01 نوفمبر 2024
هل تسعى السعوديّة إلى ضبط البوصلة العربيّة؟
توفي العاهل السعودي، الملك عبد الله بن عبد العزيز، ومجمل المنطقة العربية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية نفسها، تعيش مخاطر وأزمات وجودية حقيقية. ولا يحتاج الأمر إلى كثير سرد، ولا إلى عميق تحليل لينتبه المرء إلى تفاصيل تلك المخاطر وعناوينها وأسبابها وأهدافها. أيضاً، لا يحتاج الأمر لفهم بؤس الواقع العربي اليوم التذكير بأنه كان للخيارات السياسية التي انتهجتها المملكة، وتحديداً منذ انطلاق الثورات العربية، أواخر عام 2010، دور كبير في تشظي المنطقة العربية، وانهيار مناعتها، حتى ولو كانت شكلية من قبل.
الآن، ومع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز لقيادة الدفة السعودية، وفي ظلِّ تصاعد المخاطر البنيوية التي أصبحت تهدد الفضاء العربي، يغدو من المشروع التساؤل حول ما إذا كانت المملكة، بقيادتها الجديدة، في وارد إعادة النظر في مجمل سياساتها العامة؟
التساؤل السابق لا ينطلق من تركيز على تباينات سياسية، داخلية وخارجية، كثر الحديث عنها، في البيت السعودي الملكي، أو حتى ما بين عهدين، بقدر ما أن نقطة ارتكازه مغروسة في المآلات التي وصلنا إليها، كعرب، جراء سياسات ومواقف اتبعت واتخذت، بناءً على حسابات انكشف خطؤها، ونتائج بانت كارثيتها. وضمن التقدير السابق، لا بد من الاعتراف، شئنا أم كرهنا، أن السعودية، اليوم، قاطرة مركزية في السياق العربي، لا مقطورة، ومن ثمَّ فإن أي تغيير في ديناميكيات هذا السياق، من دون دور سعودي فاعل، يبقى في دائرة الشك والاحتمال الضعيف. أيضاً، هنا، لا بد من التشديد على أن الدعوة لإحداث مراجعات في الخيارات والسياسات السعودية الإقليمية السابقة تأتي في سياق محاولة انتشال الوضع العربي من المستنقع الآسن الذي أضحى يقبع فيه، لا في سياق لومِ المملكة على مرحلةٍ انقضت. فاللوم والتقريع، أو حتى التشفي، كل ذلك ليس مقاربة بنّاءة، بقدر ما أنه حفاظ على منطق معاول الهدم الذاتي.
في السنوات الأربع الأخيرة، قدرت مؤسسة الحكم السعودية أن الخطر الأكبر على استقرار المملكة، والمنطقة بشكل عام، يتمثل في ثورات التغيير التي انطلقت من تونس أواخر عام 2010. ومن ثمَّ اتخذت المملكة، منذ البداية، موقفاً عدائياً من تلك الثورات، وسعت إلى إجهاضها عبر كل الوسائل المتاحة لها، سياسياً وإعلامياً واقتصاديا. وفعلاً، كان للمملكة ما أرادت في غير مكان، وتحديداً في مصر، حيث ساهمت في دعم انقلاب صيف عام 2013، وعلى كل المستويات. وكان من الواضح أن المملكة تتزعم، ولا تزال، محوراً عربياً، أخذ على عاتقه كسر روحية التغيير الديمقراطي في المنطقة وقواه.
