05 نوفمبر 2024
هل تستطيع السلطة إغلاق قوس فتحه التاريخ؟
استطاعت الدول التي قامت فيها ثوراتٌ حامية، تطلَّب التغييرُ فيها سقوط الضحايا واللجوء إلى العنف، أن تغلق القوس الديموقراطي الذي فتحته الشعوب، وفي نيتها أنها تفتح طريقا سيّارا في التاريخ، بسهولةٍ شبه ناجحة، لولا الدم الذي فار في وجه العالم.
في الوقت نفسه، اختارت الدول التي ذهبت إلى التغيير بإرادةٍ أكثر سلمية وثباتا على إرثٍ ليبرالي نوعا ما، ومنها تونس والمغرب، أن تتركه موارباً، ولا أحد، على الرغم من بلاغة الإعلام والالتباس التداولي، استطاع أن يعلن إغلاق هذا القوس، بشكل نهائي.
من حقنا أن نسجل، هنا، أن هناك تناسبا معكوسا يحدث بين نيّة طي صفحة الربيع الديموقراطي والتراكمات التي سجلتها الدول في سجلها المتدرّج نحو التغيير. كلما زادت حدة التغيير زادت سهولة إغلاق القوس أو تدميره حتى، سورية ومصر نموذجاً، وكلما كانت العملية التحويلية مرنةً وفي سياق تدرجّي، استطاعت أن تثبت قوتها واستعصاءها على الترويض.. ومن هنا أيضا السؤال: هل تستطيع أي قوة، ولو كانت تملك شرعية القوة، أن تغلق القوس فعلا؟
محاولة جواب في المثال المغربي: نعتقد، بغير قليل من السهولة في التوصيف، أننا نفتح القوس كما لو نفتح نافذةً للتيار الهوائي في يوم بارد. وبعد الابتهاج العام الذي لا يعادله سوى الإيمان بقدرة التاريخ على شق البحر الأسود للسلطة ممرا واسعا للشعوب، يُساورنا الخوف على شعوبنا من نزلات بردٍ قد تكون بسبب النضج الديموقراطي. كما لو أن الديموقراطية دليل على هشاشة المناعة لدى الشعوب، وحاملة الفيروسات القادرة على إصابة شعوبٍ ظلت في منأىً عن الشمس، حتى فاجأتها شمس الربيع. والحال أن عمق المسألة هو في الجواب على السؤال: كيف يمكن أن نواصل الحياة، أو نؤصلها، من دون هذا القوس الذي فتحناه للحلم في مشتركنا السياسي؟
نحن نؤمن أن التاريخ ليس خطيا، وليس دوامةً في الفراغ، لكنه، مع ذلك، لا يمكن أن يتقدّم إلا بالأقواس المفتوحة على أقواس أخرى تليها.. وهكذا دواليك، إن التاريخ، بهذا المعنى التصاعدي، هندسة أو معمار يميل كثيرا إلى أنصاف الدوائر، إذا شئنا الاستعارة الهندسية.
في المغرب شهية مفتوحة لدى المتربط بالتغيير، كما لدى من يسعد به ويغنيه ويمجده، في إنهاء الشعور بأن القوس ما زال مفتوحا. أي يميلان معا إلى الإعلان القدري بإفلاس الانتقال، كما لو أن في ذلك طمأنينة بأننا واقعيون، كما لو أن الواقعية تقتضي الإسراع إلى الإقامة في أول خانة في الخيبة.
في المغرب، قد يكون إغلاق القوس بمثابة الردّة، يليها دوما شق الأنفس، فما حدث، بعد العام 1960، عندما تم الانقلاب عن حكومة اليسار الأولى، وكانت بقيادة عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد، وبدعم من المهدي بن بركة وكبار المقاومين والنقابيين، أعقبته عقودٌ من التوتر بين القصر والقوة الثالثة، بتعبير محمد عابد الجابري من جهة، وبين الحركة الوطنية المعارضة التي لم تصل إلى الحكم بعد الاستقلال، كما في باقي الدول المحرّرة.
