هل خدعتنا الدول الكبرى بلغة الضاد؟
جاءت هذه القنوات الإخبارية خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة كخطوة جديدة في ترويج سياسات الدول الممولة الإشكالية للمواطن العربي، فبعد الإذاعات والمجلات التي برزت في أواخر القرن الماضي، التي تسعى للتأثير على رأي المشاهد حول سيل الأخبار الذي لا يتوقف في هذا العالم والوطن العربي خاصة.
إذا اعتبرنا أن إطلاق راديو هيئة الإذاعة البريطانية "BBC" باللغة العربية ثلاثينيات القرن الماضي جاء كقوة ناعمة رديفة للحلفاء في تلك الفترة، فمن السهل تخمين أسباب إطلاق الدول الأجنبية الكبرى خاصة في الوقت الذي تحافظ فيه على نفوذها، إذ جاءت القنوات كمدخل لتبرير ادعاءات تدخلها في المنطقة كوصية على الديمقراطية والحريات، خاصة أن التلفزيون يصل للجمهور غير المتجانس من كافة الطبقات على خلاف الصحافة المكتوبة التي تتعاطى معها فئة أقل، لكن الربيع العربي عرى السياسة التحريرية لهذه المنصات، إذ دافعت عام 2011 وبعده عن مموليها ومصالح شركائهم، وليس إرادة الشعوب.
الفضائيات الدولية والربيع العربي
لمع نجم القنوات الدولية الناطقة بالعربية في الفترة التي كان يعاني فيها المشاهد العربي من رأيٍ واحدٍ يخضع لمؤسسات سلطوية تابعة للدولة، مهمتها مراقبة ما يسمعه ويراه ويقرأه المتلقي والتأكد من أنه لا يخالف وجهة نظر الدولة، مثل الشؤون المعنوية، وقسم الرقابة في وزارة الإعلام السورية وغيرها، إذ فتحت هذه القنوات مجالًا لآراء وأصوات ممنوعة من الظهور، الأمر الذي شكل ثقة مجتزأة لدى المشاهد العربي الذي بدأ في سماع آراء جديدة لم يعتد عليها من قبل.
بدأت هذه القنوات بتصدر قائمة القنوات الإخبارية في تلفاز الأسرة العربية في منتصف العقد الأول من الألفية الثانية، وقدمت مع الوقت برامج جذبت العديد من المتابعين وأثارت جدالاتٍ كانت تخشى القنوات الإخبارية العربية من طرحها لاعتبارات سياسية، ترافق مع ذلك إنتاج أعداد الضخمة من الأفلام الوثائقية التي أعادت كتابة التاريخ والأحداث الحالية حسب وجهة نظرها، وقد تميزت في ذلك نتيجة لضعف الإنتاج الوثائقي العربي واعتماد القنوات على ترجمة الوثائقيات غالباً.
لكن الربيع العربي وضع هذه القنوات أمام تحدٍ لم تكن تتوقعه فبروباغندا الدول التي تُعبر عنها تعارضت مع أصوات المحتشدين في الميادين وباتت إداراتها تحافظ على تغطية الأحداث التي لا يُمكن تجاهلها دون المساس بسياسات مموليها، ربما أكثر الأمثلة وضوحًا تغطية قناة روسيا اليوم للثورة السورية، إذ وقفت بجانب النظام السوري على حساب المتظاهرين، بل ذهبت في خطوة متوقعة أبعد من ذلك في الترويج للتدخل العسكري الروسي في الأراضي السورية في سبتمبر/ أيلول 2015 باعتباره مكافحة للإرهاب تطابقًا مع الرواية الرسمية لموسكو.
"الحُرة": هل كانت البداية حُرة؟
"إن جزءاً هاماً من رسالة قناة الحرة هو أن نكون مثالاً للصحافة الحرة على الطريقة الأميركية، ونكون مميزين مثل عمود نور في سوق إعلامي تهيمن عليه الإثارة والتشويه".. جاء هذا التصريح بعد عامٍ على غزو العراق، خلال إطلاق قناة الحُرة بتمويل من وزارة الخارجية الأميركية، على لسان نورمان باتيرز رئيس إدارة شركة الشرق الأوسط للبث المُشغلة للقناة، والتي كانت من أوائل القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية، حيث بدأت بثها في فبراير/ شباط 2004 في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، فاتحة الباب أمام الدول الأخرى للاستثمار في الهواء العربي وتمرير رؤيتهم للمشاهد في بيته.
