16 ابريل 2017
هل تشهد فرنسا ولادة الجمهورية السادسة؟
منذ إعلان الجنرال شارل ديغول، في 4 أكتوبر/ تشرين الأول 1958، عن دستور جديد للبلاد، أصبح يُشار إليه بدستور الجمهورية الخامسة (عدّل 17 مرة، آخرها سنة 2008، وهو الدستور الخامس عشر للجمهورية التي لم تعرف استقرارا طويلا منذ الدستور الأول سنة 1791)، لم تشهد فرنسا انتخاباتٍ رئيسيةً متشابكة ومعقدة كما تشهد اليوم، في ظل حديث متزايد عن ضرورة الانتقال إلى "الجمهورية السادسة" التي ستعرف، بطبيعة الحال، قطيعة أو ارتدادا عن القيم والمبادئ التي سادت عقوداً طويلة في فرنسا.
انبثق النظام القانوني في فرنسا من القوانين النابوليونية الخمسة الأساسية: القانون المدني، قانون الإجراءات الجنائية، قانون الإجراءات المدنية، القانون التجاري والقانون الجنائي. ويمنح الدستور الذي قامت عليه الجمهورية الخامسة سلطة حصرية للبرلمان، لسن التشريعات، فيما يتكفّل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بإصدار اللوائح التي تسمّي المراسيم التي قد تكون مستقلة (المادة 37)، أو مرتبطة بإنفاذ قانون معيّن (المادة 21). ويتولى المجلس الدستوري مسؤولية مناقشة دستورية القوانين، ويعيّن رئيس الجمهورية، بالتعاون مع رئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ، أعضاء المجلس الدستوري.
تم إقرار الدستور عن طريق الاستفتاء العام، وعارض فرانسوا ميتران مضمون الدستور، واحتج على الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية شارل ديغول، وتكمن المفارقة أنّ ميتران الذي صوّت "لا" على دستور الجمهورية الخامسة أصبح رئيسا على أساس هذا الدستور سنة 1981، بعد 23 عاما من حكم اليمين الديغولي، ويمين الوسط الجمهوري. واستنادا إلى الدستور، توزّعت سلطات الحكم إلى ثلاث سلطات: تشريعية وتنفيذية وقضائية. لكنّ الأمر الكبير الذي تغيّر مع هذا الدستور هو تحوّل النظام إلى رئاسي ديمقراطي، أو شبه رئاسي، أو شبه برلماني، ليتم انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب منذ رئاسيات عام 1965 التي أوصلت ديغول نفسه إلى الرئاسة. لسنواتٍ طويلة، بقي التحالف الذي يشكّل الأغلبية في الجمعية الوطنية محسوبا على التيار الذي ينتمي إليه رئيس الجمهورية، والأمر مماثل في عهد كل من ديغول وجورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان. وفي هذه الحالة يكون الحديث عن "السيطرة الموحدة".
تبدل الوضع مع وصول ميتران إلى السلطة، والدخول في حكومة حملت اسم "التعايش الأول" (première cohabitation) سنة 1986، نتيجة فوز اليمين الجمهوري في
الانتخابات التشريعية، وتقويض صلاحيات ميتران، عبر فرض تسمية رئيس حكومة يميني، كان جاك شيراك. وتكرّر الأمر نفسه مع ميتران سنة 1993، حين قام بتسمية إدوارد بالادور لرئاسة الحكومة، وتبقى حكومة "التعايش الثالث" التي شهدها عهد جاك شيراك بين سنتي 1997 و2002 الأكثر تجسيدا لضعف دور رئيس الجمهورية، وانحسار صلاحياته لحساب الاشتراكي، ليونيل جوسبان، وتحالف "اليسار المتعدّد" (gauche plurielle) الذي ضمّ الاشتراكيين والشيوعيين واليسار الراديكالي.
