هل يستطيع السيسي تحصين كبار الضباط دوليّاً؟
داليا لطفي
محامية وباحثة حقوقية مصرية، عملت في شركات محاماة بريطانية، وعلى قضايا ضد وزارة الدفاع البريطانية بشأن تعذيب العراقيين والقتل خارج إطار القانون. وتمثل ضحايا التعذيب والمحكوم عليهم بالإعدام في مصر أمام الآليات الدولية والإقليمية.
نشرت الجريدة الرسمية في مصر، أخيرا، قانون الحصانة الذي أقرّه البرلمان، وصدّق عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي. ويثور تساؤل عن جدواه في ميزان القانون الدولي، لا سيما وأنه قانون لم يكتفِ بالحصانة الداخلية، بل امتد لمحاولة تحصين قادة الجيش "المختارين" ضد الملاحقة القضائية خارج القطر المصري. والحصانة مقابل القانون الإنساني الدولي موضوع معقد، أثار جدلا كبيرا، فمن جهة يولي القانون الدولي أهميةً للمحافظة على سيادة الدول، وتسهيل العلاقات الخارجية، بالسماح للمسؤولين بأداء مهامهم الرسمية نيابة عن دولهم في أثناء سفرهم أو إقامتهم في الخارج بتحصينهم من الملاحقة أمام المحاكم الوطنية للدول الخارجية، لكنه، (القانون الدولي)، يولي، في الوقت نفسه، الأهمية نفسها لمكافحة الإفلات من العقاب.
ومن أجل الحفاظ على العدالة الجنائية ومكافحة الإفلات من العقاب الذي عادة ما يكون شائعا على المستوى المحلي، أدخلت دول عديدة نظام الاختصاص القضائي الدولي، وأسست المحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم الدولية الخاصة (محكمة يوغوسلافيا السابقة مثلا)، ولكل من هذه المحاكم وهذه الدول التي تطبق الولاية القضائية العالمية معايير تطبيق وشروط تختلف من بلد إلى بلد بحسب القانون المحلي لكل دولة.
الحصانة محلياً ودولياً
على المستوى المحلي، يمكن تطبيق القانون المذكور في المحاكم المصرية فقط، فالحصانة المحلية يمكن العمل بها في النظام القضائي المصري، ما لم يتم الدفع بعدم دستورية القانون، وما لم تقضِ المحكمة الدستورية بعدم دستوريته. وحينها يصبح والعدم سواء. على المستوى الدولي: هل تمكن ملاحقة الوزراء وكبار المسؤولين والضباط العسكريين الكبار، المشتبه بتورطهم في التخطيط أو ارتكاب أو تحريض أو إعطاء أوامر بارتكاب الجرائم الدولية المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية (تعذيب، إخفاء قسري، قتل عمد، اضطهاد جماعة محددة لأسباب سياسية، عرقية، دينية... إلخ)، على الرغم من الحصانة الدبلوماسية التي أعطاها لهم القانون الجديد في أثناء سفرهم إلى الخارج؟
وزراء الخارجية ورؤساء الحكومات والدول محصّنون حصانة كاملة طوال فترة أدائهم مهامهم الرسمية من ملاحقتهم قضائيا أمام المحاكم الوطنية في الدول الخارجية التي يزورونها، أو
يقيمون فيها، بحكم عملهم، كالسفراء والدبلوماسيين المقيمين، هذه حصانة مطلقة من التحقيق معهم أمام محاكم وطنية في دول أجنبية، لكنها مؤقتة تزول بانتهاء مناصبهم. وهي حصانة لا يعتدّ بها أمام المحاكم الدولية، كالجنائية الدولية أو محكمة دولية خاصة تنشأ من مجلس الأمن، باعتماده قرارا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كمحكمة يوغوسلافيا أو رواندا، أو بموجب اتفاق المجلس مع دولة ما، مثل المحكمة الخاصة لسيراليون. كما يستثنى من تَرَكوا مناصبهم ممن تشملهم الحصانة، إذا كانوا متهمين في جرائم تعتبر جرائم دولية، كالموضحة أعلاه. رئيس تشيلي السابق، أوغستو بينوشيه، مثالا. (هذا في حالة وصول هذه القضايا إلى المحاكم الدولية، سواء بالإحالة المباشرة من مجلس الأمن، أو من أي طريق آخر، وهذه مسألة يطول فيها البحث، ويثور حولها جدل كثير).
