15 مارس 2021
هل يعود اليسار إلى الساحة السياسية في فرنسا؟
تلقى تيار اليسار الفرنسي ضربة قاصمة في الانتخابات الرئاسية في العام 2017، والتي حاز فيها اليساري جان لوك ميلينشون على 18% فقط من الأصوات مقارنةً بنحو ثلث الأصوات الانتخابية لليمين المتطرّف والأغلبية الساحقة لتيار الوسط ممثلاً في الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. لكن تتالي احتجاجات السترات الصفراء للأسبوع التاسع، واتجاه الحكومة الفرنسية إلى القمع، كما يظهر من تجنيد نحو عشرة آلاف شرطي في أنحاء العاصمة باريس، في أجواء تظاهرات 12 يناير/ كانون الثاني الحالي، ورفض الرئيس ماكرون التراجع عن سياسات التقشف، على الرغم من حزمة الإصلاحات الاقتصادية المقترحة، خصوصًا السياسات الأكثر إيلامًا لذوي الدخول الدنيا والمتوسطة (قوانين العمل وضرائب الملكية والدخول)، إنما يفتح الباب واسعًا أمام عودة التنافس بين اليمين المتطرّف واليسار هذه المرة، خصوصًا مع تعالي الأصوات المندّدة بفشل سياسات التقشف واستبداد الحكومات الأوروبية بطرحها "البديل الوحيد"، على الرغم من عجزها عن خفض الدين الحكومي، واستعادة الثقة في النظام الاقتصادي من القوى العاملة وأصحاب رؤوس الأموال على السواء، بينما يبدو النموذج الأميركي أكثر نجاحًا على المستوى الاقتصادي. لكن توجهات اليمين المتطرّف تجاه المعاهدات الدولية التجارية والمؤسسات والاتفاقات التي أرست أسس النظام العالمي تثير المخاوف من تكرار الظاهرة في البلدان الأوروبية ذات الثقل الدولي (فرنسا وانكلترا وألمانيا)، فما الفرص المتاحة لليسار في ظل هذه المعطيات؟
سياسات التقشف في أوروبا
ظلت سياسات التقشف الحل الوحيد المعتمد لدى المؤسسات المالية والحكومات الأوروبية، على الرغم من تراجع نتائجها على أصعدةٍ كثيرة، وعلى مدار أزمتين عالميتين: الأولى مطلع القرن
العشرين وقبيل الحرب العالمية الثانية، والثانية في عام 2007. وتتلخص أزمة التقشف في ثلاث نقاط حددها مارك بلايث في مقالته في مجلة "Foreign Affairs"، أولاها أن التقشّف يعني معالجة الديْن العام بمزيد من الديْن الخاص، حيث يؤثر خفض الإنفاق الحكومي على الشرائح الدنيا (الأكثر اتساعاً وتأثيرا، ككتلة انتخابية) باتجاهها إلى الاقتراض لسد الفجوة في خدمات الصحة والتعليم التي لم يعد يستوفيها الإنفاق الحكومي. وبالتالي، تتحمل الشريحة الأفقر والأقل دخلاً ثمن خفض الإنفاق العام، بينما لا يتأثر ذوو الدخول المرتفعة، وهو ما يؤدي، من جهةٍ، إلى زيادة الإجراءات الحمائية لصالح المؤسسات المقرضة، وزيادة العقوبات المترتبة على فشل السداد، ما يأتي ضمن جملة أسباب التصويت للحكومات اليمينية التي يتوجّه خطابها إلى الشريحة الدنيا من العاملين الذين تحاصرهم الديون، وتسحب الدولة خدماتها العامة من متناولهم. الأزمة الثانية بنيوية، تتمثل في أن خفض الإنفاق العام في كل الدول الأوروبية يؤدي فعلاً إلى خفض الأجور المحلية. وبالتالي، تكاليف الاستثمار، لكنه يستلزم قيام دولة أخرى بالاستثمار والإنفاق العام، وهو أمر لا يتحقق حال توجه كل الدول، المعتمدة على بعضها بعضا بموجب اشتراكها في اتحاد اقتصادي وعملة مالية موحدة، إلى خفض الإنفاق الحكومي، ما يؤدي إلى ركود عام، وضعفٍ في معدلات النمو (نحو 2% في فرنسا). وتبدو النقطة الثالثة أكثر بداهة، وهي أنه نظريًا يفترض أن يزيد الأفراد الإنفاق الخاص، حال خفض الإنفاق الحكومي، لكن هذا لا يحدث، بل يتجه الموظفون والعمال إلى خفض الإنفاق الخاص، بغرض التوفير، تحسبًا من فقدان وظائفهم تحت مسمى التقشف، بينما يزداد الطلب على الاقتراض. وبالتالي، ترتفع أسعار الفائدة محليًا، وتؤدي بالاقتصاد إجمالاً إلى الانكماش، وتراجع الإنتاج المحلي العام، وانعدام الثقة في مناخ العمل والاستثمار، وهو عين ما تحاربه، وتقود إليه، في الوقت نفسه، سياسات التقشف.
