يُعد الدولار الأميركي أحد أهم أدوات الهيمنة الأميركية على "النظام العالمي"، إلى جانب المؤسسات المالية المشتركة التي تتكون من صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي.
وربما تكون القوة العسكرية الأميركية تأتي في المرتبة الثانية مقارنة بالقوة المالية ضمن الأسلحة التي تستخدمها واشنطن في الهيمنة العالمية، خاصة في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب. إذ إن إدارة الرئيس ترامب استخدمت الدولار بكثافة خلال السنوات الأخيرة في الحظر الاقتصادي ضد الدول التي تختلف معها في السياسة الخارجية، أو تعترض على القرارات التي ترغب واشنطن في تمريرها عبر الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المشتركة الأخرى.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وأفول شمس الإمبراطورية البريطانية، حلت "الورقة الخضراء" محل الجنيه الإسترليني، وباتت العملة الأميركية المهيمنة على النظام المالي والنقدي العالمي.
وكان الدولار مغطى بالذهب حتى منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي، وبالتالي كان محكوماً من حيث حجم الكتلة النقدية المتداولة بسعر الذهب، ولكن أميركا اضطرت للتخلي عن هذا الربط، حينما خاضت الحرب الفيتنامية الطويلة والمكلفة التي اضطرتها لزيادة الإنفاق بالميزانية الدفاعية، وبالتالي باتت غير قادرة على الدفاع عن سعر صرف الدولار المقوم بالذهب. وهو ما اضطرها لاحقاً إلى عقد معاهدة غير معلنة مع السعودية لبيع النفط بالدولار في العام 1976 خلال عهد الرئيس ريتشارد نيكسون.
ومنذ ذلك الوقت بات النفط واحداً من أهم أدوات الغطاء، إلى جانب قوة الصادرات، للحفاظ على الطلب العالمي القوي على العملة الأميركية، إذ تحتاجها جميع الدول لدفع فاتورة الطاقة. وبلغت حصة الدولار في الاحتياطات الدولية، خلال العام الماضي، نحو 63%، بسبب حاجة دول العالم والشركات الكبرى للدولارات التي باتت عملة الديون الرئيسية في العالم، وذلك حسب إحصائيات صندوق النقد الدولي.
ويلاحظ أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تأبه بالعجز التجاري أو حجم الديون السيادية التي ارتفعت إلى أكثر من 26 ترليون دولار في عهد الإدارة الحالية. ويعود عدم الاهتمام إلى هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي وقدرة واشنطن على طباعة ما تريده من دولارات، فالكل يحتاج إلى الدولار، سواء لتسوية فواتير الواردات أو لشراء المحروقات، أو حتى للاستثمار في سندات الخزانة الأميركية التي باتت خزينة العالم التي تضع فيها الدول والشركات فوائضها وادخاراتها.
على صعيد الغطاء النفطي للدولار، استفادت المصارف التجارية الأميركية عبر توظيف فوائض "البترودولار"، التي وفرت لها سيولة هائل مقارنة بالبنوك المنافسة سواء في أوروبا أو اليابان.
على صعيد المؤسسات المالية الدولية المشتركة وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين تستخدمهما الولايات المتحدة لدعم سياستها الخارجية، كشفت العديد من الدراسات أن قروض صندوق النقد والشروط المصاحبة لها تصمم وفقاً لمقياس تصويت الدولة مع قرارات واشنطن في الأمم المتحدة والمؤسسات العالمية المشتركة. وقد استخدمت واشنطن كلا من الصندوق والبنك الدوليين بكثافة خلال الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي.
وعلى الرغم من أن صندوق النقد الدولي مؤسسة دولية مشتركة تساهم في رأس مالها معظم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ولكن من الناحية العملية تسيطر عليه الولايات المتحدة، التي تبلغ حصتها في رأس المال 17%، كما تستخدم واشنطن لتعزيز هذه السيطرة تصويت الكتلة الأوروبية لصالح قراراتها. وبالتالي تحدد الولايات المتحدة حجم القروض التي يمنحها الصندوق للدول التي تعاني من اختلالات مالية، وكذلك نوعية الشروط الاقتصادية المصاحبة للصندوق.
وعادة ما تتدخل البنوك التجارية الأميركية بشكل غير مباشر في وضع برامج الإصلاح الاقتصادي وشروط "الهيكلة الاقتصادية" التي تصاحب القروض الممنوحة، وذلك ببساطة لأن هذه المصارف هي التي تكون الوسيط في صرف قروض الصندوق للدول.
وتصمم شروط صندوق النقد الدولي على أساس علاقة الدول بسياسات واشنطن، فإذا كانت الدولة الطالبة للقروض حليفة للولايات المتحدة وتخدم سياساتها الخارجية، فإن الشروط المصاحبة للقروض عادة ما تكون بسيطة. أما في حال كانت هذه الدول معارضة للسياسات الخارجية الأميركية، فإن الشروط المصاحبة للقرض تكون مشددة ومصممة على أساس برنامج تقشفي قاسٍ.
وترمي أميركا من تصميم شروط التقشف القاسية في القروض الممنوحة إلى الدول غير الصديقة أو المصنفة في خانة العداء إلى إحداث اضطرابات سياسية واحتجاجات شعبية تقود تلقائياً إلى تغيير النظام. وقد استخدمت واشنطن هذه السياسة ببراعة فائقة خلال الحرب الباردة التي سقطت خلالها العديد من الأنظمة في أفريقيا وأميركا اللاتينية. ونفذت هذه السياسات تحت مظلة "احتواء الشيوعية" في العالم.
وكشفت وثيقة سرية لموقع ويكليكس، في العام الماضي، أن الجيش الاميركي ينظر إلى المؤسسات المالية الكبرى في العالم، مثل البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على أساس أنها أسلحة غير تقليدية يمكن استخدامها لتحقيق مصالح الولايات المتحدة.
وتشير الوثيقة إلى أن الولايات المتحدة يمكنها استخدام المؤسسات المالية الكبرى كوسيلة للحرب الاقتصادية في أوقات النزاع وصولاً إلى حرب شاملة واسعة النطاق، وكذلك استخدام سياسات الاستثمار والاقتراض كوسائل ضغط للتعاون مع الولايات المتحدة. كما تقول الوثيقة إن "المؤسسات المالية العالمية تعتبر امتداداً للقوة السياسية والمالية للولايات المتحدة، وأنها جزء لا يتجزأ من وسائل الهيمنة الأميركية على العالم.
وعادة ما تحتاج أميركا إلى المؤسسات الدولية لإضفاء شرعية على السياسات المعتمدة والحروب التي تخوضها في مناطق العالم الاستراتيجية من حيث الموقع الجغرافي أو المعادن والسلع التي يحتاجها العالم. وربما تكون هذه واحدة من أزمات المنطقة العربية مع واشنطن.