ماذا عن الوزراء؟ في القضية التي رفعتها جمهورية الكونغو الديموقراطية ضد بلجيكا، أكدت محكمة العدل الدولية حصانة وزراء الخارجية، وتركت الباب مفتوحا بشأن باقي الوزراء؛ لأنه لا يوجد نص أو سابقة معروفة لوزراء آخرين. من حق الدول طبعا أن توسّع نطاق الحصانة، لتشمل وزراء غير الخارجية ومبعوثين آخرين. هذا خيار سياسي لأي دولة، شرط ألا يكون مخالفا قاعدة في القانون العرفي الدولي، أو اتفاقية تطلب التحقيق مع الشخص وفق الجرائم الموضحة أعلاه، لا سيما وأن المادة السادسة من اتفاقية مناهضة التعذيب تُلزم أي دولةٍ موقعةٍ عليها بملاحقة من يطأ أرضها من المشتبه بارتكابهم جرائم تعذيب، وكذلك (المادة السابعة) من اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وهذا يجعل من الصعب بشدة على الدول تبرير تحصين من يشتبه بهم في ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، من بعد يوليو/ تموز 2013 من المسؤولين المصريين. ولكنْ، هناك مثال آخر جدير بالملاحظة، وفي بلجيكا أيضا، فقد نظر القضاء البلجيكي في قضية ضد مدير عام وزارة الدفاع الإسرائيلية، عاموس يارون، بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في أثناء خدمته في الجيش الإسرائيلي في مخيمي صبرا وشاتيلا وقت وقوع المذبحة.
قضايا في بلجيكا
إذاً، لا توجد سوابق في القانون العرفي الدولي أو ممارسات كافية للدول تدل على أن للمسؤولين الرسميين الأقل درجة من الوزراء أو الضباط العسكريين الكبار حصانة، بل تؤكد قضية بلجيكا ضد عاموس أنها لم تأخذ في الاعتبار منصبه مدير عام لوزارة الدفاع الإسرائيلية، ولم تعدّه من المناصب المشمولة بالحصانة، فالأشخاص المشتبه باشتراكهم/ تخطيطهم/ أو إعطاء أوامر بارتكاب جرائم دولية (تعذيب/ إخفاء قسري/ قتل عمد) يمكن مقاضاتهم في الدول التي تطبق "نظام الولاية القضائية العالمية"، بعد التأكد طبعا مما تسمح به قوانينها المحلية. ولكي يتم إجراء هذه المقاضاة في المحاكم المحلية لهذه الدول، يجب أن يظهر أن لهذه المحاكم اختصاصا على الجرائم التي يرتكبها الأجانب ضد الأجانب خارج هذه الدول. وبل تؤكد قضية بلجيكا ضد عاموس أنها لم تأخذ في الاعتبار منصبه مديرا عاما لوزارة الدفاع الإسرائيلية، ويجب التأكد أن المرفوع ضده الدعوى من وكلاء الدولة لا يتمتع بحصانات القانون الدولي المذكورة سابقا.
ومن المهم هنا العودة إلى النزاع بين بلجيكا والكونغو، فقد رفعت الكونغو قضية ضد بلجيكا أمام محكمة العدل الدولية، تتهمها فيها بمخالفة قانون العرف الدولي، وتجاهُل مبدأ الحصانة
الدبلوماسية المطلقة لوزراء الخارجية الحاليين المنصوص عليه في المادة 41 (2) من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961) بشأن منصب وزير الخارجية.
وكانت بلجيكا قد أصدرت مذكرة اعتقال غيابية ضد وزير خارجية الكونغو، عبد الله يروديا، وتواصلت بها مع الشرطة الدولية (الإنتربول)، وعن طريقه إلى الدول الأخرى، تطالب بالقبض عليه والتحقيق معه، لارتكابه/ مشاركته في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بالمخالفة لاتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية، حيث ألقى سلسلة من خطابات الكراهية في عام 1998 في كينشاسا ضد عرقية التوتسي، نتج منها مئات من الاعتقالات التعسفية، القتل خارج إطار القانون والمحاكم غير العادلة ضدهم.