لا تغيب هذه المتتالية عن باحثي الاقتصاد ورواد المدرسة الليبرالية، فمعروفٌ عن جان لوك قبوله بدور الدولة في تصحيح التناقضات وفجوات التوزيع التي ينتجها نظام السوق الحر، لكن هذا لا يتأتى من دون مزيد من الضرائب على الملكية الخاصة، وهو ما يبرز إشكالية دور
الدولة في حماية حقوق الأفراد من جهة، ومراعاة توزيع الثروة والدخول بين فئات المجتمع من جهة أخرى. كان الحل الذي اقترحه ديفيد هيوم وآدم سميث أن تطرح الدولة أسهمها في السوق للمستثمرين، بحيث توفر آلية للاستثمار الآمن في المشروعات القومية، لكن هذا قاد إلى رفع أسعار الفائدة، وتحجيم سوق الاستثمار المحلي، بينما تبقى الدولة مدينةً محليًا ثم دوليًا. من هنا، جاء خفض الدين الحكومي هدفا مرغوبا لذاته بأي ثمن. وانقسم الفكر الاقتصادي بين اتجاه سعي إلى محو دور الدولة تمامًا، باعتبار أضرار تدخّلها الاقتصادي، تبعًا لأفكار ديفيد ريكاردو وفريدريش هايك وغيرهما، وبين اتجاه ستيوارت ميل وجون كينز في أن تقوم الدولة بمزيدٍ من الاستثمار في الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية، وبالتالي مزيد من التدخل، بل والديْن الحكومي إن تطلب الأمر، وهو الاتجاه الذي برز واضحًا عقب الأزمة العالمية الأولى في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، حين أسرفت البنوك المحلية في الإقراض، وارتفعت أسعار الفائدة، ثم أعقبتها موجة من الإفلاس، لم تتحمل الموازنات الحكومية تكاليفها، ما أدى إلى "الانهيار العظيم Great Depression"، وما تلاه من صعود النزعات الشعبوية والفاشية والعنف، ثم سادت الأفكار الداعمة لمزيد من التدخل الحكومي، لتصحيح توازنات السوق، والتغلب على الأزمات الثلاث السابق ذكرها: التوزيع، والبنية الاقتصادية، وأزمة الاستقرار، لتظهر بعد نحو 60 عامًا مرة أخرى سياسات التقشف والانسحاب التي ثبت فشلها قبلاً، في محاولة لمعالجة آثار الأزمة العالمية 2007.
كان افتراض الرشادة المطلقة في آليات السوق الحر، والتعامل مع المواطن باعتباره "زبونا" راشدا يقدّر المكاسب والخسائر، بحكمةٍ متناهيةٍ، واحدًا ضمن أهم مسببات الأزمة الأخيرة، فالحقيقة أن النظريات الاقتصادية لم تتحسّب لحالة توسع البنوك في الإقراض، وارتفاع الطلب على الاقتراض من "الزبائن"، على الرغم من المخاطر العالية، ثقةً في النظام البنكي والسوق الحر، وكان الحل الجاهز نظريًا وقت الكارثة هو العودة إلى التقشف الذي لم يقض على فجوة الموازنات العامة لدى بعضٍ من أهم الدول في المنطقة، مثل المملكة المتحدة (-4.1%)، وأكثر المتضررين رومانيا (-3.4%)، سلوفاكيا (-2.1%)، لاتفيا، واليونان، وحتى فرنسا (-0.8%)، على الرغم من مرور عشر سنوات على التطبيق، وإن كان قد قلل من معدلات الدين الحكومي لعموم الدول الأوروبية. وتعاني دول أوروبا الشرقية (الأكثر تضررًا لاتفيا وليتوانيا ورومانيا) من معدلات أعلى للدين الحكومي، على الرغم من التزامها الحاسم بمحدّدات التقشف، لقاء عدم سحب الدول الأوروبية أموالها من البنوك المحلية، بحسب اتفاق فيينا 2009. كما أدت تلك السياسات إلى ارتفاع نسب البطالة في أكثر الدول تضررًا، ولم تؤد، كما كان متوقعًا نظريًا، إلى استقرار مناخ الاستثمار والعمل، بل زاد الاعتماد على التوظيف المؤقت بكل ما يواكبه من إشكالاتٍ في حقوق التأمين والخدمات، وحتى اليونان التي كان يستهدفها برنامج الإصلاح الهيكلي، لم تتعاف من عبء الأزمة الاقتصادية إلا بعد ثماني سنوات، وبكلفةٍ اقتصاديةٍ واجتماعية حادة تودي، بحسب بعض المحللين، بأسس "العقد الاجتماعي social contract" المفترض نظريًا بين المواطنين وحكومات الدولة القومية الحديثة.
