يطغى الحديث عن "الحروب" على غيره من المواضيع في واشنطن. وبات حديث الساعة وهو يتمحور حول المعارك السياسية المحلية، وكذلك حول المخاطر من تطور بعض الأزمات والصراعات الدولية إلى حروب في الخارج. يضاف إلى ذلك أن تخبط الإدارة الأميركية في التعامل مع الشؤون الخارجية لا يقتصر على الأزمات الساخنة، بل يشمل أيضاً ملفات التعاون الدولي والعلاقات الخارجية. فانسحاب إدارة ترامب من التكتلات والمنظمات والاتفاقيات الجماعية أو الدولية، صار أحد علاماتها الفارقة في ترجمة لموقفه القائم على عدم الإيمان بالعمل المشترك، إذ يعتبره مجحفاً بحق أميركا ويتم على حسابها، مقابل تمسكهه بالعمل السيادي كسبيل لترجمة شعار "أميركا أولاً". ولهذه الغاية، خرج من "اتفاقية باريس للمناخ"، ثم من "اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ". وهو على أهبة الاستعداد لمغادرة "اتفاق التبادل الحر لدول أميركا الشمالية" (نافتا)، فيما أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو).
حروب داخلية محتدمة
حروب داخلية محتدمة
وتبدو جولات الحروب الداخلية محتدمة بصورة غير مألوفة. وتؤشر إلى دخول الوضع السياسي الأميركي في عملية مخاض تنبئ بتغييرات وتحولات هيكلية عميقة. أما في ما يتعلق بالخارج، فلا تزال الأمور في طور التهويل والتهديد. لكن مجرد التلويح المبطّن باحتمال اندلاع حرب عالمية، من قبل بعض الأوساط الأميركية، أثار أجواء من الرعب وحالة من الاستنفار من أجل عدم خروج الوضع عن السيطرة في دائرة صنع القرار الأميركي، وللحؤول دون اندفاع صناع القرار في هذا المسار الخطير.
ملفات خارجية ساخنة
وفي موازاة المواجهات الداخلية، وما تتسببت به من فوضى، وما تمثله من تطور نوعي وربما مفصلي في الحياة السياسية الأميركية، يقوم ترامب بإدارة الملفات الدولية الساخنة بطريقة تعزز من احتمالات السيناريو العسكري الخارجي. وعندما يخرج رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، السيناتور بوب كوركر، المحسوب على خندق الرئيس، والمعروف بطبعه الدبلوماسي البعيد عن لغة الانفعال، إلى العلن ليحذر من أن ممارسات الرئيس "قد تقود إلى حرب عالمية ثالثة"، عندئذٍ يكون التخوف جدّيا ومشروعا. فالرجل مطّلع على أجواء القرار الخارجي بحكم موقعه الذي يعتبر بمثابة وزير ظلّ للخارجية. فهو يرى أن وجود الثلاثي، جيمس ماتيس، وجون كيلي، وريكس تيلرسون، في إشارة إلى وزير الدفاع، وكبير الموظفين في البيت الأبيض، ووزير الخارجية، يحول دون وقوع البلاد في الفوضى.
وليس سراً أن كثيرين في مجلس الشيوخ وبالتحديد من الجمهوريين يشاركون كوركر هذه الخشية، حتى وإنْ كانوا لا يجهارون بذلك. بل إن بعضهم انضم اليوم إليه علناً. وبعضهم من الجمهوريين في مجلس النواب.
بدوره، قال السيناتور الديمقراطي السابق جورج ميتشل "نحن في لحظة خطيرة من تاريخ أميركا"، وفق تعبيره. وكلامه يعكس الشعور السائد في واشنطن، باستثناء أوساط اليمين وبعض رموز المحافظين الجدد، الذين يدقون طبول الحرب، ويحرضون على نسف الاتفاق النووي الإيراني، ومن بينهم السفير السابق جون بولتون، الذي كان مرشحاً لمنصب وزير الخارجية في إدارة ترامب.
والمطالبون بوضع ضوابط على سلطة الرئيس في هذا الشأن، يقدمون عدة تبريرات وحجج تخدم مطلبهم. فالرئيس ترامب طالب في جلسة مع فريق الأمن القومي، في يوليو/تموز الماضي، بوجوب "مضاعفة حجم الترسانة النووية عشر مرات عما هي الآن". وسبق له أن أنذر كوريا الشمالية "بالتدمير الشامل" في خطابه في الأمم المتحدة. وقبل أيام عاد وكرر التلميح بقوله إن هناك "طريقة واحدة للتعامل مع كوريا، وإن دبلوماسية تيلرسون إضاعة للوقت"، وفق تعبير ترامب. ومثل هذا التلويح وغيره باستخدام النووي، معطوفاً على اشتباكه مع وزير خارجيته، رفع منسوب الريبة، مما أدى إلى الاستعانة بمرجعيات من الوزن الثقيل مثل وزير الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر، الذي اجتمع يوم الثلاثاء بالرئيس، قبل ساعتين من لقاء ترامب مع تيلرسون وماتيس في البيت الأبيض. ولم يجر تسريب أي معلومات عن الاجتماع. لكن لا شك أنه جاء في إطار المساعي المبذولة لتنفيس الاحتقان مع تيلرسون ولتخفيف نبرة الخطاب الخارجي وبالذات تجاه كوريا الشمالية. لكن سبق للرئيس أن اجتمع قبل فترة مع كيسنجر الذي قدم له المشورة في الحقل الخارجي. ومع ذلك، ساءت الأمور أكثر فأكثر. وبات الجميع يتعامل مع احتمال استخدام السلاح النووي كخطر متزايد.
صحيح أن وجود الثلاثي، ماتيس، كيلي، وتيلرسون، في دائرة القرار، يدفع البعض إلى عدم الإفراط في التشاؤم. لكن بقاءهم في الإدارة الأميركية غير مضمون. وهناك معلومات متداولة في واشنطن، مفادها أن التوتر بدأ يتسلل إلى علاقة كيلي بترامب، إذ "تجادل معه بصوت عالٍ" أخيراً، بحسب المعلومات المسربة.
وبكل حال تبقى حروب الداخل خارج نطاق سيطرتهم. ومن شأنها خلق مزيد من العراقيل بوجه أجندة الرئيس ترامب، المشتبك مع الكونغرس، خصوصاً مع الجمهوريين فيه. وهنا يكمن الخوف من أن يؤثر انسداد الطريق بوجه برامجه على قراره الخارجي، بحيث تغلب عليه سياسة الاصطدام لتعويم رصيده الشعبي المتراجع، إذ بلغت نسبة مؤيديه 38 في المائة، وفق آخر استطلاع للرأي. واحتمال التصعيد العسكري في الخارج يبقى مستبعداً، إذ لا تدعمه المؤسسة ولا الرأي العام. لكنه وارد لدى رئيس صار أسير سياسة العصا كمهرب من الإخفاقات والمشكلات الداخلية.