31 أكتوبر 2024
هل المنطقة على أعتاب حربٍ كبرى؟
يبدو الهرم الذي بنته إيران على مدار عقود طويلة على رقعة شطرنج الشرق الأوسط، اليوم، مهدّداً بالانهيار، بسبب جفاف العروق التي تمدّه بالتغذية، بعد الحكم الأميركي على النفط الإيراني بالحبس إلى أجل غير مسمى. وهكذا، سيكون محكوماً على عشرات الميليشيات، وعشرات آلاف العناصر، بالتبدّد في نواحي الشرق الأوسط، وتوضيب حقائبهم للبحث عن وسائل أخرى للرزق، ما دامت إيران نفسها لن تكون قادرةً على تأمين احتياجات شعبها الواقف على ناصيات الشوارع، يبحث عن مظاهرة سيارة تهتف "اتركوا سورية وحزب الله واهتموا بنا".
ويضع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إيران في موقفٍ لم تجد نفسها بمثله، حتى في اللحظة التي كان يتجرّع روح الله الخميني فيها السم وهو يوقف إطلاق النار في الحرب مع العراق، حينها كان الخميني يخسر على جبهةٍ واحدة، كما أن الجمهورية الإسلامية لم تكن قد أصبحت إمبراطوريةً تتحكّم بعواصم عربية أربع، ولا تصول وتجول في ثلاثة بحار، الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر المتوسط. ولم تكن قد تذوّقت بعد طعم العز النووي، والعالم كله يفاوضها على تأجيل مشروعها إلى عقد آخر، في مقابل أن يتحول الشرق الأوسط إلى ميدان لمليشياتها، إلى درجة صار الملالي يجلسون على هضبة إيران ويمدون سيقانهم في ربوع العراق وسورية ولبنان واليمن.
ثمّة فارق هائل إذاً بين الأمس واليوم، فإيران باتت ملزمةً تجاه جيوش جرّارة في الشرق الأوسط، تحتاج إلى ضخ يومي من الأموال لتبقيها واقفة على أقدامها تحرس العتبات المقدسة والمفاصل الاستراتيجية وحوافّ الحدود، في مساحة جغرافية واسعة مهّدت تربتها بالتطهير العرقي، تحت ادعاء أنها إنما تفعل ذلك وبوصلتها موجهة إلى القدس. وهكذا صارت بعقوبة والموصل وحلب وحمص والغوطة ودرعا مجرّد محطات على الطريق المقدس. وليست
الجيوش وحدها هي التي تنتظر التغذية المالية الإيرانية، بل إن عشرات ومئات الآلاف الذين شيعتهم إيران على طول هذه الطريق ينتظرون مرتبات آخر الشهر، ليعزّزوا إيمانهم بنهج آل البيت.
هو مشروع، هكذا أطلق عليه الاستراتيجيون، وإيران نفسها، وإن اختلفت التسميات ما بين الهلال الشيعي أو مناطق النفوذ الإيراني، وحتى الشرق الأوسط الإيراني. وهذا المشروع هو الذي سيتعرّض لضربة في المقتل في حال نفذت أميركا قرار عقوباتها بإحكام، وهو ما يبدو أنه سيحصل، حتى لو خالفت الصين وتركيا القرار الأميركي، فلن تستطيعا تعويض سوى قدر بسيط لبلدٍ يعتمد على أموال النفط بدرجة كبيرة لتسيير شؤونه وتدبير شؤون نفوذه الإقليمي الواسع.