الاستبداد النيوليبرالي
تتحمّل الحكومات من خلال السياسات والقرارات الاقتصادية نتائج تطبيق برامج التقشف، كما يبرز من نتائج صناديق الانتخاب، بحسب ما تقرّره منظومة الحكم في الدول المدنية الحديثة،
لكن واقع الحال، أن الدول الغربية لم تعد أقل استبدادًا من دول أفريقيا وآسيا التي كثيرا ما ارتبط اسمها بمتلازمة الاستبداد والتقشّف (الإصلاح الهيكلي). حتى نظريًا، تشير مؤلفات وتعليقات فريدريك هايك إلى الحاجة إلى الاستبداد السياسي والتشكيك في جدوى العدالة الاجتماعية، وهي التعليقات التي تسهم الآن في إطار تحليل اتجاهات الرأي العام الأوروبي منذ عام 2007، خصوصًا بعد انهيار شعبية الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا في انتخابات 2009، على الرغم من تسيده المشهد المحلي أكثر من خمسة عقود، وكذلك شعبية الحزب الديمقراطي الاجتماعي في السويد في انتخابات 2010، على الرغم من استمرار هيمنته على الساحة السياسية منذ 1920، وهزيمة حزب العمال الاشتراكي في إسبانيا عام 2011، وكلها مؤشرات على تراجع التأييد الشعبي لأسس العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الحكومات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لم تظهر تلك المؤشرات مباشرة في الساحة السياسية، على الرغم من تجاهل الأدبيات الخاصة برولز وهبرماس دور الهيمنة الاقتصادية والأيديولوجية على المجال السياسي، خصوصًا حال التعامل مع "ثقافة الديمقراطية" كإحدى مسلمات الاجتماع السياسي، من دون النظر إلى عمليات التفكيك والتهميش التي يجريها رأس المال والسوق الحر، وما ينتج عنهما من سوء توزيع الثروة وفجوة الدخول المتزايدة. تم تسويق آليات التقشف وبرامجه في سبعينيات القرن الماضي، على الرغم من كل ما يعتري تلك البرامج من عوار، استغلالاً لغضب الجماهير، آنذاك، من سياسات حزب العمال الذي فشل في إدارة الركود الاقتصادي، عقب ارتفاع أسعار الوقود في المملكة المتحدة (كما سائر الدول الغربية). وعليه، روجت سياسات الخصخصة والضرائب الموحدة، وما تسمى "إصلاحات" السوق الحر، وتم تحجيم دور الاتحادات العمالية وجماعات الضغط، وأعيد تشكيل القواعد الدستورية والقانونية بما يبرّر للمؤسسات المنتخبة ديمقراطيا "عدم التدخل" في ديناميكيات السوق، بهدف تحقيق استقرار العملة وأسعار الصرف وتنافسية السوق. من هنا، تراجعت أدوار الحكومات الديمقراطية في رعاية المواطنين، وتقديم الخدمات العامة، ودعم رفاهة العيش وتحقيق العدالة في التوزيع والدخول والضرائب، بدعوى أن رفع يد الدولة إنما هو ضرورة لا مفر منها لتحقيق التنافسية وتقليل الدين العام.
لم يكن التطبيق الأخير لتلك السياسات أول نماذج الفشل، لكن الفارق هو "تجريم" الخطاب السياسي البديل، وفرض آليات التقشف وسياساته، على اعتبارها حقيقة بداهية، كقوانين الجاذبية وقواعد الكيمياء، وهذا ما تسبب في فجوةٍ كبرى بين خطاب النخب السياسية التقليدية وغالبية الناخبين، فالحقائق تثبت في فرنسا، مثلا، أن أزمة عام 2007 لم تؤثر تقريبًا على ثروات الأغنياء، بل زادت ثروة أغنى شريحة في المجتمع الفرنسي (10%) بنحو 7% بين 2004 و2010، بينما يعاني نحو خمس السكان، خصوصًا الأسر ذات المعيل الواحد وأصحاب المعاشات، من الفقر والاستدانة بحلول المدى الزمني نفسه (2009 - 2010)، وازدادت نسبة الديون المعطلة لأرباب المنازل، غير القابلة للسداد، بنحو 4.5% عام 2013. وكانت هذه أعلى نسبة لعدم السداد في فرنسا خلال العقد الماضي، وكادت تقارب نسبة العجز في سداد ديون أرباب المنازل في عموم أوروبا (4.7%)، وظل الحال على هذا النحو حتى آخر الإحصاءات عام 2017، هذا بينما انخفضت القوة الشرائية لعموم المواطنين بنحو 1.5%، وازداد عدد المحتجزين بالسجون الفرنسية بنحو 31% خلال الفترة نفسها، فالحقيقة أن انخفاض دعم الأحزاب والنخب السياسية التقليدية، حتى في فرنسا خلال فترة وجيزة، إنما يرجع إلى هيمنة خطاب "اللا- بديل"، وتنزيه سياسات الانسحاب (التقشف) عن النقد، على الرغم من فشلها سابقًا وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية الموجعة.