ويعتبر شارل ديغول الأب الحقيقي للجمهورية الخامسة ومؤسسها الفعلي، ويعود السبب الرئيسي إلى الزخم والشعبية الكبيرة التي حظي بها ديغول عند الفرنسيين، لدوره القيادي في طرد قوات الاحتلال النازي من بلاده خلال الحرب العالمية الثانية، ونجاحه في إعادة صياغة المؤسسات السياسية ومساهمته في صناعة قرار عالمي، من خلال التأثير على القوى العالمية الكبرى. استقال ديغول من منصبه، بعد استفتاء الشعب الفرنسي الذي صوّت بأكثرية 52% ضد مشروعٍ تقدّم به ديغول، لإصلاح تنظيم المحافظات والأقضية، وتنظيم مجلس الشيوخ والبرلمان، وخلفه لفترة انتقالية رئيس مجلس الشيوخ، آلان بوهير، قبل أن يفوز بومبيدو برئاسيات 1969.
حافظ بومبيدو على النهج الديغولي في الحكم، واستمر جيسكار ديستان في تقديم نسخة سيادية لليمين، مع انفتاح أكبر على تيارات يسار الوسط والاشتراكية الديمقراطية، حتى أيار/ مايو 1981، التاريخ الذي شكّل منعطفا في مسار الحياة السياسية الفرنسية، ليس فقط بسبب وصول اشتراكي إلى الإليزيه، بل بسبب الشخصية الكاريزماتية التي مكّنت ميتران من استخدام صلاحيات الرئيس الواسعة، كما شارل ديغول، وهو الأمر الذي غاب، أو جاء على شكل نسخة باهتة في ولايتي بومبيدو وديستان.
حافظ ميتران على منصبه، وانتخب مرة جديدة عام 1988، وتمكن سابقا من توحيد اليسار حول برنامج مشترك سنة 1972، وهو ما ساهم في فوزه إلى حد كبير في انتخابات 1981، وفوز حزبه بأغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية. مع خسارة الاشتراكيين الحكم، وعودة التيار الديغولي مع جاك شيراك، بدأ النظام الحزبي الذي يشهد تعدّدية (تيار اليمين وتيار اليسار، وليس حزبين مسيطرين كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا) يظهر فرزا بين الحالتين، السيادية والفيدرالية، وبدا الانقسام واضحا منذ معاهدة ماستريخت في بداية التسعينيات، وصولا إلى التصويت بلا على دستور الاتحاد الأوروبي سنة 2005.
لم تشهد فرنسا استقرارا اجتماعيا/ اقتصاديا منذ الثلاثين المجيدة (trente glorieuses) التي بدأت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتهت مع أزمة النفط سنة 1973، فتراجع مستوى المعيشة، وارتفعت معدلات البطالة، وشكّلت انتخابات 2002 "زلزالا سياسيا"، تمثّل بإقصاء اليسار من الدور الأول، ووصول مرشح اليمين المتطرّف التاريخي، جان ماري لوبان، للدور الثاني. سقط لوبان أمام شيراك، لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، على عكس ما يرغب كثيرون في رده إلى شعبية شيراك، أو رغبة في منع وصول مرشح متطرّف إلى الحكم، فبرنامج لوبان المرتكز على إعادة الفرنك بدل اليورو، وتعديل النظام الضريبي، كلها كانت كارثية لفرنسا على المستوى الاقتصادي.
وتبقى هذه الحقبة رافعة لوعي فرنسي جديد، أسّس لمفهوم "التصويت المفيد"، أو التكتيكي
(vote utile)، لأنّها ضربت النظام الحزبي الكلاسيكي بمقتل، عدا عن أنها الانتخابات التي شهدت أكبر نسبة مقاطعة، وصلت إلى حدود 28%. مع نجاح شيراك، عادت الأزمات الاجتماعية والأمنية (اشتعال الضواحي سنة 2004 وإخمادها بالقوة، واحتجاجات مطلبية وعمالية على عقد الوظيفة الأولى سنة 2006)، لتطفو على السطح مع حكومتي رافاران ودوفيلبان، واعتقد الجميع أنّ اليسار عائد حتما إلى الحكم، لكنّ ديناميكية نيكولا ساركوزي وحنكته وحملته الانتخابية، الناجحة بشكل كبير، جعلته يفوز بفارق بسيط أمام سيغولان رويال الاشتراكية سنة 2007.