هذا المشروع الذي كلف إيران أكثر من مئة مليار دولار لإنقاذ نظام الأسد من السقوط، واستغرق بناؤه زماً طويلاً، منذ بداية الثمانينيات، حين كان حزب الله لا يتجاوز عناصره المئات، يترصد الدوريات الإسرائيلية على طريقة اضرب واهرب، وصار اليوم جيشاً تغطي صواريخه كامل أرض فلسطين، وأين الجيش العراقي بالمقارنة مع الحشد الشعبي، بالإضافة إلى الجيش الموازي للجيش السوري، فهل ستسكت إيران ويجلس حرسها الثوري على قمم جبال زاغروس يراقب عملية تفكك إمبراطوريته في الشرق الأوسط؟
تعرف إيران أن المال وحده هو ما يبقي تأثيرها في المنطقة، ومجرّد توقف حنفية المال، فإن كل ما يبدو في ناظرها سهولاً خضراء وغناء من النفوذ والأتباع والموالين، سيتصحر وتجف الحياة في عروقه، ويتحوّل إلى هشيم تذروه الريح. حزب الله نفسه سيكون مهدّداً بالزوال، فقد اعتاد على البذخ في الصرف على عناصره، وبيئته، وأسر شهدائه، ويعاني اليوم تقلصاً رهيبا في مصادر تمويله.
من الناحية العملية، لا تملك إيران خيارات مهمة للمناورة في وجه القرار الأميركي، ويبدو هامش اللعب أمامها محصورا بخيارين، الانكفاء إلى الداخل، ومعالجة ما يمكن معالجته إلى حين تغير الظروف، أو الاندفاع صوب حربٍ ليست مستعدة لها، ولا تضمن نتائجها، في ظل ميزان القوى المائل لصالح أعدائها، وحالة الإنهاك التي تعانيها مليشياتها نتيجة سنوات طويلة من الحروب استنزفتها كليا.
على الرغم من ذلك، لا يبدو خيار الانكفاء مناسباً للنخبة الإيرانية، لما له من مخاطر وجودية
عليها، فهذه النخبة ليس لها مشروع تنموي، ولا ديمقراطي، والداخل بالنسبة لها ليس مرئياً إلا بصفته رافداً لمشروع إيران الإقليمي، وليست لديها بدائل ذات قيمة في هذا المجال، فالتنمية مهمة، بقدر ما هي قادرة على إنتاج الأدوات التشغيلية لمشروع التمدّد الإقليمي (أسلحة وصناعات حربية بما فيها المشروع النووي)، والعملية السياسية برمتها ليس لها معنى سوى ترتيب شؤون التمدّد الإقليمي، وتدبير مقتضياته.
لن يقبل نظام إيران المفاضلة بين الانكفاء للداخل ومشروعه الإقليمي، ولن يستطيع التعايش مع هذا الواقع. وعلى الرغم من حذره الشديد، وميله إلى الابتعاد عن اللعب العنيف مع الأقوياء، إلا أن نظام الملالي سيكون مضطراً لخياراتٍ كان يعتقد، على الدوام أنه قادر على تجنبها، عبر استراتيجية الصبر الاستراتيجي لحائك السجاد، ومن خلال التلطّي خلف الوكلاء، أو عبر قضم الخصوم الصغار قطعةً قطعة، ليصبح في حسابات اللاعبين الكبار طرفاً مهماً بحكم الأمر الواقع.
ستحاول إيران بكل الطرق الثورة على قرار تعطيل فعاليتها ودحرها إلى داخل حدودها، وستضطر للاحتكاك مع أميركا وإسرائيل، وربما التحرّش بدول الخليج العربي، وعند هذه النقطة سوف تندلع حرب إقليمية كبرى.
