروع لهم. في المقابل، يقوم خصومٌ تقليديون "مناكفون" للإصلاح بشكل عام باتهام هذه المطالب بالعمالة للغرب، وزعزعة الداخل وإثارة الفتنة، هي النبرة التقليدية نفسها التي يصفع بها في وجه أي مطالب اجتماعية. وربما هذا النوع من الحملات المضادة هو تكتيك ونمط ثابت، هدفه التقليل من حدّة الحراك النسوي، وتحجيم مطالبه إلى درجة أن يتم تهميش القضية من الفضاء العام. ربما كان هناك في الحملات السابقة مبادر وفاعل داعم للحملة، بمجرّد أن يتم إيقاف هذا الصوت، تتراجع حدة المطالبات استجابةً للضغط المضاد، حكومياً كان أو حتى اجتماعياً. الجديد في الحملة، أخيراً، أنها كيان بلا رأس، أو مجموعاتٌ بلا قائد أو موجه لها، لأن الفاعلين والمطالبين ليسوا شخصيات اجتماعية بارزة، بل شرائح نسوية، وأيضاً أصوات رجالية مساهمة بدرجة أقل من أفراد المجتمع كافة.
النتيجة التي تحدث عن تجاهل المطالبات الاجتماعية أن جهاتٍ تعتقد أنها وأدت المطالب في مهدها، لكن الحقيقة أن المطالب تكبر ككرة الثلج يوماً بعد آخر، وتنمو في جوانب واتجاهات عدة، وتفاجئ هذه المطالبات بعضهم عند صعودها، وهي، في الواقع، امتداد للمطالبات السابقة نفسها ونتيجة جوهرية لها. وهذا ليس فقط في قضايا المرأة، بل كل القضايا الاجتماعية. المبادرة بسن تشريعات وقوانين وبرامج إصلاحية اجتماعية مدروسة بشكل سليم هو في صالح الوطن، أما تجاهل القضايا الاجتماعية فيؤدي إلى تعقيدها، وإلى إشكاليات أكثر تعقداً، وإلى ما هو أبعد من مجرد مطالبات اجتماعية. واتهام هذه المطالبات بأنها وجه للعمالة والغرب وفتنة هو نوعٌ من السذاجة في الرأي والعقل، الغرب مشغول بهمومه وقضاياه، كما نحن مهمومون بقضايانا وإشكالاتنا الاجتماعية والفكرية. لا مفرّ من المبادرة في سن تشريعات وإصلاحات وتعديلها، ولو تدريجياً، تصب في الصالح العام لقضايا المرأة والمجتمع بشكل أوسع.
تبدأ الإشكالية في السعودية بعدم وجود دراسات سوسيولوجية أو أنثروبولوجية جادة بشأن تشخيص حالة المرأة وقضاياها وصورتها داخلياً ومآلات الواقع الذي تعيشه. للأسف، أغلب ما يكتب مجرد "فضفضة" ولغة مشاعرية انطباعية، لا تستند إلى دراسات بحثية، ولا إلى تشخيص معرفي جاد.
ربما من الدراسات النادرة والجادة دراسة الباحثة الفرنسية، أميلي لورونار "النساء والفضاءات العامة في السعودية"، وترجمت للعربية بواسطة الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2013. حاولت أن تتقصى أنماط عيش الشابات السعوديات في الفضاءات الاجتماعية في السعودية، وتوصلت إلى أن هناك أربعه فضاءات حضرية وميادين أساسية للفتيات السعوديات، الجامعات ومراكز العمل والفضاءات الدينية وأخيراً المجمعات التجارية كفضاء اجتماعي واسع ومهم لهن. وقد عنيت الدراسة بمدينة الرياض أكثر من غيرها ميداناً بحثياً، والدراسة ممتعة لما فيها من بعد سوسيولوجي عالي المستوى في تجاوز كل معوقات إجراء دراسة اجتماعية في السعودية، خصوصاً عن المرأة، وهي دراسة جديرة بالاطلاع، ونموذج في تقديم القضية في قالب سوسيولوجي.