وحتى عام 2003، كان القانون البلجيكي يعطي المحاكم الجنائية الوطنية صلاحية النظر في جرائم دولية محدّدة منصوص عليها، أيا كان مكان ارتكابها، وحتى لو لم تكن هناك صلة مباشرة بين بلجيكا والجريمة المرتكبة. كما أن دولا عديدة، ومنها بلجيكا، قد عمدت، منذ أوائل التسعينيات، إلى إدماج الاختصاص القضائي في الجرائم الدولية بنصوصها المحلية، ومن ثم تبنّت نظام الولاية القضائية العالمية. ومثال ذلك في حالة بلجيكا قانون 16 لسنة 1993 "بشأن معاقبة الجرائم الجسيمة المنافية للقانون الإنسان الدولي"، لكن هذا القانون تغير في العام 2003، بحجة أنه تتم إساءة استخدامه، فصار يشمل حتمية وجود علاقة بين بلجيكا والجريمة المرتكبة. إلا أن بلجيكا استمرت في تطبيق نظام الولاية العالمية بعد ذلك، عندما طالبت السنغال بالتحقيق مع رئيس تشاد السابق، حسين حبري، أو ترحيله، على الرغم من عدم وجوده على الأراضي البلجيكية آنذاك، ولكن عندما تقدم بالشكوى مواطنون تشاديون مقيمون في بلجيكا.
وعلى الرغم من إلزام محكمة العدل الدولية لبلجيكا بإلغاء مذكرة الاعتقال الغيابية ضد وزير خارجية الكونغو، عبدالله يروديا، لمخالفتها القانون العرفي الدولي (بعد أن وجدت عدم وجود سوابق في ممارسات الدول، خصوصا المحاكم العليا، مثل محكمة النقض الفرنسية ومجلس
اللوردات البريطاني، برفع حصانة وزير الخارجية، كما لم تجد في القانون العرفي الدولي استثناء لرفع الحصانة أمام المحاكم الوطنية)، إلا أن الحكم اقتصر على ذكر حصانة وزير الخارجية ورؤساء الحكومات ورؤساء الدول، وترك الباب مفتوحا لباقي الوزراء، ولم يتطرّق لوزراء آخرين. وبالتالي، المجال مفتوح لمحاولة مقاضاة مَن هم أقل رتبةً ووزراء آخرين. وقالت محكمة العدل مع ذلك، إن الحصانة لا تعني الإفلات من العقاب بشأن الجرائم الدولية، ولا تعفي من المسؤولية الجنائية.
في حالة الرئيس التشادي السابق، حسين حبري، الذي تمت محاكمته في السنغال، قضت محكمة العدل الدولية في العام 2012 في دعوى تقدمت بها بلجيكا ضد السنغال، بأن الدول الأعضاء في اتفاقية مناهضة التعذيب ملزمةٌ بتجريم التعذيب، وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية. وعليها من ثم تحويل المسألة إلى السلطات المختصة، لإجراء تحقيق أوّلي، حال وصول الشخص المشتبه به إلى أراضيها، إذا رأت من الأدلة ما يبرّر الاشتباه بمسؤوليته عن ارتكاب جريمة التعذيب.
حالة مصر
الشاهد أن قانون الحصانة الذي صدّق عليه عبد الفتاح السيسي، وأصبح ساريا، هو دليل دامغ آخر على أنه لا يوجد أمل في الملاحقة داخليا والالتجاء إلى القضاء الداخلي، ومن ثم يجب ملاحقة كل من تورّط في الجرائم الدولية في مصر خارجيا، وتحديدا في الدول الأطراف في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، أو اتفاقية مناهضة التعذيب التي تضع التزاما على الدول الأطراف بأن تُرسي في محاكمها شكلا من أشكال الولاية القضائية العالمية على الانتهاكات الخطيرة. ويمكن أن تكون هذه الولاية مطلقة (غير مشروطة بحضور المتهم) أو مشروطة (بوجود المشتبه به على أراضيها). ولا تدرج بعض الدول كل الجرائم الدولية في اختصاصها، ويشترط بعضها الآخر موافقة المدعي العام على التحقيق، وتشترط دول أخرى أن يكون المشتبه به على أراضيها. ومن ثم، لملاحقة كبار الضباط المشتبه بهم في ارتكابهم جرائم دولية، يجب التأكد من شروط توفرها الواردة في القوانين المحلية، حيث إنها تختلف من دولة إلى أخرى. ثم تأتي بعد ذلك دراسة وجود حصانة قانونية دولية من ملاحقة الشخص المشتبه بارتكابه الجرائم الدولية. وعلى الرغم من أن الإجراءات قد تكون معقدة في بعض الأحيان، لنقص الأدلة، أو لعدم وجود إرادة سياسية، إلا أنها السبيل الوحيد للضحايا، والأمل لتحقيق العدالة ولضمان عدم الإفلات من العقاب، الآن أو في المستقبل.
