28 أكتوبر 2024
هل يزهر ربيع لبنان؟
انتهت مهلة الـ72 ساعة التي أعلنها رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، ووجدت الطبقة السياسية اللبنانية نفسها مرغمةً على الانحناء للعاصفة، فأعلنت عن حزمةٍ من الإصلاحات الاقتصادية، مع وعد بتطبيقها حتى نهاية العام الحالي (2019)، آملة في عبور الأزمة، واستجابة الشارع الغاضب للإصلاحات، مع إدراك رئيس الحكومة أنّ أبواب الأزمة ما زالت مفتوحة، وأنّ المتظاهرين لن يغادروا الشوارع والساحات، وقد يستمر وجودهم فيها أيامًا وأسابيع، فالسلطة تدرك أنّها تحتاج وقتًا إضافيًا لإجهاض ثورة الجماهير غير المسبوقة على مدى تاريخ لبنان كله، ولحسم التوافقات بين أركان الحكم، بعدما التفتت أطرافه كلها إلى الخطر الكامن على بنية النظام الطائفي بأسره، فاتّحدت تحت شعارات الخوف من الفراغ والمجهول. ولم يشُذّ عن هذه القاعدة سوى حزب القوات اللبنانية الذي استقال وزراؤه الأربعة، بعدما رأى في هذا الحراك فرصةً ذهبيةً لتصفية حساباته مع التيار العوني، وليبدأ معركة تمثيل الطائفة المارونية، وصولًا إلى الرئاسة المقبلة للجمهورية، معتبرًا نفسه، ومن المواقع الطائفية ذاتها للنظام، أنّه القوة المعارضة للعهد الحالي.
يرسم ما شهدته ساحات المدن اللبنانية كلها صورة مثالية كاملة للربيع العربي الذي شهدته بلدان
عربية عدة، ولكن ما يميّزه هنا أنّه جاء بمنزلة ثورة حقيقية على الطبقة السياسية المسيطرة كلها، وعلى أركان النظام الطائفي بأسره، إلا أنّ المفاجأة الحقيقية تكمن في امتداد الثورة إلى أماكن ساد اعتقاد بأنّها مغلقة تمامًا على بعض القوى، وخصوصًا في المناطق الإسلامية الشيعية والسنية، حيث شهدت مدن الجنوب وقراه، من النبطية إلى بنت جبيل وصيدا وصور، وأطراف الضاحية الجنوبية من بيروت، تظاهراتٍ غير مسبوقة، تمرّدت على ما عُرف بالثنائية الشيعية التي تضم حزب الله وحركة أمل، طُرحت فيها اتهاماتٌ طاولت رموزًا كبيرة وشخصياتٍ قيادية، مثل رئيس مجلس النواب، رئيس حركة أمل، نبيه بري، الذي هتف ضدّه الجمهور الغاضب في المناطق اللبنانية كلها.
كما تجرأ المتظاهرون في تلك المناطق على توجيه انتقادات طاولت الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، تتعلق بجدوى مشاركة الحزب في الحكومة، وموقفه من الحراك الجماهيري، واعتباره أنّ أي انتخابات مقبلة ستكون انعكاسًا للواقع الطائفي الحالي، ولن يكون بالإمكان أحسن مما كان. في حين ميّز كثيرون بين موقفهم الإيجابي من المقاومة ورفضهم الاختباء خلف شعاراتها، وإدانتهم الفساد والمحاصصة الطائفية، بل إنّ بعضهم تجرأ على التظاهر أمام مكاتب نواب محسوبين على الثنائية الشيعية وبيوتهم، ولم ترهبهم بنادق حركة أمل، واعتداءات مسلحيها عليهم، واتهامها خصومها بالعمالة لإسرائيل، ولا مسيرات الدراجات النارية، وهي الاعتداءات التي بادرت الحركة لاحقًا إلى إدانتها، بعدما لمست المدّ والغضب الجماهيري العارم. علمًا أنّ هذه المناطق كانت تُعتبر مغلقةً تمامًا على هذه الثنائية، ولم ينجح فيها أي مرشحٍ في الانتخابات خارج قوائمها التي تقاسمت المقاعد كلها، وكان المسّ بأحد رموزها أو مسؤوليها يُعتبر خطًا أحمر.
ما حدث في المناطق الشيعية حدث شبيهٌ له في المناطق السنية أيضًا؛ في طريق الجديدة، معقل حزب المستقبل، حيث خرج أنصاره يطالبون باستقالة الحكومة. كما شهدت مناطق البقاع، وطرابلس، وعكار، تظاهراتٍ كبيرة ومستمرة، طاولت سهام النقد والاتهام فيها الجميع بلا استثناء.
