"كان النظام يعدّ مدينة حمص عدواً أساسياً، إذ رفعت صوتها ضدّ قتل المدنيّين في درعا". محمد السباعي جازم حول الأمر، ويروي ما شهده بأمّ العين من نزوح وقصف وقتل.
"في مثل هذه الأيام، قبل خمس سنوات تقريباً، كنت لا أزال طالباً جامعياً في التجارة والاقتصاد. كانت لديّ أحلام كثيرة، لكن مع بداية الثورة في عام 2011 وانطلاق التظاهرات في باب السباع، أحد أحياء مدينة حمص، حيث أسكن، تركت دراستي ورحت أعمل على توثيق التحرّكات وعمليات إطلاق النار على المتظاهرين، بالإضافة إلى عمليات الدهم والاعتقالات التي كانت تجري في المدينة". هكذا يبدأ محمد السباعي، المتحدّث باسم "مركز حمص الإعلامي"، روايته حول ما شهده خلال السنوات الأخيرة.
اليوم، يستعيد السباعي، الذي يقيم في حيّ الوعر المحاصر، وهو "آخر معاقل المعارضة في مدينة حمص والمهدّد بالتهجير" بحسب ما يشير، شهر فبراير/ شباط من عام 2012. في ذلك الحين، استهدفت قوات النظام السوري الأحياء السكنية المناهضة له في مدينة حمص، الأمر الذي تسبّب في سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى بالإضافة إلى النزوح والدمار الكبيرَين اللذَين خلّفهما. ويخبر أنّ "قبل ذلك، عشنا أحداثاً عدّة من قبيل عمليات دهم في أحياء باب السباع وكرم الزيتون والخالدية والبياضة والعدوية وحمص القديمة والقصور والقرابيص وبابا عمرو والإنشاءات والغوطة والحمرا، وكذلك في أحياء أخرى خرجت عن سيطرة النظام. وكلّ عملية دهم كانت تنّفذها قواته، كانت تترافق مع حملات اعتقال واسعة النطاق طاولت عدداً كبيراً من الشبان والشابات، إلى جانب أعمال ترهيب كثيرة. وكلّ ذلك بهدف إسكات صوت حمص. لكنّنا بقينا ننادي بمطالبنا في الحرية وبإسقاط النظام".
يتابع الشاب الناشط أنّ "الأوضاع بقيت على حالها بين تظاهرة واعتقال وقتل، حتى شهر شباط/ فبراير من عام 2012، حين حشد النظام قواته وكذلك فعل حلفاؤه على أطراف حمص، فاستهدفت أحياء المدينة بقذائف الهاون والصواريخ. تركّز القصف على أحياء حمص، خصوصاً الخالدية وكرم الزيتون و بابا عمرو".
يتوقّف السباعي قليلاً عن الكلام، كأنّما مشاهد ذلك الزمن تمرّ أمامه، قبل أن يقول: "كان شباط ذاك، شهراً مهولاً. لم نكن حينها قد اختبرنا القصف بعد. قصف عنيف سبق اقتحام حيّ بابا عمرو، لينجح أخيراً في 29 فبراير/ شباط من العام نفسه. وفي الأوّل من مارس/ آذار من العام نفسه، انسحبت الفصائل المعارضة عقب 26 يوماً من القصف العنيف على الحيّ. وبعد أيام، في 12 مارس/ آذار، ارتكبت قوات النظام وحلفاؤها مجزرة مروّعة في كرم الزيتون راح ضحيّتها ما لا يقلّ عن 50 مدنياً. كذلك طاولت المجزرة حيَّي العدوية والرفاعي المجاورين، ليصبح إجماليّ القتلى أكثر من مائة". يضيف: "خرجت إلى حيّ كرم الزيتون ووثّقت ما جرى. رأيت كيف كان المدنيون يأتون من حيّ الرفاعي مشياً على الأقدام، حفاة، من شدّة الخوف". ويتابع أنّ "القصف المكثّف والعشوائي على حيَّي كرم الزيتون وعشيرة بقذائف الهاون، اضطر المدنيّين إلى النزوح بأعداد كبيرة، في اتجاه مناطق كانت تُعدّ أكثر أماناً حينها، من قبيل حيّ باب السباع المجاور. أمّا أعداد أخرى فتوجّهت إلى دمشق، فيما بقي البعض في حمص القديمة. فقام النظام بحملات اعتقال واسعة النطاق، عند الحواجز العسكرية التي كان يعبرها المدنيون".
ويكمل السباعي أنّ "في كرم الزيتون، لم يبقَ سوى الثوّار وعدد من الناشطين، في حين بقي المشفى الميداني وحده يعمل لأيام عدّة فقط. ثمّ راح النظام يقتحم أحياء العشيرة والرفاعي وكرم الزيتون بالدبابات. فتراجعنا إلى باب السباع وباب الدريب، فيما استمرّ هو بسياساته نفسها حتى هجّر أهالي باب السباع والعدوية وجب الجندلي ومنطقة المساكن، إلى حمص القديمة والوعر. بعد ذلك، فرض النظام حصاراً مطبقاً على حمص القديمة استمرّ نحو سنة ونصف السنة. وهو الأمر الذي أجبر المقاتلين في نهاية الأمر، بعد الجوع ونقص الأسلحة، إلى توقيع اتفاقية تقضي بخروجهم إلى الريف الشمالي المحاصر كذلك".
ويلفت السباعي إلى أنّه "بعد تهجير حمص القديمة، لجأ النظام إلى ضرب طوق عسكري على حيّ الوعر وفرض عليه حصاراً خانقاً طوال ثلاث سنوات، منع خلالها إدخال الأدوية والمحروقات إلى نحو مائة ألف مدني محاصرين في داخله. فقط بعض المساعدات الإنسانية دخلت إلى الحيّ في فترات متباعدة زمنياً".
وهو يروي ما عاشه، لا تفارق الغصّة السباعي. لكنّه يستعيد في النهاية نبرة صوته المليئة بالإصرار والأمل، ويقول: "والله لن نتنازل عن أيّ مطلب من مطالبنا. وعلى الرغم من كلّ المحن التي عصفت بمدينتنا الغالية حمص، ومهما طالت أيام الظالمين، فسوف يسقطون. وسوف تعود حمص عاصمة الحرية، التي ضحّت بأغلى ما تملك، وسوف تعود إلى أهلها وأولادنا". ويعبّر ابن حمص عن ثقته برؤية بلاده "معمّرة ويعمّها الخير. وأتمنّى أن أجتمع بأهلي وأصدقائي وأقاربي، وأكمل دراستي، وأبقى في بلادي أخدمها حتى تعود أحلى وأفضل ممّا كانت". ويؤكّد: "أنا مستعدّ للموت في بلادي ولا أغادرها، على الرغم من أنّ فرصاً عدّة توفّرت لي للخروج منها. لكنّني مؤمن بقضاء الله وقدره، ولن أغادر سورية ولو كلّفني ذلك حياتي".