ظل القوس مغلقا، إلا لماما، إلى حين فتحه تاريخ الدولة نفسها، مع نهاية حكم الحسن الثاني، وانتصار الملك على محيطه، كما قال أحد العارفين بسرايا السلطة، عبد الواحد الراضي، في كتاب "المغرب الذي عشته"، مع وصول اليسار، مرة أخرى، إلى الحكم، بقيادة عبد الرحمان اليوسفي.
وبعد العام 2002، على الرغم من التباس الدستور وعدم تبيئة الإرادة الصلاحية من قبل، فإن عودة التكنوقراط السياسي إلى قيادة الحكومة، تلته مرحلة انكماش مؤسساتي، وتحرّز كبير بين الدولة والمجتمع، عرفت درجاتٍ من تدّني المشاركة غير مسبوقة في 2007، على الرغم من نداءات أعلى سلطة في البلاد من أجل المشاركة، مهدت الطريق أمام حالة من الخصاص الديموقراطي، كان مقدمةً للتعبير عنه في العام 2011.
على الرغم من القطائع الثورية للملك محمد السادس التي يمكن اعتبارها تأسيسية، وجدّ قوية ومؤثرة، والتي شملت مجالات السياسة والثقافة والمجتمع، وغير مسبوقة من حيث تغيير طبيعة الثقافة العامة، والسياسية منها تحديداً، فإن المطلب الديمقراطي لم يخفت، بل تم التعبير عنه في الشارع العام، وبطريقةٍ لم تمر عبر القنوات المعتادة في تدبير التغيير "مذكرات حزبية، مواجهات".
وقد سارع العهد الجديد إلى التقاط الروح العامة للتغيير، للدفع به إلى مرحلةٍ مؤسساتيةٍ ومؤطرة تشرك الجميع. وبالتالي، يستفاد من هذا كله أن إغلاق القوس الديموقراطي، حتى ولو كان شبه مؤكد، لا يلغيه، بل يعطيه طبيعةً أخرى، قد تكون احتجاجيةً ومطلبيةً، تغير حتى من شكل التعبير عنها وطبيعته.
في الحالة المغربية، هناك ما يطمئن أن تفاؤل الإرادة لا تقل حظوظه لا محالة عن تشاؤم الفكر، بل إن إغلاق القوس، باعتبار الربيع مجرّد مرحلةٍ لا يلغي العودة إلى منطق الإصلاح واستمراره، وذلك لاعتبارين على الأقل.
لأن إرادته بدأت قبله، أي أن الربيع الديموقراطي بدأ إرادة قبل موسمه المفتوح من الشرق إلى الغرب. ولأن القطائع التي راكمتها البلاد كانت تسير نحو تحول نوعي، يمسّ الكم والنوع معا في الإصلاح، فالحياة تستمر حتى لو تم إغلاق القوس الديموقراطي. وعلينا أن نتساءل فقط عم قد يوجد، وعم قد يحدث خارج القوسين.
هل تستطيع السلطة إغلاق قوسٍ فتحه التاريخ؟ عند الجواب اليساري، لا يقدر العقل المناضل الفصل بين ضعف اليسار وحتمية عودة الانحسار التاريخي. وقد يكون لذلك مبرّراته المعقولة والتاريخية. لكن، مع ذلك، أعترف بأن قراءاتي بعض أفكار إخواني ورفاقي من اليسار عن متابعة سيناريو فيلمٍ عن الخيال العلمي، عندما يقرّر المخرج أن جماعة تعيش في القرن الواحد والعشرين مثلا، تعمل على إنقاذ المستقبل، عبر العمل على تغيير الماضي "إنها في العمق رحلة معكوسة بالنسبة لليسار الذي ظل متجها نحو المستقبل، بإيمان تقدّمي، لا يتزعزع. واليوم، عكس "التقدمي" الكاتب هربرت جورج ويلز صاحب رواية "آلة الزمن" التي تدور حول عالمٍ انتقل إلى المستقبل البعيد، فإن جزءاً من اليسار يزور الماضي، بعيدا عن نية الوفاء أو قيم التأصيل للنبل الكفاحي فيه، بل لعه ينفخ فيه روحا للمستقبل. إنها محاولةٌ لبعث روح العقل الحالي في الجسد الغضّ سابقا، جسّد اليسار الفتي لكي يخبره بما ينتظره في مستقبل الأيام، وفي هذه المحاولة، لا يحصن الحاضر نفسه من مثالب الماضي، حيث بعض أخطاء الماضي تحضر بقوةٍ لا تضاهى، وتستنزف العقل التصحيحي بدعوى إنقاذ المستقبل.