ما يميّز هذه الثورة أنّها وحّدت شعاراتها في المناطق اللبنانية كلها، مهما كان لونها المذهبي أو انتماؤها الطائفي، بشعاراتٍ تحارب المحاصصة الطائفية وتدينها، وتقف ضدّ الفساد، وتطالب بالخلاص من جميع الزعماء الممسكين بتلابيب السلطة السياسية، مرددة شعار "كلن يعني كلن". وفي داخل لبنان ككل، ثمّة متغيّرات ينبغي ملاحظتها، فما حدث هزّ الطبقة السياسية برمتها، وحتّم عليها أن تتفق، ولو مؤقتًا، لتواجه ما لم يكن متوقعًا، لكنّ مشكلتها أعمق من ذلك، فمن الصعب تجاهل الشارع الغاضب الموحّد في مطالبه. كما أن ثمّة إدراكا لضرورة الإصلاح أو الوعد به، إلا أنّها لا تمتلك أدوات الإصلاح اللازمة والضرورية، وفق النظام الذي تعيش به وتعتاش منه.
حذّر نصر الله من مخاطر الفراغ، ودعا إلى التمسّك بالحكومة، وهو الموقف ذاته الذي حمل وليد جنبلاط على تغيير موقفه من الاستقالة والدعوة إليها، ويتماثل في ذلك مع موقف الحريري الذي اعترف بأنّه قلب الطاولة على رأسه، حين وافق على التسوية المتعلقة بالانتخابات النيابية والرئاسية، على اعتبار أنّه حلّ أفضل من الانهيار، وهو الحل الذي أنهى عمليًا المحاور السابقة التي عُرفت بـ8 آذار و14 آذار. بل إنّ الحريري في بقائه سيكون رئيسًا لحكومةٍ يغلب عليها معارضوه السابقون، فهو بحاجة إليهم وهم بحاجة إليه، بذريعة التحذير من الفراغ والفوضى والانهيار.
أما حزب الله، فهو مضطرٌ للمضي في التحالف مع حركة أمل، حفاظًا على الثنائية الشيعية ووحدة الطائفة، متحمّلًا سلبيات هذا التحالف، بالتعرّض لاتهامات الصمت على سلوك حليفه. وكذلك
يحتاج إلى استمرار تحالفه مع التيار الوطني الحر، والرئيس ميشال عون، وهو التحالف الذي لعب دورًا رئيسًا في التأسيس لهذا العهد، وفي الدفاع عنه؛ فهذا التحالف هو الذي يحمي شرعية حزب الله، ويعترف بسلاحه، ضمن مصطلح "الشعب والجيش والمقاومة" في وجه المحاولات المحلية والإقليمية والدولية التي تحاول طرح خيارٍ آخر، يتعلق بوحدانية سلاح الجيش فحسب، ما يعني تجريد حزب الله من أهم مصادر قوته وشرعيته. ومن أجل ذلك، عليه أن يتحمّل وزر عنصرية رموز هذا التيار، وسعيهم إلى حسم انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة. وللأسباب ذاتها، فهو، وإن كان قد تجنب، في أعوام سابقة، دخول المعترك الحكومي، ما جعله في منأىً عن الاتهامات التي لحقت بالجميع، إلا أنّ مشاركته فيها في العقد الأخير، من دون أن يتمكّن من المساهمة بأي تغييراتٍ ذات معنى، قد حملته إلى المواقع ذاتها، ووضعته أو تكاد في سلة الآخرين.
هل هي نظرة متشائمة للربيع اللبناني؟ حتمًا لا، فما حدث شيءٌ يفوق الوصف. وعلى الرغم من محاولات احتواء الطبقة السياسية، بمختلف مكوّناتها، للموقف في اللحظة الراهنة، إلا أنّه بات من الصعب تجاهل الشارع اللبناني، أو معرفة المدى الذي سيصل إليه، على الرغم من عدم تبلور قيادة واضحة له حتى اللحظة. لكنه، وكما في المنعطفات التاريخية كلها، فإنّ احتمال بروز قياداتٍ عابرةٍ للطوائف يبدو أمرًا متوقعًا، ولعل بالإمكان القول إنّ هذه الثورة قد شكّلت حتى الآن فِعْلًا مؤسِسًا لما هو آتٍ، ولو بعد حين.