لم ييأس الفلسطينيون من ملاحقة الضباط في الجيش الإسرائيلي في بلادٍ يسافر هؤلاء إليها، ونجحوا، في بعض الحالات، في تحجيم حركة بعض هؤلاء الضباط وتقليصها، في دول مثل بريطانيا وبلجيكا. والآن يتخذ السوريون والعراقيون مثل هذه الإجراءات. ولا أرى مانعا من أن يحذو المصريون في الخارج (بعد دراسة ما تسمح به القوانين المحلية لكل بلد ومدى استقلالية قضائها) حذو الفلسطينيين والسوريين والعراقيين والتشاديين وغيرهم... مثابرة الضحايا وتوفُر الأدلة وكفاءة المتقاضين عنصر أساسي في الوصول إلى العدالة.
ومن أجل الحفاظ على العدالة الجنائية ومكافحة الإفلات من العقاب الذي عادة ما يكون شائعا على المستوى المحلي، أدخلت دول عديدة نظام الاختصاص القضائي الدولي، وأسست المحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم الدولية الخاصة (محكمة يوغوسلافيا السابقة مثلا)، ولكل من هذه المحاكم وهذه الدول التي تطبق الولاية القضائية العالمية معايير تطبيق وشروط تختلف من بلد إلى بلد بحسب القانون المحلي لكل دولة.
الحصانة محلياً ودولياً
على المستوى المحلي، يمكن تطبيق القانون المذكور في المحاكم المصرية فقط، فالحصانة المحلية يمكن العمل بها في النظام القضائي المصري، ما لم يتم الدفع بعدم دستورية القانون، وما لم تقضِ المحكمة الدستورية بعدم دستوريته. وحينها يصبح والعدم سواء. على المستوى الدولي: هل تمكن ملاحقة الوزراء وكبار المسؤولين والضباط العسكريين الكبار، المشتبه بتورطهم في التخطيط أو ارتكاب أو تحريض أو إعطاء أوامر بارتكاب الجرائم الدولية المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية (تعذيب، إخفاء قسري، قتل عمد، اضطهاد جماعة محددة لأسباب سياسية، عرقية، دينية... إلخ)، على الرغم من الحصانة الدبلوماسية التي أعطاها لهم القانون الجديد في أثناء سفرهم إلى الخارج؟
وزراء الخارجية ورؤساء الحكومات والدول محصّنون حصانة كاملة طوال فترة أدائهم مهامهم الرسمية من ملاحقتهم قضائيا أمام المحاكم الوطنية في الدول الخارجية التي يزورونها، أو
ماذا عن الوزراء؟ في القضية التي رفعتها جمهورية الكونغو الديموقراطية ضد بلجيكا، أكدت محكمة العدل الدولية حصانة وزراء الخارجية، وتركت الباب مفتوحا بشأن باقي الوزراء؛ لأنه لا يوجد نص أو سابقة معروفة لوزراء آخرين. من حق الدول طبعا أن توسّع نطاق الحصانة، لتشمل وزراء غير الخارجية ومبعوثين آخرين. هذا خيار سياسي لأي دولة، شرط ألا يكون مخالفا قاعدة في القانون العرفي الدولي، أو اتفاقية تطلب التحقيق مع الشخص وفق الجرائم الموضحة أعلاه، لا سيما وأن المادة السادسة من اتفاقية مناهضة التعذيب تُلزم أي دولةٍ موقعةٍ عليها بملاحقة من يطأ أرضها من المشتبه بارتكابهم جرائم تعذيب، وكذلك (المادة السابعة) من اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وهذا يجعل من الصعب بشدة على الدول تبرير تحصين من يشتبه بهم في ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، من بعد يوليو/ تموز 2013 من المسؤولين المصريين. ولكنْ، هناك مثال آخر جدير بالملاحظة، وفي بلجيكا أيضا، فقد نظر القضاء البلجيكي في قضية ضد مدير عام وزارة الدفاع الإسرائيلية، عاموس يارون، بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في أثناء خدمته في الجيش الإسرائيلي في مخيمي صبرا وشاتيلا وقت وقوع المذبحة.