في الوقت نفسه، اختارت الدول التي ذهبت إلى التغيير بإرادةٍ أكثر سلمية وثباتا على إرثٍ ليبرالي نوعا ما، ومنها تونس والمغرب، أن تتركه موارباً، ولا أحد، على الرغم من بلاغة الإعلام والالتباس التداولي، استطاع أن يعلن إغلاق هذا القوس، بشكل نهائي.
من حقنا أن نسجل، هنا، أن هناك تناسبا معكوسا يحدث بين نيّة طي صفحة الربيع الديموقراطي والتراكمات التي سجلتها الدول في سجلها المتدرّج نحو التغيير. كلما زادت حدة التغيير زادت سهولة إغلاق القوس أو تدميره حتى، سورية ومصر نموذجاً، وكلما كانت العملية التحويلية مرنةً وفي سياق تدرجّي، استطاعت أن تثبت قوتها واستعصاءها على الترويض.. ومن هنا أيضا السؤال: هل تستطيع أي قوة، ولو كانت تملك شرعية القوة، أن تغلق القوس فعلا؟
محاولة جواب في المثال المغربي: نعتقد، بغير قليل من السهولة في التوصيف، أننا نفتح القوس كما لو نفتح نافذةً للتيار الهوائي في يوم بارد. وبعد الابتهاج العام الذي لا يعادله سوى الإيمان بقدرة التاريخ على شق البحر الأسود للسلطة ممرا واسعا للشعوب، يُساورنا الخوف على شعوبنا من نزلات بردٍ قد تكون بسبب النضج الديموقراطي. كما لو أن الديموقراطية دليل على هشاشة المناعة لدى الشعوب، وحاملة الفيروسات القادرة على إصابة شعوبٍ ظلت في منأىً عن الشمس، حتى فاجأتها شمس الربيع. والحال أن عمق المسألة هو في الجواب على السؤال: كيف يمكن أن نواصل الحياة، أو نؤصلها، من دون هذا القوس الذي فتحناه للحلم في مشتركنا السياسي؟
نحن نؤمن أن التاريخ ليس خطيا، وليس دوامةً في الفراغ، لكنه، مع ذلك، لا يمكن أن يتقدّم إلا بالأقواس المفتوحة على أقواس أخرى تليها.. وهكذا دواليك، إن التاريخ، بهذا المعنى التصاعدي، هندسة أو معمار يميل كثيرا إلى أنصاف الدوائر، إذا شئنا الاستعارة الهندسية.
في المغرب شهية مفتوحة لدى المتربط بالتغيير، كما لدى من يسعد به ويغنيه ويمجده، في إنهاء الشعور بأن القوس ما زال مفتوحا. أي يميلان معا إلى الإعلان القدري بإفلاس الانتقال، كما لو أن في ذلك طمأنينة بأننا واقعيون، كما لو أن الواقعية تقتضي الإسراع إلى الإقامة في أول خانة في الخيبة.
في المغرب، قد يكون إغلاق القوس بمثابة الردّة، يليها دوما شق الأنفس، فما حدث، بعد العام 1960، عندما تم الانقلاب عن حكومة اليسار الأولى، وكانت بقيادة عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد، وبدعم من المهدي بن بركة وكبار المقاومين والنقابيين، أعقبته عقودٌ من التوتر بين القصر والقوة الثالثة، بتعبير محمد عابد الجابري من جهة، وبين الحركة الوطنية المعارضة التي لم تصل إلى الحكم بعد الاستقلال، كما في باقي الدول المحرّرة.
ظل القوس مغلقا، إلا لماما، إلى حين فتحه تاريخ الدولة نفسها، مع نهاية حكم الحسن الثاني، وانتصار الملك على محيطه، كما قال أحد العارفين بسرايا السلطة، عبد الواحد الراضي، في كتاب "المغرب الذي عشته"، مع وصول اليسار، مرة أخرى، إلى الحكم، بقيادة عبد الرحمان اليوسفي.