كما تجرأ المتظاهرون في تلك المناطق على توجيه انتقادات طاولت الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، تتعلق بجدوى مشاركة الحزب في الحكومة، وموقفه من الحراك الجماهيري، واعتباره أنّ أي انتخابات مقبلة ستكون انعكاسًا للواقع الطائفي الحالي، ولن يكون بالإمكان أحسن مما كان. في حين ميّز كثيرون بين موقفهم الإيجابي من المقاومة ورفضهم الاختباء خلف شعاراتها، وإدانتهم الفساد والمحاصصة الطائفية، بل إنّ بعضهم تجرأ على التظاهر أمام مكاتب نواب محسوبين على الثنائية الشيعية وبيوتهم، ولم ترهبهم بنادق حركة أمل، واعتداءات مسلحيها عليهم، واتهامها خصومها بالعمالة لإسرائيل، ولا مسيرات الدراجات النارية، وهي الاعتداءات التي بادرت الحركة لاحقًا إلى إدانتها، بعدما لمست المدّ والغضب الجماهيري العارم. علمًا أنّ هذه المناطق كانت تُعتبر مغلقةً تمامًا على هذه الثنائية، ولم ينجح فيها أي مرشحٍ في الانتخابات خارج قوائمها التي تقاسمت المقاعد كلها، وكان المسّ بأحد رموزها أو مسؤوليها يُعتبر خطًا أحمر.
ما حدث في المناطق الشيعية حدث شبيهٌ له في المناطق السنية أيضًا؛ في طريق الجديدة، معقل حزب المستقبل، حيث خرج أنصاره يطالبون باستقالة الحكومة. كما شهدت مناطق البقاع، وطرابلس، وعكار، تظاهراتٍ كبيرة ومستمرة، طاولت سهام النقد والاتهام فيها الجميع بلا استثناء.
ما يميّز هذه الثورة أنّها وحّدت شعاراتها في المناطق اللبنانية كلها، مهما كان لونها المذهبي أو انتماؤها الطائفي، بشعاراتٍ تحارب المحاصصة الطائفية وتدينها، وتقف ضدّ الفساد، وتطالب بالخلاص من جميع الزعماء الممسكين بتلابيب السلطة السياسية، مرددة شعار "كلن يعني كلن". وفي داخل لبنان ككل، ثمّة متغيّرات ينبغي ملاحظتها، فما حدث هزّ الطبقة السياسية برمتها، وحتّم عليها أن تتفق، ولو مؤقتًا، لتواجه ما لم يكن متوقعًا، لكنّ مشكلتها أعمق من ذلك، فمن الصعب تجاهل الشارع الغاضب الموحّد في مطالبه. كما أن ثمّة إدراكا لضرورة الإصلاح أو الوعد به، إلا أنّها لا تمتلك أدوات الإصلاح اللازمة والضرورية، وفق النظام الذي تعيش به وتعتاش منه.
حذّر نصر الله من مخاطر الفراغ، ودعا إلى التمسّك بالحكومة، وهو الموقف ذاته الذي حمل وليد جنبلاط على تغيير موقفه من الاستقالة والدعوة إليها، ويتماثل في ذلك مع موقف الحريري الذي اعترف بأنّه قلب الطاولة على رأسه، حين وافق على التسوية المتعلقة بالانتخابات النيابية والرئاسية، على اعتبار أنّه حلّ أفضل من الانهيار، وهو الحل الذي أنهى عمليًا المحاور السابقة التي عُرفت بـ8 آذار و14 آذار. بل إنّ الحريري في بقائه سيكون رئيسًا لحكومةٍ يغلب عليها معارضوه السابقون، فهو بحاجة إليهم وهم بحاجة إليه، بذريعة التحذير من الفراغ والفوضى والانهيار.
أما حزب الله، فهو مضطرٌ للمضي في التحالف مع حركة أمل، حفاظًا على الثنائية الشيعية ووحدة الطائفة، متحمّلًا سلبيات هذا التحالف، بالتعرّض لاتهامات الصمت على سلوك حليفه. وكذلك
هل هي نظرة متشائمة للربيع اللبناني؟ حتمًا لا، فما حدث شيءٌ يفوق الوصف. وعلى الرغم من محاولات احتواء الطبقة السياسية، بمختلف مكوّناتها، للموقف في اللحظة الراهنة، إلا أنّه بات من الصعب تجاهل الشارع اللبناني، أو معرفة المدى الذي سيصل إليه، على الرغم من عدم تبلور قيادة واضحة له حتى اللحظة. لكنه، وكما في المنعطفات التاريخية كلها، فإنّ احتمال بروز قياداتٍ عابرةٍ للطوائف يبدو أمرًا متوقعًا، ولعل بالإمكان القول إنّ هذه الثورة قد شكّلت حتى الآن فِعْلًا مؤسِسًا لما هو آتٍ، ولو بعد حين.