انطلقت القناة بقوة وتابع المشاهد العربي "هذه القناة الجديدة" بترقب لما قد تقدمه، ورأى النقاد الإعلاميون فيها غير ما صرّح به باتيرز، ووصفوها بأنها محاولة أميركية لتحسين صورة الولايات المتحدة في الوطن العربي بعد غزو العراق والتأثير على رأي المشاهد العربي والعراقي خاصة..
فوصفها أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج تاون مأمون فندي بأنها: "تبدو متآمرة مع الإعلام العربي. فقدمت الوطن العربي للعرب ولم تقدم لهم أميركا وهي لا تعكس زخم الإعلام الأميركي والثقافة الأميركية والقيم الأميركية، وإنما صورة بائسة وباهتة للإعلام العربي"، كذلك وصفها الكاتب في صحيفة الشرق الأوسط طارق الحميد بعد ستة أشهر من انطلاقها بأنها "خطيئة واشنطن"، ثم سرعان ما استدعى الكونغرس الأميركي المدير العام السابق للقناة موفق حرب لجلسة استجواب بسبب إخفاق "الحرة" في منافسة الفضائيات العربية ووجهت إليه اتهامات عن هدر أموال دافعي الضرائب الأميركيين.
لعل القناة الصاعدة لم تنجح النجاح الكبير عربيًا كما وصلت عبر القناة الثانية التي افتتحوها بعدها بأشهر ووجهت للمشاهد العراقي باسم "الحرة عراق" كون المشاهد العراقي معنياً بسماع وجهة نظر الساعي إلى بناء ديمقراطية بعد نظام صدام حسين حسب قول واشنطن، لكن سرعان ما لجأ المتلقي العراقي لجهاز التحكم باحثاً عن قناة جديدة بعد الجرائم الأميركية في العراق التي صورتها القناة على أنها أفعالٍ نبيلة بطريقة فجّة تشبه أفلام هوليوود عن عمليات القوات الأميركية انطلاقًا من قواعدها العسكرية في الدول التي شهدت تدخلًا أميركيًا مثل العراق وأفغانستان، وهنا أصبحت الإجابة واضحة عن سؤال: "هل كانت قناة الحُرة، حرةً حقًا؟".
تركيا.. من الثقافة للسياسة
تركيا كدولة قريبة من العرب ومتأثرة بموجات الربيع العربي، إذ باتت مساحة آمنة لملايين اللاجئين وعشرات الأحزاب المعارضة أعادت إطلاق محطتها التلفزيونية العربية "TRT العربية" التي كانت قناة عامة تتحدث عن الثقافة التركية إلى قناة إخبارية باسم "TRT عربي" تُعبر فيها عن سياسات دولة أصبحت لاعبًا أساسيًا في دول الربيع العربي لا سيما سورية. إذ استعانت بعشرات الصحافيين الاحترافيين القادمين من قنوات عربية كُبرى لصنع منصتها العربية.
تحاول تركيا أن تؤثر في المشاهد العربي الذي اعتبرها إلى حدٍ ما حاضنة للثورات ومتعاطفة مع الأنظمة التي وُلدت بطريقة ديمقراطية قبل الإطاحة بها وحامية للمعارضين الفارين من القمع في دولهم التي تعرضت لثورات مضادة.
وتطرح تركيا في الفضائية المعاد إخراجها سياستها الخارجية بشكل أكثر وضوحاً للعرب وتعبر من خلال وجوه وأقلام عربية عن كونها دولة تقف إلى جانب قضايا لديها تعاطف في الشارع العربي كالقضية الفلسطينية والثورات العربية خاصة بعد قطع علاقاتها بالنظامين المصري والسوري منحازة بذلك إلى الشعوب كما تقول.