غير أن حسابات الحقل لم تكن هي ذاتها حصاد البيدر. فالانقلاب في مصر تحوّل إلى عبء اقتصادي وسياسي على المملكة، وبعض حلفائها الخليجيين الآخرين، وخصوصاً أن السلطة
السياسية التي جاءت نتيجة للانقلاب لمَّا تتمكن بعد من فرض استقرار في البلد. أيضاً، لم تفلح المبادرة الخليجية في اليمن عام 2011 في إعادة ذلك البلد إلى الحظيرة السعودية. فالمبادرة التي صمّمت لإبقاء اليمن ضمن الفلك السعودي، بعد التضحية بالرئيس السابق، علي عبد الله صالح، ارتدّت في وجه الجميع ليتحول اليمن إلى الفلك الإيراني، بعد سيطرة الحوثيين، بتواطؤ مع صالح نفسه، على العاصمة صنعاء في سبتمبر/ أيلول الماضي. وهكذا، وجدت المملكة نفسها، فجأة، بين فكي كماشة إيرانية، جنوباً من ناحية اليمن، وشمالاً من ناحية العراق، والذي رفضت من قبل أن تدعم سنته العرب. كما أنها تواجه، اليوم، تهديدات، من ناحية حدودها الشرقية، حيث يتنامى التهديد الإيراني لمملكة البحرين، وكذلك احتمالات تسلل إيراني إلى منطقتها الشرقية، حيث تقطن غالبية سكانية شيعية.
وضمن السياق نفسه، فإن المملكة، وعلى الرغم من أنها تبنت سياسة معلنة لإسقاط نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، غير أنها لم تدعم ثورة شعبية ضده، جراء حساسيتها من الثورات من حيث المبدأ، بقدر ما أنها سعت إلى اختراق المعارضة السورية، وإيجاد وكلاء لها في صفوفها، وهذا ما كان. ولأن السياسة السعودية لم تكن حاسمة في هذا الصدد، فإنها، وإن كانت ساهمت في استنزاف النظام السوري، وراعيه الإيراني، غير أنها، من ناحية أخرى، تسببت في إدخال سورية، كذلك، رسمياً، ضمن الفلك الإيراني.
لا شك أنه يمكن الاستطراد، هنا، عبر إيراد مزيد من الأمثلة والأزمات، عربياً، التي ساهمت في إحداثها السياسات الخارجية السعودية، غير أنه يمكن تلخيصها، بالمجمل، بالقول إن السياسات الخارجية السعودية، في السنوات الأربع المنصرمة، ساهمت في تصديع الموقف العربي، وإحداث محاور فيه، وأفسحت المجال للخصوم بملئه. ويكفي التذكير، هنا، كيف أن قراءة المملكة الخاطئة للثورات العربية، ومعاداتها لها منذ اليوم الأول، سمحت لإسرائيل بأن تعيد ترميم وضعها استراتيجياً، بعد أن بلغ قلقها مداه خلال ثورات العربي. كما لا ينبغي أن ننسى أن الفوضى التي ترتبت على تلك السياسات السابقة فتحت الباب مشرعاً لعودة التدخل الأجنبي الغربي المباشر إلى المنطقة العربية، بذريعة محاربة الإرهاب.
والفوضى التي ضربت أطنابها في المنطقة، جراء الحسابات والسياسات الخاطئة للمحور الذي تتزعمه المملكة، أوجد فراغاً في دول كثيرة، لم يملأه الخصوم والأعداء فحسب، بل إنه فتح الباب مشرعاً أمام تيارات إسلامية فوضوية لملئه. أبعد من ذلك، كان للمنطق السعودي، ومحورها، باعتبار "الإسلام السياسي السني" مصدر التهديد المركزي الراهن للمنطقة، نتائج كارثية على مجمل المنطقة. ففي سورية والعراق، ملأت "داعش" و"القاعدة" الفراغ القيادي "السني"، وخطر تمددهما نحو السعودية ليس أمراً بعيد الاحتمال. أما في اليمن، فكان لخسارة السعودية حليفها السابق، حزب الإصلاح اليمني، القريب من "الإخوان المسلمين"، الدور الأبرز في سقوط اليمن في براثن إيران. فحزب الإصلاح، بما يمثله من ثقل سياسي وعشائري سني، كان أحد صمامات الأمان لاستقرار اليمن. ولكن إعلان السعودية، بشكل غير مفهوم، للإخوان المسلمين، منظمة إرهابية، أفقدها هذه الورقة، وسمح لإيران ببلع اليمن من دون أن تقدر السعودية على فعل شيء، خصوصاً بعد انحياز بقايا نظام صالح للحوثيين.