خلال حكم ساركوزي، ومع تزايد "الشرخ الاجتماعي"، نجح الرئيس الجديد في وضع حد لارتفاع نسبة البطالة، وعمل على تحقيق إصلاحات في النظام التربوي، وأسّس ما عرف بـ"إسلام فرنسا"، أو الإسلام الذي يتماشى مع لائكية الدولة ومبادئ الجمهورية. وشاع حديث عن أهمية اندماج مسلمي شمال أفريقيا في المجتمع الفرنسي، في ظل سياسة متشدّدة تجاه الهجرة غير الشرعية، انتهجها ساركوزي مع بداية عهده. ترك ساركوزي الإليزيه على وقع الفضائح المتعلقة بتمويل كبير لحملته الانتخابية تلقاه من الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي. وعلى الرغم من إصراره على العودة، صوّت قسم كبير من الفرنسيين في انتخابات 2012 ضد عودته، ففاز فرانسوا هولاند، وعاد الاشتراكيون إلى الحكم. ولم تشهد شعبية رئيس فرنسي تدنيا كالتي شهدتها شعبية هولاند، على الرغم من الآمال الكبيرة التي عقدت عليه، وعلى الرغم من وعوده بالقضاء على البطالة ورفع مستويات المعيشة ومكافحة الفقر واستيعاب العمالة المهاجرة في النسيج الاجتماعي للبلاد. ويعدّ هولاند الرئيس الوحيد في تاريخ الجمهورية الخامسة الذي يقرّر عدم الترشح لولاية رئاسية ثانية في انتخابات 2017.
انبثق النظام القانوني في فرنسا من القوانين النابوليونية الخمسة الأساسية: القانون المدني، قانون الإجراءات الجنائية، قانون الإجراءات المدنية، القانون التجاري والقانون الجنائي. ويمنح الدستور الذي قامت عليه الجمهورية الخامسة سلطة حصرية للبرلمان، لسن التشريعات، فيما يتكفّل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بإصدار اللوائح التي تسمّي المراسيم التي قد تكون مستقلة (المادة 37)، أو مرتبطة بإنفاذ قانون معيّن (المادة 21). ويتولى المجلس الدستوري مسؤولية مناقشة دستورية القوانين، ويعيّن رئيس الجمهورية، بالتعاون مع رئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ، أعضاء المجلس الدستوري.
تم إقرار الدستور عن طريق الاستفتاء العام، وعارض فرانسوا ميتران مضمون الدستور، واحتج على الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية شارل ديغول، وتكمن المفارقة أنّ ميتران الذي صوّت "لا" على دستور الجمهورية الخامسة أصبح رئيسا على أساس هذا الدستور سنة 1981، بعد 23 عاما من حكم اليمين الديغولي، ويمين الوسط الجمهوري. واستنادا إلى الدستور، توزّعت سلطات الحكم إلى ثلاث سلطات: تشريعية وتنفيذية وقضائية. لكنّ الأمر الكبير الذي تغيّر مع هذا الدستور هو تحوّل النظام إلى رئاسي ديمقراطي، أو شبه رئاسي، أو شبه برلماني، ليتم انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب منذ رئاسيات عام 1965 التي أوصلت ديغول نفسه إلى الرئاسة. لسنواتٍ طويلة، بقي التحالف الذي يشكّل الأغلبية في الجمعية الوطنية محسوبا على التيار الذي ينتمي إليه رئيس الجمهورية، والأمر مماثل في عهد كل من ديغول وجورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان. وفي هذه الحالة يكون الحديث عن "السيطرة الموحدة".
تبدل الوضع مع وصول ميتران إلى السلطة، والدخول في حكومة حملت اسم "التعايش الأول" (première cohabitation) سنة 1986، نتيجة فوز اليمين الجمهوري في
ويعتبر شارل ديغول الأب الحقيقي للجمهورية الخامسة ومؤسسها الفعلي، ويعود السبب الرئيسي إلى الزخم والشعبية الكبيرة التي حظي بها ديغول عند الفرنسيين، لدوره القيادي في طرد قوات الاحتلال النازي من بلاده خلال الحرب العالمية الثانية، ونجاحه في إعادة صياغة المؤسسات السياسية ومساهمته في صناعة قرار عالمي، من خلال التأثير على القوى العالمية الكبرى. استقال ديغول من منصبه، بعد استفتاء الشعب الفرنسي الذي صوّت بأكثرية 52% ضد مشروعٍ تقدّم به ديغول، لإصلاح تنظيم المحافظات والأقضية، وتنظيم مجلس الشيوخ والبرلمان، وخلفه لفترة انتقالية رئيس مجلس الشيوخ، آلان بوهير، قبل أن يفوز بومبيدو برئاسيات 1969.
