تُعتبر مدينة داريا في ريف دمشق، أكبر مدن الغوطة الغربية، من أهم قلاع المعارضة المسلحة التي تعوّل على إسقاط النظام السوري، وأكثرها استنزافاً له على الصعيد العسكري، اذ لم تنجح جميع المحاولات التي قام بها جيش النظام لاقتحام المدينة التي تبعد ثمانية كيلومترات عن العاصمة، وتتعرّض لحصار واسع منذ ديسمبر/كانون الأول 2012، لتبقى معارك الكرّ والفرّ هي السمة السائدة بين الطرفين.
وتقوم استراتيجية النظام على التعامل مع كل منطقة على حدة، وإظهار أنه غير مكترث للمفاوضات، بهدف جرّ الطرف الآخر إليها، بعد فرض حصار اقتصادي كبير، إلا أنه في مدينة داريا تحديداً، لجأ أخيراً إلى الاستفادة من الهدن العديدة التي وقّعها في دمشق وريفها، والتي كان آخرها في حي العسالي، لعقد هدنة من موقع القوة، بعد أن بذل جهوداً عديدة في وقت سابق لإقناع أبناء المدينة بمجرد الدخول في مفاوضات.
ويتجلّى ذلك في تأجيل النظام لثلاثة مواعيد اتفق فيها مع وفد مفاوض عن أبناء المدينة، ممثلاً بمفتي ريف دمشق عدنان الأفيوني، كان أحد أسباب هذه التأجيل توحّد جميع القوى العسكرية والمدنية في مدينة داريا، بممثلين عنهم تحت مسمى "الهيئة الرئاسية لمدينة داريا"، وهو ما أربك حسابات النظام، اذ عوّل في هدن كثيرة على تفرّق الصف ضمن أبناء المدينة لإخضاعهم إلى شروطه.
ويبدو أن النظام قد ارتاح كثيراً بعد الهدن التي وقّعها في العاصمة ومحيطها، والسيطرة على مدينة المليحة في الريف قبل أسابيع قليلة، الأمر الذي مكّنه من المماطلة كثيراً في الشروط المقدمة من المعارضة، وعلى رأسها الإفراج عن المعتقلين، وإعادة انتشار الجيش النظامي على أطراف المدينة، بما يمكن المدنيين من العودة إلى داريا، وإيقاف الانتهاكات المرتكبة بحق المهجرين من المدينة على حواجز النظام وفي أماكن نزوحهم.
وفي المقابل، سيحاول النظام أن يفرض شروط مماثلة على غرار الهدن الموقعة السابقة والقريبة من مدينة داريا، وأهمها تسليم المعارضة للأسلحة الثقيلة والمتوسطة، ورفع علمه على أسطح الأبنية المرتفعة، وانسحاب المعارضة المسلّحة من داريا مع بقاء عدد محدود منها كلجان شعبية، والدفع باتجاه محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وجعلها شمّاعة الإرهاب، كما حصل في مدينة القدم أخيراً.
في هذا السياق، أكد عضو المجلس المحلي في داريا حسام عياش، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن "النظام رفض بشكل أولي شروط الوفد المفاوض الممثل للمعارضة، وطلب مهلة لمشاورة الأطراف الأخرى كقيادة الجيش والأمن، وهم ينتظرون منذ نحو أسبوع ردّه بشأن ذلك".
وأشار عياش إلى أن "تسليم السلاح الخفيف والمتوسط هو خط أحمر للمعارضة، وهو موجود لدى ميثاق الشرف الموقّع من قبل الهيئة الرئاسية للمدينة، والتي تُعتبر الجهة الحصرية المخوّلة بوضع شروط التفاوض".
على الجانب الآخر، أوضح قائد لواء "شهداء الإسلام" أبو جمال، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الجانب الإنساني فقط هو ما يجبرهم على الدخول في هدنة مع النظام". وكشف أن "200 ألف إنسان يعيشون أوضاعاً صعبة في مناطق النزوح منذ عامين، إضافة إلى وجود 1830 معتقلاً بينهم نساء".
ويؤكد قائد أكبر الألوية العاملة في مدينة داريا والتابعة لـ"الجيش الحر"، أن "النظام طرح مبادرة حسن نية لخروج اللجنة، تتمثل بوقف إطلاق نار من طرف واحد، وذلك بعد تأجيله المفاوضات مرات عدة عبر الوسيط المكلّف من جهته". وأشار إلى أن "المعارضة لم توافق على وقف إطلاق النار، لأن النظام لم يلتزم بهذا الموقف وقامت عناصره بالتسلل إلى إحدى الجبهات وتصدّى الجيش الحر لها".
ولفت إلى أن "النظام كان يراهن على تفكك الجبهة الداخلية في أي منطقة نتيجة الحصار المفروض، وعدم وجود تنسيق بين الفصائل الموجودة في أي منطقة، ولكن بسبب تماسك الجبهة الداخلية في مدينة داريا، فإنه لا يستطيع القيام بأي خرق يمكنه من التلاعب بلجنة المفاوضات".
إذاً في ظل هذا الوضع يتعنّت جيش النظام، ويتشبث بشروط مفصّلة على مقاسه، بهدف إذلال المدينة التي استنزفته عل مدار عامين، بينما تبدو المعارضة متفائلة بتقدم الثوار في ريف القنيطرة، بعد صمودها، وسعيها إلى فتح طريق باتجاه الغوطة الغربية لفكّ الحصار عن المدن المحاصرة. ولا يبدو أن هدنة داريا ستبصر النور على الأقل خلال الأيام المقبلة، وهو ما سيعني مزيداً من الخسائر البشرية والمادية.