20 نوفمبر 2024
هرتزل الحقيقي
ما عاد مخفيًّا أنه في إطار سعي اليمين الإسرائيلي، وقواه المتنوعة، إلى تكريس هيمنته، تتواتر، في العقد الأخير، الإجراءات الرامية إلى ضبط الثقافة السياسية لمجتمع دولة الاحتلال، بصفتها ثقافة استيطانية مرتبطة بالدوافع المسيانية، إلى جانب محاولات ترسيخ نظرته الأيديولوجية إزاء الصهيونية، وقمع أي مظهرٍ مُناهض، أو حتى مغاير، لهذه النظرة.
وفي الآونة الأخيرة، صرفتُ بعض الجهد في تقصّي انعكاس هذا السعي، في ما يرتبط تحديدًا بمؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل، وسرعان ما تراءى أمامي أن الغاية الرئيسية من ذلك تتمثل بالأساس في إعادة قراءة توجهات هرتزل، بخصوص عدة مسائل، في مقدمها "الشعب اليهودي" و"أرض إسرائيل" والديانة اليهودية. وفي استحصالٍ خاطف، يمكن الإشارة إلى أن الخلاصات التي يتوصل إليها أصحاب القراءات المستجدّة تتطلع إلى أن تثبت أن إخلاص هرتزل لـ"الشعب اليهودي" تجسّد في شعور الإلحاحية الذي دفعه إلى العمل من أجل إنقاذ اليهود إزاء كارثةٍ مُحدقة، كان يتوقعها "الهولوكوست"، وهو الشعور الذي دفعه إلى بلورة "مشروع أوغندا" ملجأ ليليا مؤقتا في سبيل إنقاذ يهود أوروبا. أمّا الصلة العميقة والوثيقة التي ربطته بـ"أرض إسرائيل"، فقد تجسّدت، فيما تجسّدت، في جهوده الكبيرة للحصول من الدول العظمى على موافقةٍ على إنشاء "بيت قومي في أرض إسرائيل"، وفي تأليف كتاب "ألطنويلاند". كما أن علاقته مع الديانة اليهودية كانت وثيقةً وعميقة، سواء على الصعيد الشخصي، أو كمركّب أساسي وعضوي، من سياسته ونبوءته، وهي ناجمة عن التربية اليهودية التي حصل عليها.
وتعالج عدة دراسات من السنوات الأخيرة المسائل السالفة، ومن بينها دراسات كل من البروفسور راحيل ألبويم ـ درور، ولا سيما كتابها "غد الأمس"، والبروفسور شلومو هرماتي "هرتزل وجابوتنسكي: ضوء جديد على نتاجهما"، ويتسحاق فايس "هرتزل: قراءة جديدة"، والبروفسور شلومو أفينيري "هرتزل"، ويورام حزوني "هل أراد هرتزل دولة يهودية؟".
ولاحظنا في الماضي أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، سارع إلى اقتباس ما خلصت إليه إحدى هذه الدراسات، ليتسحاق فايس، وخصوصًا قولها إن هرتزل اكتسب تربيةً يهوديةً، وإن كفاحه ضد معاداة السامية بدأ قبل أن يغطّي محاكمة درايفوس، صحافيا شابا، بكثير، فمثلًا، حين كان في الثالثة والعشرين من عمره، استقال من عضويته في رابطة الطلاب بسبب خطاب مُعاد للساميّة حادّ، ألقاه أحد قادتها. وفي خريف 1884، خطّط لإعداد تقرير مُطوّل "عن وضع اليهود في العالم". وقبل نشر أول خبر عن اعتقال درايفوس بعشرة أيام، شرع في كتابة مسرحية "الغيتو الجديد" التي توضح أن الحياة الليبرالية في فيينا أيضًا مجرد نوع آخر من الغيتو. وفي الخطاب الذي ألقاه في افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، قال هرتزل إن "الصهيونية هي بمنزلة عودة إلى اليهودية، قبل العودة إلى أرض اليهود".
ولا ينفي شلومو أفينيري، وهو من رموز حركة العمل الصهيونية، أن هرتزل كان علمانيًا، لكنه، في الوقت عينه، يؤكد أنه في جميع مؤلفاته ونشاطاته يعبّر ليس فقط عن احترامه الدين، كما يترتب على مواقف "إنسان ليبرالي" كما وصفه، إنما أيضًا عن وعي عميق حيال مكانة الدين ودوره في تصميم الهوية اليهودية بصورة تاريخية، وحيال حضوره في الواقع اليهودي الحديث أيضًا. ويسند هذه الخلاصة بفحوى خطابه الذي طرح، من خلاله، مشروعًا في افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول، مشيرًا إلى أنه، بهذه الروح، كان حريصًا أيضًا على التأكد، قبل اتخاذ قرار عقد المؤتمر في بازل تحديدًا، من توفر مطعم "كوشير" (حلال) في المدينة. وتضمن نصّ الدعوة التي صدرت بتوقيعه الشخصي تعهدًا بأن "في بازل نُزُلًا حلالًا"! ووفقًا لأفينيري، القول إنه "لا يهودية في نبوءة هرتزل" يفتقر إلى أي سندٍ في الواقع.
