ذلكم المقطع الأول من الأيقونة الغنائية "ريح التغيير" (Wind of Change) لفرقة الهارد الروك الألمانية Scorpions (عقارب) التي ذاع صيتها من منتصف إلى أواخر الثمانينيات، ارتباطاً على وجه حميمي بتلك الأغنية أعلاه، التي كتبها ولحّنها مغني الفرقة كلاوس ماينه، مستلهماً العاصمة الروسية موسكو خلال زيارته لها مع الفرقة ضمن أول مهرجان لموسيقى الروك استضافه الاتحاد السوفياتي قبيل سقوطه عام 1989 تحت عنوان "موسيقى السلام".
تميّزت حينها بمقدمتها الفريدة في عالم الروك الصاخب، والتي أرادها ماينه على شكل لحن يُطلقه صفيراً من شفتيه، فصارت النشيد غير الرسمي للعصر، مُسدلةً الستارة الأميركية على زمن الستارة الحديدية Iron Curtain وحقبة الحرب الباردة.
إلا أن سلسلة إذاعية رقمية أميركية Podcast صدرت مؤخراً بعنوان Wind of Change من إنتاجٍ مشترك بين منصّة سبوتيفاي، أستوديو بينابل ستريت وكرووكد ميديا التي يديرها تومي فيتور Tommy Vietor، مُتحدّث البيت الأبيض ضمن إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، تروي تحقيقاً صحافياً مشوّقاً أعدّه الصحافي باتريك ردن كييف Patrick Radden Keefe، يستند على زَعْمِ جاسوسٍ أميركي مخفيّةٌ هويته، بأن أغنية "ريح التغيير" مَصدرُها الحقيقي جهازُه؛ وكالة الاستخبارات المركزية CIA.
خطة عمل سري Covert Action، وفق أدبيّات الوكالة، نصّت على دسّ أغنية تحضّ على التغيير وتدعو إليه، تنتشر بين شباب دول "الكتلة الشرقية" في أوروبا، سعياً عبر الثقافة الجماهيرية Pop Culture إلى تسريع مآل سقوطها وانهيارها. أما Scorpions، بحسب المصدر، فليست سوى فرقة من ألمانيا الغربية حينئذ، بدت مثالية لحمل تلك الرسالة؛ فهي تعزف موسيقى الهارد- الروك الأميركية، تُغني بالإنكليزية، جذورها أوروبية ولها شعبية واسعة بين المراهقين السوفييت والبولنديين، ناهيك عن الألمان الشرقيين. أيامَ الحرب الباردة وفي ظل حظر الجاز والروك والهيفي ميتال بوصفها مظاهرَ الرأسمالية المعادية، كانت تُنسخ ألبوماتها على أشرطة كاسيت خاصة ويجري تداولها سراً من غرب برلين إلى شرقها، ثم وارسو فكييف، حتى موسكو وسانت بطرسبرغ (سابقاً ليننغراد).
إن كانت القصة مُذهلة، هوليوودية النكهة بطعم الكوكاكولا، إلا أنها ليست مُستغربة، إن قوْربت في سياق المجهودات الحثيثة والمتصلة التي استثمرتها الولايات المُتحدة الأميركية في الدعاية الثقافية منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، لتندلع أخرى باردة وينقسم العالم معسكرين مُتحاربين أيديولوجيا، غربيٌ أميركي يعتمد الرأسمالية ويروّج إلى التعددية الديمقراطية، وشرقيٌ سوفياتي ينادي بالاشتراكية ويُدار بأنظمة قمعٍ شمولية.
خطابٌ من جهة، يخطّ الشعارات الرنانة ويرفع اللافتات البراقة والرايات الخفّاقة ويُنظم المسيرات الشعبية والاستعراضات الرياضية والعسكرية، فضلاً عن اتّكاله على قواعد سياسية وعمالية ونخبوية صلبة لحركة يسارٍ عالمية راسخة، كانت قد سبقت الاتحاد السوفياتي وحلف "وارسو".
في المقابل، عملت الولايات المتحدة بمقولة السياسي البريطاني اللامع ريتشارد كروسمان (1907-1974): "أفضلُ دعاية ناجحة، حين تظهر كما لو أنك لا تفعل شيئاً"؛ فلجأت إلى القوة المالية الناعمة والذراع الاستخباراتية الخفيّة في نشر دعاية ثقافية مُضادة لامرئية وغير ملموسة، لا تُناقض بذلك مبدأ "الإرادة الحرة" الذي يُشكّل، في الظاهر على الأغلب، رافعها الإيديولوجي، فتلدُ الأفكار الليبرالية وتنتشر كما لو كانت من وحي مُنظّريها، ومُنتهى أحلام مُتلقّفيها، وغاية تطلعات مستهلكيها.
اختيار فرقة ألمانيّة، سواءً لتجنيدها أو توريطها إن صدقت الرواية، أو تمثيلها إن كانت محض إشاعة، ليس بدوره خارج سياق التاريخ؛ ألمانيا المهزومة بُعيد الحرب العالمية الثانية جرت إذابتها وطنياً بُغية استئصال شرور النازية من نُوى المجتمع والمؤسسات، على قدر ما جرى تفتيتها جغرافياً بتقسيمها إلى شرق وغرب مناطقَ نفوذ للحلفاء المنتصرين، خطّها جدارٌ رسم الحدود الجيوسياسية للعالم بأسره. في برلين تائهة مُستباحة تبحثُ لها عن ذات بين الركام، تأسست أوّل الخمسينيات "منظمة الحرية الثقافية"؛ رأس حربة دعائية للـ سي آي إيه حول العالم.