باختصار، المنطقة العربية تمر، اليوم، بمرحلة حرجةٍ، قد تعيد رسم خرائطها السياسية والثقافية والجغرافية كلياً. هذا أصبح واقعاً ملموساً، وساهمت فيه سياسات المحور الذي أراد وأد روحية التغيير العربية، فكان أن مزق الجسد العربي كله، وأنهكه إلى الحد الذي ألغى ممانعته، وجعله على حافة الهلاك. والسعودية، بما تمثله من ثقل في فضاء المنطقة، سياسياً واقتصادياً وروحياً، قد تكون البلد العربي الوحيد المؤهل لمحاولة انتشال الجسد العربي من معضلاته وورطاته، وإعادة ضبط بوصلته، وإنجاز مصالحات تاريخية بين مكوناته. فبعد غرق المراكب العراقية والسورية والمصرية، لم يبق إلا المركب السعودي، لعلّه يقدر على الإبحار بأمة العرب، ومن ضمنها السعودية، إلى بَرِّ الأمان. فهل تفعلها المملكة، بعد أن بانت كارثية خياراتها السابقة؟ هذا ما نرجوه.
الآن، ومع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز لقيادة الدفة السعودية، وفي ظلِّ تصاعد المخاطر البنيوية التي أصبحت تهدد الفضاء العربي، يغدو من المشروع التساؤل حول ما إذا كانت المملكة، بقيادتها الجديدة، في وارد إعادة النظر في مجمل سياساتها العامة؟
التساؤل السابق لا ينطلق من تركيز على تباينات سياسية، داخلية وخارجية، كثر الحديث عنها، في البيت السعودي الملكي، أو حتى ما بين عهدين، بقدر ما أن نقطة ارتكازه مغروسة في المآلات التي وصلنا إليها، كعرب، جراء سياسات ومواقف اتبعت واتخذت، بناءً على حسابات انكشف خطؤها، ونتائج بانت كارثيتها. وضمن التقدير السابق، لا بد من الاعتراف، شئنا أم كرهنا، أن السعودية، اليوم، قاطرة مركزية في السياق العربي، لا مقطورة، ومن ثمَّ فإن أي تغيير في ديناميكيات هذا السياق، من دون دور سعودي فاعل، يبقى في دائرة الشك والاحتمال الضعيف. أيضاً، هنا، لا بد من التشديد على أن الدعوة لإحداث مراجعات في الخيارات والسياسات السعودية الإقليمية السابقة تأتي في سياق محاولة انتشال الوضع العربي من المستنقع الآسن الذي أضحى يقبع فيه، لا في سياق لومِ المملكة على مرحلةٍ انقضت. فاللوم والتقريع، أو حتى التشفي، كل ذلك ليس مقاربة بنّاءة، بقدر ما أنه حفاظ على منطق معاول الهدم الذاتي.
في السنوات الأربع الأخيرة، قدرت مؤسسة الحكم السعودية أن الخطر الأكبر على استقرار المملكة، والمنطقة بشكل عام، يتمثل في ثورات التغيير التي انطلقت من تونس أواخر عام 2010. ومن ثمَّ اتخذت المملكة، منذ البداية، موقفاً عدائياً من تلك الثورات، وسعت إلى إجهاضها عبر كل الوسائل المتاحة لها، سياسياً وإعلامياً واقتصاديا. وفعلاً، كان للمملكة ما أرادت في غير مكان، وتحديداً في مصر، حيث ساهمت في دعم انقلاب صيف عام 2013، وعلى كل المستويات. وكان من الواضح أن المملكة تتزعم، ولا تزال، محوراً عربياً، أخذ على عاتقه كسر روحية التغيير الديمقراطي في المنطقة وقواه.
غير أن حسابات الحقل لم تكن هي ذاتها حصاد البيدر. فالانقلاب في مصر تحوّل إلى عبء اقتصادي وسياسي على المملكة، وبعض حلفائها الخليجيين الآخرين، وخصوصاً أن السلطة
وضمن السياق نفسه، فإن المملكة، وعلى الرغم من أنها تبنت سياسة معلنة لإسقاط نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، غير أنها لم تدعم ثورة شعبية ضده، جراء حساسيتها من الثورات من حيث المبدأ، بقدر ما أنها سعت إلى اختراق المعارضة السورية، وإيجاد وكلاء لها في صفوفها، وهذا ما كان. ولأن السياسة السعودية لم تكن حاسمة في هذا الصدد، فإنها، وإن كانت ساهمت في استنزاف النظام السوري، وراعيه الإيراني، غير أنها، من ناحية أخرى، تسببت في إدخال سورية، كذلك، رسمياً، ضمن الفلك الإيراني.