قضايا في بلجيكا
إذاً، لا توجد سوابق في القانون العرفي الدولي أو ممارسات كافية للدول تدل على أن للمسؤولين الرسميين الأقل درجة من الوزراء أو الضباط العسكريين الكبار حصانة، بل تؤكد قضية بلجيكا ضد عاموس أنها لم تأخذ في الاعتبار منصبه مدير عام لوزارة الدفاع الإسرائيلية، ولم تعدّه من المناصب المشمولة بالحصانة، فالأشخاص المشتبه باشتراكهم/ تخطيطهم/ أو إعطاء أوامر بارتكاب جرائم دولية (تعذيب/ إخفاء قسري/ قتل عمد) يمكن مقاضاتهم في الدول التي تطبق "نظام الولاية القضائية العالمية"، بعد التأكد طبعا مما تسمح به قوانينها المحلية. ولكي يتم إجراء هذه المقاضاة في المحاكم المحلية لهذه الدول، يجب أن يظهر أن لهذه المحاكم اختصاصا على الجرائم التي يرتكبها الأجانب ضد الأجانب خارج هذه الدول. وبل تؤكد قضية بلجيكا ضد عاموس أنها لم تأخذ في الاعتبار منصبه مديرا عاما لوزارة الدفاع الإسرائيلية، ويجب التأكد أن المرفوع ضده الدعوى من وكلاء الدولة لا يتمتع بحصانات القانون الدولي المذكورة سابقا.
ومن المهم هنا العودة إلى النزاع بين بلجيكا والكونغو، فقد رفعت الكونغو قضية ضد بلجيكا أمام محكمة العدل الدولية، تتهمها فيها بمخالفة قانون العرف الدولي، وتجاهُل مبدأ الحصانة
وكانت بلجيكا قد أصدرت مذكرة اعتقال غيابية ضد وزير خارجية الكونغو، عبد الله يروديا، وتواصلت بها مع الشرطة الدولية (الإنتربول)، وعن طريقه إلى الدول الأخرى، تطالب بالقبض عليه والتحقيق معه، لارتكابه/ مشاركته في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بالمخالفة لاتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية، حيث ألقى سلسلة من خطابات الكراهية في عام 1998 في كينشاسا ضد عرقية التوتسي، نتج منها مئات من الاعتقالات التعسفية، القتل خارج إطار القانون والمحاكم غير العادلة ضدهم.
وحتى عام 2003، كان القانون البلجيكي يعطي المحاكم الجنائية الوطنية صلاحية النظر في جرائم دولية محدّدة منصوص عليها، أيا كان مكان ارتكابها، وحتى لو لم تكن هناك صلة مباشرة بين بلجيكا والجريمة المرتكبة. كما أن دولا عديدة، ومنها بلجيكا، قد عمدت، منذ أوائل التسعينيات، إلى إدماج الاختصاص القضائي في الجرائم الدولية بنصوصها المحلية، ومن ثم تبنّت نظام الولاية القضائية العالمية. ومثال ذلك في حالة بلجيكا قانون 16 لسنة 1993 "بشأن معاقبة الجرائم الجسيمة المنافية للقانون الإنسان الدولي"، لكن هذا القانون تغير في العام 2003، بحجة أنه تتم إساءة استخدامه، فصار يشمل حتمية وجود علاقة بين بلجيكا والجريمة المرتكبة. إلا أن بلجيكا استمرت في تطبيق نظام الولاية العالمية بعد ذلك، عندما طالبت السنغال بالتحقيق مع رئيس تشاد السابق، حسين حبري، أو ترحيله، على الرغم من عدم وجوده على الأراضي البلجيكية آنذاك، ولكن عندما تقدم بالشكوى مواطنون تشاديون مقيمون في بلجيكا.
