بقوارب صيّاديها الصغيرة المتناثرة أمام شاطئها، وبمنازلها البيضاء المتوارية خلف أشجار التين، تستقبلك مدينة هرقلة التونسية. لا ضجيج هنا سوى ضجيج الأمواج، ولا سُيَّاح سوى هؤلاء الذين اختاروا العزلة بعيداً عن صخب المدن الكبرى. المدينة التي لم تؤخذ بمغريات السياحة، فلم تحوّل بيوتها القديمة إلى فنادق، وظلت تعيش على الصيد والزراعة، اختارت أن تؤسس لنفسها، عام 2005، مهرجاناً سينمائياً يحتفي بالأفلام الملتزمة، أي تلك التي ترى في الفن نقداً للواقع ومحاولة لتلافي الخلل الذي يعتريه.
هكذا، انطلق هذا المهرجان من قاعدة أن السينما سليلة الحياة، وأن على الفن السابع، وفقاً لهذا الاعتبار، أن يسهم في تحرير هذه الحياة. وقد أرادت الهيئة المؤسسة لـ"ملتقى هرقلة السينمائي" أن يكون فضاءً يلتقي فيه شباب ضفتي المتوسط وجنوب الصحراء، ليقدّموا تجاربهم ومشاريعهم باختلاف لغاتها وأساليبها.
طموح كبير، يتمثل في تحويل المهرجان إلى ورشة عمل كبيرة، تتنافس فيها التجارب الشابة. بعد نحو 10 سنوات، ما تزال جذوة هذا الطموح متّقدة، وما تزال قوية وجديّة تلك الرغبة في مهرجان كبير يحتفي بالسينما المتوسطية والأفريقية.
يتجلى كل هذا الحماس والطموح في الدورة العاشرة من المهرجان، الذي اختار تكريم السينما المناضلة في البلاد العربية والإفريقية، وفي مقدمتها السينما الفلسطينية.
هكذا، افتتحت، في 26 من آب/ أغسطس الماضي، فعاليات المهرجان بالوثائقي القصير "غزة – غير صالح للعرض"، للمخرج عبد السلام أبو عسكر. الفيلم الذي عُرض في معصرة زيتون تقليدية أعدّت لهذا الغرض، يحكي صمود غزة في وجه المحتل الإسرائيلي، ويقدم شهادة على الجرائم التي يرتكبها الصهيوني في حق الإنسان الفلسطيني.
وعُرض، في سهرة الافتتاح أيضاً، "الغوستو"، وهو وثائقي للجزائرية صافيناز بوصبيعة، تكرّم فيه رواد الموسيقى الشعبية في بلدها، مبرزة ثراء الذاكرة الموسيقيّة الجزائرية وتنوّع روافدها الثقافيّة.
كما احتفى المهرجان بالسينما الإفريقية من خلال تكريم المخرج المالي سليمان سيسيه الحائز، عام 1987، على الجائزة الخاصة للجنة التحكيم في مهرجان "كان" عن شريطه "يالن". وكان من هذا الاحتفاء أن عُرض شريط وثائقي لسيسّيه، يروي فيه، بلغة سينمائية راقية، مسيرة المخرج السينمائي السنغالي الشهير عصمان صمبان، أول متوّج بـ"التانيت الذهبي" في أول دورة من "أيام قرطاج السينمائية"، عام 1966، عن فيلم "سوداء فلان".
وكرّم الملتقى السينما الرواندية في ذكرى مرور عشرين سنة على جريمة الإبادة الجماعية، عبر عرض عدد من إنتاجاتها، واستضافة أحد أهم وجوهها، المخرجة ماري كليمانتين.
وكان للمهرجان وقفة لدى السينما التونسية التي قاومت، خلال سنوات الجمر، استبداد زين العابدين بن علي، عبر عرض وثائقي "مرّ الكلام" لسعد الجموسي الذي يروي فيه الدور الذي لعبه المثقفون لمناهضة الدكتاتورية عام 2004.
كما أتاح المهرجان للمشاهد التونسيّ الاطلاع على جديد السينما التسجيلية في البلاد العربية والإفريقية؛ أفلام توثّق لجرائم المستبدين والمستعمرين وتسجّل، في الوقت نفسه، نضالات الشعوب التي تصبو إلى حياة أفضل.
المهرجان الذي شهد نقاشات وورشات عمل هدفها "تبادل أفكار وتجارب مهنيي السينما مع الشباب"، أسدل ستاره مع "المرأة التي تزرع الأشجار" وهو عرض مسرحي لفرقة "صوت القريوو" الذي يستعرض سيرة المناضلة الكينية الراحلة وانغاري ماثاي.