لا شك أنه يمكن الاستطراد، هنا، عبر إيراد مزيد من الأمثلة والأزمات، عربياً، التي ساهمت في إحداثها السياسات الخارجية السعودية، غير أنه يمكن تلخيصها، بالمجمل، بالقول إن السياسات الخارجية السعودية، في السنوات الأربع المنصرمة، ساهمت في تصديع الموقف العربي، وإحداث محاور فيه، وأفسحت المجال للخصوم بملئه. ويكفي التذكير، هنا، كيف أن قراءة المملكة الخاطئة للثورات العربية، ومعاداتها لها منذ اليوم الأول، سمحت لإسرائيل بأن تعيد ترميم وضعها استراتيجياً، بعد أن بلغ قلقها مداه خلال ثورات العربي. كما لا ينبغي أن ننسى أن الفوضى التي ترتبت على تلك السياسات السابقة فتحت الباب مشرعاً لعودة التدخل الأجنبي الغربي المباشر إلى المنطقة العربية، بذريعة محاربة الإرهاب.
والفوضى التي ضربت أطنابها في المنطقة، جراء الحسابات والسياسات الخاطئة للمحور الذي تتزعمه المملكة، أوجد فراغاً في دول كثيرة، لم يملأه الخصوم والأعداء فحسب، بل إنه فتح الباب مشرعاً أمام تيارات إسلامية فوضوية لملئه. أبعد من ذلك، كان للمنطق السعودي، ومحورها، باعتبار "الإسلام السياسي السني" مصدر التهديد المركزي الراهن للمنطقة، نتائج كارثية على مجمل المنطقة. ففي سورية والعراق، ملأت "داعش" و"القاعدة" الفراغ القيادي "السني"، وخطر تمددهما نحو السعودية ليس أمراً بعيد الاحتمال. أما في اليمن، فكان لخسارة السعودية حليفها السابق، حزب الإصلاح اليمني، القريب من "الإخوان المسلمين"، الدور الأبرز في سقوط اليمن في براثن إيران. فحزب الإصلاح، بما يمثله من ثقل سياسي وعشائري سني، كان أحد صمامات الأمان لاستقرار اليمن. ولكن إعلان السعودية، بشكل غير مفهوم، للإخوان المسلمين، منظمة إرهابية، أفقدها هذه الورقة، وسمح لإيران ببلع اليمن من دون أن تقدر السعودية على فعل شيء، خصوصاً بعد انحياز بقايا نظام صالح للحوثيين.
باختصار، المنطقة العربية تمر، اليوم، بمرحلة حرجةٍ، قد تعيد رسم خرائطها السياسية والثقافية والجغرافية كلياً. هذا أصبح واقعاً ملموساً، وساهمت فيه سياسات المحور الذي أراد وأد روحية التغيير العربية، فكان أن مزق الجسد العربي كله، وأنهكه إلى الحد الذي ألغى ممانعته، وجعله على حافة الهلاك. والسعودية، بما تمثله من ثقل في فضاء المنطقة، سياسياً واقتصادياً وروحياً، قد تكون البلد العربي الوحيد المؤهل لمحاولة انتشال الجسد العربي من معضلاته وورطاته، وإعادة ضبط بوصلته، وإنجاز مصالحات تاريخية بين مكوناته. فبعد غرق المراكب العراقية والسورية والمصرية، لم يبق إلا المركب السعودي، لعلّه يقدر على الإبحار بأمة العرب، ومن ضمنها السعودية، إلى بَرِّ الأمان. فهل تفعلها المملكة، بعد أن بانت كارثية خياراتها السابقة؟ هذا ما نرجوه.