ماذا عن "إسرائيل"؟
منذ حرب الأيام الستة عام 1967 أدركت "إسرائيل" ضرورة مخاطبة الفلسطينيين في الداخل والعرب في الدول المجاورة لفلسطين المحتلة والتي تعرضت لاحتلال جزء من أراضيها، فكانت تبث نشرات أخبار باللغة العربية على شاشاتها قبل أن توسع خطابها عبر أول تجربة لقناة كاملة بالعربية في يونيو/ حزيران عام 2002 بإطلاقها "تلفزيون الشرق الأوسط" الذي جاء بفكرته السفير الإسرائيلي الأسبق في القاهرة موشي سيسون الذي برر فكرته للحاجة إلى "توضيح اسرائيل على حقيقتها وليس كما يتم تصويرها بصورة زائفة خصوصاً في أذهان الأجيال الشابة التي تجري تربيتها وتنشئتها على أساس كره إسرائيل"، ساعد في ذلك اليهود الجدد القادمون من البلاد العربية مثل مصر والعراق ممن يُتقنون اللغة العربية.
كذلك لم تفوت "إسرائيل" فرصة أن يكون لها إعلام فضائي بالعربية لاسيما بعد فشل تلفزيون الشرق الأوسط، معززة ذلك منظومة "الهسبراة" التي تتكون من مؤسسات حكومية مثل وزارة الخارجية ووزارة الشؤون الاستراتيجية ووحدة المتحدث باسم الجيش التي تسعى لتلميع وتسويق صورة الاحتلال في العالم، فأطلقت قناتين جديدتين بالعربية "آي 24 نيوز" التي بدأ بثها في يوليو/ تموز 2013 وتركز على المحتوى الإخباري والبرامج الحوارية التي تستضيف ضيوفًا إسرائيليين وعربًا يتناقشون حول مواضيع ذات علاقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي ونقاشات في قضايا عربية وعالمية أخرى.
ثم أطلقت لاحقًا قناة "مكان" التابعة لهيئة الإذاعة الإسرائيلية في مايو/ أيار 2017، وتبث برامج اجتماعية بالإضافة إلى النشرات الإخبارية على مدار اليوم، وقد ذاع صيتها عربيًا عند عرضها لمباريات كأس العالم 2018 في روسيا على شاشتها مجانًا، واعتبرت هذه الخطوة محاولة اختراق "ذكية" للمجتمع العربي من خلال الرياضة للتعريف بالقناة والأفكار التي تروج لها.
متى نُخاطبهم؟
مع محاولات الدول الكبرى اختراق منازل العرب عبر وسائل الإعلام وترويج سياساتهم التي في مجملها تبنيًا لمعتقدات الحكومات الممولة بدرجات متفاوتة لم يحاول العرب مخاطبة الآخر بهذا الكم والشكل نظراً لعدم وجود فائدة لدى الجهات التي يمكن أن تمول مشاريع مشابهة، إذا استثنينا من ذلك قناة الجزيرة الإنكليزية القطرية، فالإعلام العربي إما ممول من الحكومة أو مقرب منها في حال صنف نفسه مستقلاً، أما القلة التي تقدم محتوى حياديًا حقًا أو متحيزًا للقضايا والشعوب فإنها غير قادرة على بناء مشاريع بضخامة قنوات كبرى، وهنا يتحتم ذِكر أهمية شبكات التواصل الاجتماعي التي لعب مرتادوها دورًا في التوجه للآخر خاصة الشباب العرب المتحدثين بلغات أجنبية.
بناءً على ما سبق، يبقى المتلقي العربي مُحاصرًا في خياراته لمتابعة القنوات الإخبارية بين إعلام الدولة الرسمي والقنوات الأجنبية وما وجد من قنواتٍ خاصة لا يلعب في أيٍ منها دورًا في تصدير روايته ورؤيته للأحداث أو حتى مناقشتها، بل وفي عصر منصات التواصل الاجتماعي التي وجدت ليكتب فيها رؤيته لما حوله، باتت هذه القنوات وغيرها تغزو الحائط الزمني لمنصات التواصل المختلفة محاولةً الوصول إليه أينما كان، ولا ندري كيف ستخدمهم التكنولوجيا في ذلك بعد زمن قريب.
القنوات الإخبارية الأجنبية الناطقة بالعربية
يوجد العديد من القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية في مجالات مختلفة مثل قناة "عربية CNBC" المهتمة بالاقتصاد، وهناك أسماء لقنوات إخبارية أجنبية خاصة لكن حصلت على حقوق البث بإسمها بالعربية دول أو شركات مختلفة مثل قناة "سكاي نيوز عربية"، وهنا رصد لأهم القنوات التابعة لدول أجنبية وتنطق بالعربية:
قناة الحُرة: بدأ بثها عام 2004، تمول من الكونغرس الأميركي، واعتبرت الأكثر مشاهدة في العراق، وتسعى إلى "نقل تجربة الصحافة الحُرة الأميركية إلى المشاهد العربي"، وتوسعت بافتتاح قناة "الحُرة عراق" والمعنية بالشأن العراقي حصرًا.