وبعد العام 2002، على الرغم من التباس الدستور وعدم تبيئة الإرادة الصلاحية من قبل، فإن عودة التكنوقراط السياسي إلى قيادة الحكومة، تلته مرحلة انكماش مؤسساتي، وتحرّز كبير بين الدولة والمجتمع، عرفت درجاتٍ من تدّني المشاركة غير مسبوقة في 2007، على الرغم من نداءات أعلى سلطة في البلاد من أجل المشاركة، مهدت الطريق أمام حالة من الخصاص الديموقراطي، كان مقدمةً للتعبير عنه في العام 2011.
على الرغم من القطائع الثورية للملك محمد السادس التي يمكن اعتبارها تأسيسية، وجدّ قوية ومؤثرة، والتي شملت مجالات السياسة والثقافة والمجتمع، وغير مسبوقة من حيث تغيير طبيعة الثقافة العامة، والسياسية منها تحديداً، فإن المطلب الديمقراطي لم يخفت، بل تم التعبير عنه في الشارع العام، وبطريقةٍ لم تمر عبر القنوات المعتادة في تدبير التغيير "مذكرات حزبية، مواجهات".
وقد سارع العهد الجديد إلى التقاط الروح العامة للتغيير، للدفع به إلى مرحلةٍ مؤسساتيةٍ ومؤطرة تشرك الجميع. وبالتالي، يستفاد من هذا كله أن إغلاق القوس الديموقراطي، حتى ولو كان شبه مؤكد، لا يلغيه، بل يعطيه طبيعةً أخرى، قد تكون احتجاجيةً ومطلبيةً، تغير حتى من شكل التعبير عنها وطبيعته.
في الحالة المغربية، هناك ما يطمئن أن تفاؤل الإرادة لا تقل حظوظه لا محالة عن تشاؤم الفكر، بل إن إغلاق القوس، باعتبار الربيع مجرّد مرحلةٍ لا يلغي العودة إلى منطق الإصلاح واستمراره، وذلك لاعتبارين على الأقل.
لأن إرادته بدأت قبله، أي أن الربيع الديموقراطي بدأ إرادة قبل موسمه المفتوح من الشرق إلى الغرب. ولأن القطائع التي راكمتها البلاد كانت تسير نحو تحول نوعي، يمسّ الكم والنوع معا في الإصلاح، فالحياة تستمر حتى لو تم إغلاق القوس الديموقراطي. وعلينا أن نتساءل فقط عم قد يوجد، وعم قد يحدث خارج القوسين.
هل تستطيع السلطة إغلاق قوسٍ فتحه التاريخ؟ عند الجواب اليساري، لا يقدر العقل المناضل الفصل بين ضعف اليسار وحتمية عودة الانحسار التاريخي. وقد يكون لذلك مبرّراته المعقولة والتاريخية. لكن، مع ذلك، أعترف بأن قراءاتي بعض أفكار إخواني ورفاقي من اليسار عن متابعة سيناريو فيلمٍ عن الخيال العلمي، عندما يقرّر المخرج أن جماعة تعيش في القرن الواحد والعشرين مثلا، تعمل على إنقاذ المستقبل، عبر العمل على تغيير الماضي "إنها في العمق رحلة معكوسة بالنسبة لليسار الذي ظل متجها نحو المستقبل، بإيمان تقدّمي، لا يتزعزع. واليوم، عكس "التقدمي" الكاتب هربرت جورج ويلز صاحب رواية "آلة الزمن" التي تدور حول عالمٍ انتقل إلى المستقبل البعيد، فإن جزءاً من اليسار يزور الماضي، بعيدا عن نية الوفاء أو قيم التأصيل للنبل الكفاحي فيه، بل لعه ينفخ فيه روحا للمستقبل. إنها محاولةٌ لبعث روح العقل الحالي في الجسد الغضّ سابقا، جسّد اليسار الفتي لكي يخبره بما ينتظره في مستقبل الأيام، وفي هذه المحاولة، لا يحصن الحاضر نفسه من مثالب الماضي، حيث بعض أخطاء الماضي تحضر بقوةٍ لا تضاهى، وتستنزف العقل التصحيحي بدعوى إنقاذ المستقبل.