وعلى الرغم من إلزام محكمة العدل الدولية لبلجيكا بإلغاء مذكرة الاعتقال الغيابية ضد وزير خارجية الكونغو، عبدالله يروديا، لمخالفتها القانون العرفي الدولي (بعد أن وجدت عدم وجود سوابق في ممارسات الدول، خصوصا المحاكم العليا، مثل محكمة النقض الفرنسية ومجلس
في حالة الرئيس التشادي السابق، حسين حبري، الذي تمت محاكمته في السنغال، قضت محكمة العدل الدولية في العام 2012 في دعوى تقدمت بها بلجيكا ضد السنغال، بأن الدول الأعضاء في اتفاقية مناهضة التعذيب ملزمةٌ بتجريم التعذيب، وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية. وعليها من ثم تحويل المسألة إلى السلطات المختصة، لإجراء تحقيق أوّلي، حال وصول الشخص المشتبه به إلى أراضيها، إذا رأت من الأدلة ما يبرّر الاشتباه بمسؤوليته عن ارتكاب جريمة التعذيب.
حالة مصر
الشاهد أن قانون الحصانة الذي صدّق عليه عبد الفتاح السيسي، وأصبح ساريا، هو دليل دامغ آخر على أنه لا يوجد أمل في الملاحقة داخليا والالتجاء إلى القضاء الداخلي، ومن ثم يجب ملاحقة كل من تورّط في الجرائم الدولية في مصر خارجيا، وتحديدا في الدول الأطراف في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، أو اتفاقية مناهضة التعذيب التي تضع التزاما على الدول الأطراف بأن تُرسي في محاكمها شكلا من أشكال الولاية القضائية العالمية على الانتهاكات الخطيرة. ويمكن أن تكون هذه الولاية مطلقة (غير مشروطة بحضور المتهم) أو مشروطة (بوجود المشتبه به على أراضيها). ولا تدرج بعض الدول كل الجرائم الدولية في اختصاصها، ويشترط بعضها الآخر موافقة المدعي العام على التحقيق، وتشترط دول أخرى أن يكون المشتبه به على أراضيها. ومن ثم، لملاحقة كبار الضباط المشتبه بهم في ارتكابهم جرائم دولية، يجب التأكد من شروط توفرها الواردة في القوانين المحلية، حيث إنها تختلف من دولة إلى أخرى. ثم تأتي بعد ذلك دراسة وجود حصانة قانونية دولية من ملاحقة الشخص المشتبه بارتكابه الجرائم الدولية. وعلى الرغم من أن الإجراءات قد تكون معقدة في بعض الأحيان، لنقص الأدلة، أو لعدم وجود إرادة سياسية، إلا أنها السبيل الوحيد للضحايا، والأمل لتحقيق العدالة ولضمان عدم الإفلات من العقاب، الآن أو في المستقبل.
لم ييأس الفلسطينيون من ملاحقة الضباط في الجيش الإسرائيلي في بلادٍ يسافر هؤلاء إليها، ونجحوا، في بعض الحالات، في تحجيم حركة بعض هؤلاء الضباط وتقليصها، في دول مثل بريطانيا وبلجيكا. والآن يتخذ السوريون والعراقيون مثل هذه الإجراءات. ولا أرى مانعا من أن يحذو المصريون في الخارج (بعد دراسة ما تسمح به القوانين المحلية لكل بلد ومدى استقلالية قضائها) حذو الفلسطينيين والسوريين والعراقيين والتشاديين وغيرهم... مثابرة الضحايا وتوفُر الأدلة وكفاءة المتقاضين عنصر أساسي في الوصول إلى العدالة.
دلالات
داليا لطفي
محامية وباحثة حقوقية مصرية، عملت في شركات محاماة بريطانية، وعلى قضايا ضد وزارة الدفاع البريطانية بشأن تعذيب العراقيين والقتل خارج إطار القانون. وتمثل ضحايا التعذيب والمحكوم عليهم بالإعدام في مصر أمام الآليات الدولية والإقليمية.
داليا لطفي