قناة روسيا اليوم: بدأ بثها بالعربية عام 2007، تعتبر قناة إخبارية بالدرجة الأولى، تغطي الأخبار الروسية والعربية، لها مكاتب في غالبية عواصم الدول العربية، وتتميز بكثافة تغطية الأخبار في موقعها على شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي.
قناة فرانس 24: بدأ بثها بالعربية عام 2006، وتبث من باريس على مدار الساعة وكانت من أفكار الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، وتمول من الحكومة الفرنسية بميزانية تقدر بثمانين مليون يورو سنويًا.
قناة العالم الإيرانية: أطلقت عام 2003 من قبل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، غطّت الغزو العراقي على العراق بشكل موسّع وتفرد القناة مساحات كبيرة من هوائها لتغطية الأحداث في سورية منذ عام 2011 إلى الآن بما يخدم التوجه الإيراني الداعم للنظام السوري.
بي بي سي عربية: أطلقت النسخة العربية في عام 1994 بتمويل من شركة أوربت السعودية، ثم قطع بثها عام 1999 بعد أن بثت القناة برنامجاً عن حقوق الإنسان في السعودية، ثم أطلقت مجددًا عام 2008 وهي تمول من دافع الضرائب البريطاني لا من الحكومة.
قناة دويتشه فيله الألمانية: بدأ بثها بالعربية عام 2005، ويتم تمويلها من جمهورية ألمانيا الاتحادية، وتبث نشرات إخبارية وبرامج حوارية متنوعة أبرزها برنامج "شباب توك" الذي يعالج قضايا الشباب العربي في أوروبا والدول العربية ويثير جدالاتٍ مستمرة.
قناة تي ري تي التركية: بدأت بثها بالعربية عام 2010، وهي تتبع هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية وأنشأت بقرار من حكومة حزب العدالة والتنمية كقناة عامة، وأعادت انطلاقتها مطلع العام 2019 كقناة إخبارية بكادر جديد وطاقم أكبر وتغطية أوسع مستفيدة من تواجد العديد من الصحافيين العرب في مدينة إسطنبول التي تبث منها القناة.
قناة يورو نيوز الأوروبية: تبث الأخبار بالعربية منذ عام 2008، وتمول من الاتحاد الأوروبي في محاولة لبث الأخبار من منظور أوروبي، تبث بعشر لغات مختلفة من مقرها في مدينة ليون الفرنسية، وتعرض برامجها مع تعليق صوتي، إضافة إلى نقل أهم الأحداث والمؤتمرات الصحافية الهامة مباشرة.
قناة سي جي تي إن الصينية: بدأ بثها باللغة العربية عام 2009 وتتبع لتلفزيون الصين المركزي الممول من الحكومة الصينية، تبث أخبارًا وبرامج وثائقية مختلفة، وتتميز القناة بأن غالبية طاقمها ومذيعيها من الصينيين الناطقين بالعربية.
قناة مكان الإسرائيلية: بدأت بثها في مايو/ أيار 2017 بعد دمجها مع قناة 33 الإسرائيلية والتي كانت توجه للمشاهد الفلسطيني في الداخل المحتل، تبثّ القناة بموجب قانون البثّ العام في "إسرائيل"، ولمع اسمها بعد عرضها لمباريات كأس العالم 2018 في روسيا.
قناة آي 24 نيوز الإسرائيلية: بدأ بثها في يوليو/ تموز 2013 بمبادرة من باتريك درهي، الذي يملك السيطرة على شركة الكوابل الإسرائيلية "هوت" ويملك وسائل إعلام في دول مختلفة من العالم، وتولى منصب مديرها العام الدبلوماسي السابق، فرانك ملول، الذي عمل مستشاراً لرئيس حكومة فرنسا السابق، وصفها العاملون والمسؤولون في القناة بأنها ستكون "الجزيرة الإسرائيلية".