حافظ بومبيدو على النهج الديغولي في الحكم، واستمر جيسكار ديستان في تقديم نسخة سيادية لليمين، مع انفتاح أكبر على تيارات يسار الوسط والاشتراكية الديمقراطية، حتى أيار/ مايو 1981، التاريخ الذي شكّل منعطفا في مسار الحياة السياسية الفرنسية، ليس فقط بسبب وصول اشتراكي إلى الإليزيه، بل بسبب الشخصية الكاريزماتية التي مكّنت ميتران من استخدام صلاحيات الرئيس الواسعة، كما شارل ديغول، وهو الأمر الذي غاب، أو جاء على شكل نسخة باهتة في ولايتي بومبيدو وديستان.
حافظ ميتران على منصبه، وانتخب مرة جديدة عام 1988، وتمكن سابقا من توحيد اليسار حول برنامج مشترك سنة 1972، وهو ما ساهم في فوزه إلى حد كبير في انتخابات 1981، وفوز حزبه بأغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية. مع خسارة الاشتراكيين الحكم، وعودة التيار الديغولي مع جاك شيراك، بدأ النظام الحزبي الذي يشهد تعدّدية (تيار اليمين وتيار اليسار، وليس حزبين مسيطرين كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا) يظهر فرزا بين الحالتين، السيادية والفيدرالية، وبدا الانقسام واضحا منذ معاهدة ماستريخت في بداية التسعينيات، وصولا إلى التصويت بلا على دستور الاتحاد الأوروبي سنة 2005.
لم تشهد فرنسا استقرارا اجتماعيا/ اقتصاديا منذ الثلاثين المجيدة (trente glorieuses) التي بدأت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتهت مع أزمة النفط سنة 1973، فتراجع مستوى المعيشة، وارتفعت معدلات البطالة، وشكّلت انتخابات 2002 "زلزالا سياسيا"، تمثّل بإقصاء اليسار من الدور الأول، ووصول مرشح اليمين المتطرّف التاريخي، جان ماري لوبان، للدور الثاني. سقط لوبان أمام شيراك، لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، على عكس ما يرغب كثيرون في رده إلى شعبية شيراك، أو رغبة في منع وصول مرشح متطرّف إلى الحكم، فبرنامج لوبان المرتكز على إعادة الفرنك بدل اليورو، وتعديل النظام الضريبي، كلها كانت كارثية لفرنسا على المستوى الاقتصادي.
وتبقى هذه الحقبة رافعة لوعي فرنسي جديد، أسّس لمفهوم "التصويت المفيد"، أو التكتيكي
خلال حكم ساركوزي، ومع تزايد "الشرخ الاجتماعي"، نجح الرئيس الجديد في وضع حد لارتفاع نسبة البطالة، وعمل على تحقيق إصلاحات في النظام التربوي، وأسّس ما عرف بـ"إسلام فرنسا"، أو الإسلام الذي يتماشى مع لائكية الدولة ومبادئ الجمهورية. وشاع حديث عن أهمية اندماج مسلمي شمال أفريقيا في المجتمع الفرنسي، في ظل سياسة متشدّدة تجاه الهجرة غير الشرعية، انتهجها ساركوزي مع بداية عهده. ترك ساركوزي الإليزيه على وقع الفضائح المتعلقة بتمويل كبير لحملته الانتخابية تلقاه من الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي. وعلى الرغم من إصراره على العودة، صوّت قسم كبير من الفرنسيين في انتخابات 2012 ضد عودته، ففاز فرانسوا هولاند، وعاد الاشتراكيون إلى الحكم. ولم تشهد شعبية رئيس فرنسي تدنيا كالتي شهدتها شعبية هولاند، على الرغم من الآمال الكبيرة التي عقدت عليه، وعلى الرغم من وعوده بالقضاء على البطالة ورفع مستويات المعيشة ومكافحة الفقر واستيعاب العمالة المهاجرة في النسيج الاجتماعي للبلاد. ويعدّ هولاند الرئيس الوحيد في تاريخ الجمهورية الخامسة الذي يقرّر عدم الترشح لولاية رئاسية ثانية في انتخابات 2017.
مقالات أخرى
13 ابريل 2017
11 ابريل 2017
05 ابريل 2017