بفضل مؤسسات منها الاسمي كفارفيلد Farfield، والمرتبط بأوليغارشيّة المصانع والمصارف كمؤسسة فورد وروكفلر، موّلت بسخاءٍ لا ينضب، مشهداً أدبياً وفنياً وموسيقياً من كتب ومجلات ومعارض وندوات وحفلات موسيقية، تناغم والأجندة الأميركية، بعلم أو بدون علمِ أولئك المُثقفين والمُبدعين السابحين في فلكه.
نهجٌ دعائي إذاً، اعتمد "تجييش الحرية"، سيجد في موسيقى الجاز والروك آند رول نواقل مناسبة من حيث توفير تلك الأجناس الفنية مجالات رحبة للارتجال من جهة، وارتباطها من جهة أخرى بأنماط عيش مُتحررة لناحية المسلك والملبس والنظرة بإزاء الحياة، كل ذلك مقابل هياكل هرمية تراتبية وتقاليد صارمة جديّة طَبعت صنوف الفن الطليعي والملتزم الذي دعمه المُعسكر الشرقي.
يجدر ذكر عاملٍ آخر فعّال في مرونة البروباغندا الأميركية ونفوذيّتها، ألا وهو انتشار اللغة الإنكليزية، إذ ورثت الولايات المتحدة رقعة واسعة من العالم تتكلم لغة إمبراطورية بريطانيّة بائدة، أو تسعى لتعلمها أملاً في ولوج سوق العولمة المُتشكّلة قُدماً منذ الستينيات، وباضطراد مُستمر.
كأغلب أعمال الصحافة الاستقصائية التي تستهدف دوائر وأجهزة استخباراتية تابعة لدول تفرض عليها السريّة صيانةً لأمنها القومي ومصالحها العليا، لا يمكن للتحقيق المُثير إدراك الحقيقة كاملة أو التثبّت قطعياً من صحة تسريبات العميل. بيد أن الرحلة التي تدوم ثماني حلقات متتالية لتنتهي عند الحديث مع كلاوس ماينه مُغنّي الفرقة، يُقابِل في معرضه بتلك المزاعم وجهاً لوجه، ستجول بالمستمع في غياهب الجاسوسية وأساليبها وطرائق عملها (الدنيئة والقذرة أحياناً كثيرة)، فضلاً عن تناقضاتها العجيبة ومفارقاتها الطريفة في بعض الأحيان.
يبقى توقيتُ إصدار التحقيق ذا دلالة سياسية راهنة لافتة، وذلك في ضوء الشقاق المُحتدم والمُناكفة المُستمرة، لسانُ حال مراكز القوى السياسية داخل الولايات المُتحدة. بصرف النظر عما إن كانت القصة واقعة أم أنها مجرد إشاعة، قد تكون الوكالة في الحالتين، كما لمّح الصحافي المُحقِق في الحلقة قبل الأخيرة، وراء بثّها وتداولها، فهي بقدر ما تفضح ظاهراً مساعي الـ سي آي إيه الدعائية في اختزال الحريّة إلى محض أداة بروباغاندا، بقدر ما تُشير باطناً وبنرجسية مُستترة، إلى براعة عمليّاتية في اختراق المجتمعات بمناهج غير تقليدية.
لذا، ومن رؤية نقدية أعمق لفحوى الرواية، أو لعلها الرسالة، تُستشف ملامح دعاية أخرى تحتية، غرضها ربما، إعادة الاعتبار للـ سي آي إيه، وإن بذات الأسلوب الأميركي الليبرالي الناقد للذات، الذي يؤثر إضاءة بعض الجوانب المُظلمة لقضايا الشأن العام حين تُعرض على واجهات وسائل الإعلام؛ فالوكالة تعيش اليوم إرهاصات الانعزالية والانكفاء الأميركيين عن الساحة الدولية، وتجد نفسها، أسوةً بغيرها على الساحة الداخلية، عرُضةً للاستقطاب الحاد في ظل إدارة رئيس حالي، خلافاً لكلّ من سبق، لا يُعير وقتاً للاستماع إلى تقاريرها اليومية، ولا يجد حرجاً خلال مؤتمر صحافي مثلاً عُقِد عقب قمة هلسنكي في 16 يوليو عام 2018 (عندما سئل عن احتمال تدخّل روسيا عام 2016 في انتخاباتٍ أتت به رئيساً) في أن يُكذّب استخباراته ويُصدّق نظيره الروسي، الذي كان في ماض غير بعيد مديرَ جهاز الاستخبارات السوفياتية KGB، وأين؟ في دريسدن بألمانيا الشرقية.
فنياً، تؤْذن الحلقات الثمانية، ومُشابهاتها من سلاسل رقمية تزخر بها منصّات الرفع والتحميل على الإنترنت، ببزوغ جنسٍ ترفيهيّ تثقيفيٍّ جديد ألا وهو البودكاست (التسمية ترجع إلى جهاز تحميل ولعب الملفات الصوتية iPod من إنتاج شركة آبل) يعود بالمُستمع إلى ذكريات المُسلسلات الإذاعية التي فقدت بريقها مع صعود التلفزيون نهاية القرن الماضي.
منها، يبدو البودكاست مُستلهماً أساليبه ووسائله، حيث المحورية لأدبية السرد ودرامية الحوار، تتكثّف ضمن وصفٍ سمعيٍّ للأحداث والمشاهد. الموسيقى المُصاحبة بدورها تدخل عاملاً في توجيه أذنيّ المتابع الموصولتين بسماعتين، فيما تُغلق العينين في استغراق، أو تُفتح لترقب قِدراً يغلي على النار أثناء الطبخ، أو لترصد مسار الطريق إلى البيت أو العمل أثناء قيادة السيارة أو ركوب الحافلة.