وفي قراءة يورام حزوني، أراد هرتزل "دولة يهودية" لا "دولة يهود"، وشتّان ما بين المصطلحين، ووجدت إرادته هذه تعبيرًا عنها كما يجب في "وثيقة تأسيس إسرائيل".
وفي الآونة الأخيرة، صرفتُ بعض الجهد في تقصّي انعكاس هذا السعي، في ما يرتبط تحديدًا بمؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل، وسرعان ما تراءى أمامي أن الغاية الرئيسية من ذلك تتمثل بالأساس في إعادة قراءة توجهات هرتزل، بخصوص عدة مسائل، في مقدمها "الشعب اليهودي" و"أرض إسرائيل" والديانة اليهودية. وفي استحصالٍ خاطف، يمكن الإشارة إلى أن الخلاصات التي يتوصل إليها أصحاب القراءات المستجدّة تتطلع إلى أن تثبت أن إخلاص هرتزل لـ"الشعب اليهودي" تجسّد في شعور الإلحاحية الذي دفعه إلى العمل من أجل إنقاذ اليهود إزاء كارثةٍ مُحدقة، كان يتوقعها "الهولوكوست"، وهو الشعور الذي دفعه إلى بلورة "مشروع أوغندا" ملجأ ليليا مؤقتا في سبيل إنقاذ يهود أوروبا. أمّا الصلة العميقة والوثيقة التي ربطته بـ"أرض إسرائيل"، فقد تجسّدت، فيما تجسّدت، في جهوده الكبيرة للحصول من الدول العظمى على موافقةٍ على إنشاء "بيت قومي في أرض إسرائيل"، وفي تأليف كتاب "ألطنويلاند". كما أن علاقته مع الديانة اليهودية كانت وثيقةً وعميقة، سواء على الصعيد الشخصي، أو كمركّب أساسي وعضوي، من سياسته ونبوءته، وهي ناجمة عن التربية اليهودية التي حصل عليها.
وتعالج عدة دراسات من السنوات الأخيرة المسائل السالفة، ومن بينها دراسات كل من البروفسور راحيل ألبويم ـ درور، ولا سيما كتابها "غد الأمس"، والبروفسور شلومو هرماتي "هرتزل وجابوتنسكي: ضوء جديد على نتاجهما"، ويتسحاق فايس "هرتزل: قراءة جديدة"، والبروفسور شلومو أفينيري "هرتزل"، ويورام حزوني "هل أراد هرتزل دولة يهودية؟".
ولاحظنا في الماضي أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، سارع إلى اقتباس ما خلصت إليه إحدى هذه الدراسات، ليتسحاق فايس، وخصوصًا قولها إن هرتزل اكتسب تربيةً يهوديةً، وإن كفاحه ضد معاداة السامية بدأ قبل أن يغطّي محاكمة درايفوس، صحافيا شابا، بكثير، فمثلًا، حين كان في الثالثة والعشرين من عمره، استقال من عضويته في رابطة الطلاب بسبب خطاب مُعاد للساميّة حادّ، ألقاه أحد قادتها. وفي خريف 1884، خطّط لإعداد تقرير مُطوّل "عن وضع اليهود في العالم". وقبل نشر أول خبر عن اعتقال درايفوس بعشرة أيام، شرع في كتابة مسرحية "الغيتو الجديد" التي توضح أن الحياة الليبرالية في فيينا أيضًا مجرد نوع آخر من الغيتو. وفي الخطاب الذي ألقاه في افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، قال هرتزل إن "الصهيونية هي بمنزلة عودة إلى اليهودية، قبل العودة إلى أرض اليهود".
ولا ينفي شلومو أفينيري، وهو من رموز حركة العمل الصهيونية، أن هرتزل كان علمانيًا، لكنه، في الوقت عينه، يؤكد أنه في جميع مؤلفاته ونشاطاته يعبّر ليس فقط عن احترامه الدين، كما يترتب على مواقف "إنسان ليبرالي" كما وصفه، إنما أيضًا عن وعي عميق حيال مكانة الدين ودوره في تصميم الهوية اليهودية بصورة تاريخية، وحيال حضوره في الواقع اليهودي الحديث أيضًا. ويسند هذه الخلاصة بفحوى خطابه الذي طرح، من خلاله، مشروعًا في افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول، مشيرًا إلى أنه، بهذه الروح، كان حريصًا أيضًا على التأكد، قبل اتخاذ قرار عقد المؤتمر في بازل تحديدًا، من توفر مطعم "كوشير" (حلال) في المدينة. وتضمن نصّ الدعوة التي صدرت بتوقيعه الشخصي تعهدًا بأن "في بازل نُزُلًا حلالًا"! ووفقًا لأفينيري، القول إنه "لا يهودية في نبوءة هرتزل" يفتقر إلى أي سندٍ في الواقع.
وفي قراءة يورام حزوني، أراد هرتزل "دولة يهودية" لا "دولة يهود"، وشتّان ما بين المصطلحين، ووجدت إرادته هذه تعبيرًا عنها كما يجب في "وثيقة تأسيس إسرائيل".