ثمّة فارق هائل إذاً بين الأمس واليوم، فإيران باتت ملزمةً تجاه جيوش جرّارة في الشرق الأوسط، تحتاج إلى ضخ يومي من الأموال لتبقيها واقفة على أقدامها تحرس العتبات المقدسة والمفاصل الاستراتيجية وحوافّ الحدود، في مساحة جغرافية واسعة مهّدت تربتها بالتطهير العرقي، تحت ادعاء أنها إنما تفعل ذلك وبوصلتها موجهة إلى القدس. وهكذا صارت بعقوبة والموصل وحلب وحمص والغوطة ودرعا مجرّد محطات على الطريق المقدس. وليست
هو مشروع، هكذا أطلق عليه الاستراتيجيون، وإيران نفسها، وإن اختلفت التسميات ما بين الهلال الشيعي أو مناطق النفوذ الإيراني، وحتى الشرق الأوسط الإيراني. وهذا المشروع هو الذي سيتعرّض لضربة في المقتل في حال نفذت أميركا قرار عقوباتها بإحكام، وهو ما يبدو أنه سيحصل، حتى لو خالفت الصين وتركيا القرار الأميركي، فلن تستطيعا تعويض سوى قدر بسيط لبلدٍ يعتمد على أموال النفط بدرجة كبيرة لتسيير شؤونه وتدبير شؤون نفوذه الإقليمي الواسع.
هذا المشروع الذي كلف إيران أكثر من مئة مليار دولار لإنقاذ نظام الأسد من السقوط، واستغرق بناؤه زماً طويلاً، منذ بداية الثمانينيات، حين كان حزب الله لا يتجاوز عناصره المئات، يترصد الدوريات الإسرائيلية على طريقة اضرب واهرب، وصار اليوم جيشاً تغطي صواريخه كامل أرض فلسطين، وأين الجيش العراقي بالمقارنة مع الحشد الشعبي، بالإضافة إلى الجيش الموازي للجيش السوري، فهل ستسكت إيران ويجلس حرسها الثوري على قمم جبال زاغروس يراقب عملية تفكك إمبراطوريته في الشرق الأوسط؟
تعرف إيران أن المال وحده هو ما يبقي تأثيرها في المنطقة، ومجرّد توقف حنفية المال، فإن كل ما يبدو في ناظرها سهولاً خضراء وغناء من النفوذ والأتباع والموالين، سيتصحر وتجف الحياة في عروقه، ويتحوّل إلى هشيم تذروه الريح. حزب الله نفسه سيكون مهدّداً بالزوال، فقد اعتاد على البذخ في الصرف على عناصره، وبيئته، وأسر شهدائه، ويعاني اليوم تقلصاً رهيبا في مصادر تمويله.
من الناحية العملية، لا تملك إيران خيارات مهمة للمناورة في وجه القرار الأميركي، ويبدو هامش اللعب أمامها محصورا بخيارين، الانكفاء إلى الداخل، ومعالجة ما يمكن معالجته إلى حين تغير الظروف، أو الاندفاع صوب حربٍ ليست مستعدة لها، ولا تضمن نتائجها، في ظل ميزان القوى المائل لصالح أعدائها، وحالة الإنهاك التي تعانيها مليشياتها نتيجة سنوات طويلة من الحروب استنزفتها كليا.
على الرغم من ذلك، لا يبدو خيار الانكفاء مناسباً للنخبة الإيرانية، لما له من مخاطر وجودية
لن يقبل نظام إيران المفاضلة بين الانكفاء للداخل ومشروعه الإقليمي، ولن يستطيع التعايش مع هذا الواقع. وعلى الرغم من حذره الشديد، وميله إلى الابتعاد عن اللعب العنيف مع الأقوياء، إلا أن نظام الملالي سيكون مضطراً لخياراتٍ كان يعتقد، على الدوام أنه قادر على تجنبها، عبر استراتيجية الصبر الاستراتيجي لحائك السجاد، ومن خلال التلطّي خلف الوكلاء، أو عبر قضم الخصوم الصغار قطعةً قطعة، ليصبح في حسابات اللاعبين الكبار طرفاً مهماً بحكم الأمر الواقع.
ستحاول إيران بكل الطرق الثورة على قرار تعطيل فعاليتها ودحرها إلى داخل حدودها، وستضطر للاحتكاك مع أميركا وإسرائيل، وربما التحرّش بدول الخليج العربي، وعند هذه النقطة سوف تندلع حرب إقليمية كبرى.