ربما يكون تعليم المرأة المرحلة الأولى التي حدثت حول الصراع الذي لم يحسم بشكل كامل، ابتداءً من قرار سيادي بفتح مدارس للطالبات إلى ممانعةٍ مضادة من التيار الديني الرسمي في ذلك الوقت. وقد أقرّت الحكومة السعودية التعليم الإلزامي منذ أكثر من خمسة عقود، و تقلصت معها الممانعة إلى أن تنمّطت بقالبٍ معين، ينحصر حالياً في فكرة "ولي الأمر"، وسيطرته على (الدراسة، الابتعاث، حضور الملتقيات العلمية، والمعاملات الحكومية، السماح بالسفر، إلخ). وبسبب التعليم، ومخرجاته من التوظيف وخروج المرأة إلى ساحات جديدة، تمدّدت مطالب المرأة السعودية وحاجاتها في الفضاءات العامة، مثل قيادة السيارة، وسن قانون التحرش والحماية الأسرية، إلى أن وصلت إلى سقف عالٍ، وهو المطالبة بإسقاط الولاية.
هذا التراكم المتصاعد في المطالبات النسوية التي تزداد يوماً بعد يوم مسار يعكس بعض معاناة المرأة السعودية التي تسلط الضوء حول القوانين والتشريعات الذكورية والأبوية، وأيضاً تروي شيئاً من معاناة الواقع شاهداً حياً على عمق الأزمة وتجذّرها اجتماعيا وثقافيا.
كانت المطالبات النسوية في العقدين الماضيين محدودة، وربما كان ما يخرج منها إلى الفضاء
التطور الجديد لهذا التيار الواسع والكبير هو رفع سقف المطالب إلى فكرة إسقاط الولاية التي تعتبر الحجرة العاثرة في طريق المرأة السعودية، كما يتم تصويره من الفاعلين في هذا التيار. وبما أن التيار والحملة تجاوزت المائة يوم، وتصرّ، في كل يوم، على المطالب نفسها، وأيضاً تروج أنه حق مشروع لهم. في المقابل، يقوم خصومٌ تقليديون "مناكفون" للإصلاح بشكل عام باتهام هذه المطالب بالعمالة للغرب، وزعزعة الداخل وإثارة الفتنة، هي النبرة التقليدية نفسها التي يصفع بها في وجه أي مطالب اجتماعية. وربما هذا النوع من الحملات المضادة هو تكتيك ونمط ثابت، هدفه التقليل من حدّة الحراك النسوي، وتحجيم مطالبه إلى درجة أن يتم تهميش القضية من الفضاء العام. ربما كان هناك في الحملات السابقة مبادر وفاعل داعم للحملة، بمجرّد أن يتم إيقاف هذا الصوت، تتراجع حدة المطالبات استجابةً للضغط المضاد، حكومياً كان أو حتى اجتماعياً. الجديد في الحملة، أخيراً، أنها كيان بلا رأس، أو مجموعاتٌ بلا قائد أو موجه لها، لأن الفاعلين والمطالبين ليسوا شخصيات اجتماعية بارزة، بل شرائح نسوية، وأيضاً أصوات رجالية مساهمة بدرجة أقل من أفراد المجتمع كافة.
النتيجة التي تحدث عن تجاهل المطالبات الاجتماعية أن جهاتٍ تعتقد أنها وأدت المطالب في مهدها، لكن الحقيقة أن المطالب تكبر ككرة الثلج يوماً بعد آخر، وتنمو في جوانب واتجاهات عدة، وتفاجئ هذه المطالبات بعضهم عند صعودها، وهي، في الواقع، امتداد للمطالبات السابقة نفسها ونتيجة جوهرية لها. وهذا ليس فقط في قضايا المرأة، بل كل القضايا الاجتماعية. المبادرة بسن تشريعات وقوانين وبرامج إصلاحية اجتماعية مدروسة بشكل سليم هو في صالح الوطن، أما تجاهل القضايا الاجتماعية فيؤدي إلى تعقيدها، وإلى إشكاليات أكثر تعقداً، وإلى ما هو أبعد من مجرد مطالبات اجتماعية. واتهام هذه المطالبات بأنها وجه للعمالة والغرب وفتنة هو نوعٌ من السذاجة في الرأي والعقل، الغرب مشغول بهمومه وقضاياه، كما نحن مهمومون بقضايانا وإشكالاتنا الاجتماعية والفكرية. لا مفرّ من المبادرة في سن تشريعات وإصلاحات وتعديلها، ولو تدريجياً، تصب في الصالح العام لقضايا المرأة والمجتمع بشكل أوسع.
هاشم الرفاعي
باحث وكاتب سعودي في علم الاجتماع، مهتم بدراسات علم الاجتماع الثقافية والدينية، ومهتم بدراسة الحركات الاجتماعية في الجزيرة العربية، مبتعث لدراسة علم الاجتماع في الولايات المتحدة.
هاشم الرفاعي
مقالات أخرى
02 ابريل 2017
22 فبراير 2017
07 فبراير 2017