أين الحل؟
لا يعتري منظومة التقشف عوار في التوزيع وبنية الاقتصاد وافتراضات السلوك الإنساني
الرشيد فقط، بل عمليًا، يعد الإنفاق الحكومي هو الدافع وراء التنمية المستدامة في المدن، وفي الموارد البشرية والخدمات الاجتماعية والبنى التحتية، وهي نواحٍ لا يعتمدها الاستثمار الخاص، ولا يهتم بها أصحاب رؤوس الأموال الأجنبية، كما أن الإنفاق في تلك المناحي هو ما يسمح لأرباب الأسر بالتوفير، ومن ثم الإنفاق وتحريك الركود الاقتصادي، وهو ما ينعكس أيديولوجيا، وعلى صعيد الخطاب السياسي بصد موجات التطرّف اليميني التي أدت قبلا إلى الحرب العالمية الثانية، وتؤدي الآن إلى حربٍ تجارية تشنها الولايات المتحدة على مختلف الدول. ليس الحل في سحب الإنفاق الحكومي وشبكات التأمين الاجتماعي، بل في زيادتها لتوفير مناخٍ من الاستقرار وأمان العمل للملايين من أرباب العمل، وليس حوافز إضافية واقتطاعات ضريبية على ثروات الأغنياء. هذا ما ينبغي أن يستثمره اليسار الديمقراطي، قبل أن تؤدّي موجة "السترات الصفراء" إلى فاشية جديدة في قلب الاتحاد الأوروبي.
سياسات التقشف في أوروبا
ظلت سياسات التقشف الحل الوحيد المعتمد لدى المؤسسات المالية والحكومات الأوروبية، على الرغم من تراجع نتائجها على أصعدةٍ كثيرة، وعلى مدار أزمتين عالميتين: الأولى مطلع القرن
لا تغيب هذه المتتالية عن باحثي الاقتصاد ورواد المدرسة الليبرالية، فمعروفٌ عن جان لوك قبوله بدور الدولة في تصحيح التناقضات وفجوات التوزيع التي ينتجها نظام السوق الحر، لكن هذا لا يتأتى من دون مزيد من الضرائب على الملكية الخاصة، وهو ما يبرز إشكالية دور
كان افتراض الرشادة المطلقة في آليات السوق الحر، والتعامل مع المواطن باعتباره "زبونا" راشدا يقدّر المكاسب والخسائر، بحكمةٍ متناهيةٍ، واحدًا ضمن أهم مسببات الأزمة الأخيرة، فالحقيقة أن النظريات الاقتصادية لم تتحسّب لحالة توسع البنوك في الإقراض، وارتفاع الطلب على الاقتراض من "الزبائن"، على الرغم من المخاطر العالية، ثقةً في النظام البنكي والسوق الحر، وكان الحل الجاهز نظريًا وقت الكارثة هو العودة إلى التقشف الذي لم يقض على فجوة الموازنات العامة لدى بعضٍ من أهم الدول في المنطقة، مثل المملكة المتحدة (-4.1%)، وأكثر المتضررين رومانيا (-3.4%)، سلوفاكيا (-2.1%)، لاتفيا، واليونان، وحتى فرنسا (-0.8%)، على الرغم من مرور عشر سنوات على التطبيق، وإن كان قد قلل من معدلات الدين الحكومي لعموم الدول الأوروبية. وتعاني دول أوروبا الشرقية (الأكثر تضررًا لاتفيا وليتوانيا ورومانيا) من معدلات أعلى للدين الحكومي، على الرغم من التزامها الحاسم بمحدّدات التقشف، لقاء عدم سحب الدول الأوروبية أموالها من البنوك المحلية، بحسب اتفاق فيينا 2009. كما أدت تلك السياسات إلى ارتفاع نسب البطالة في أكثر الدول تضررًا، ولم تؤد، كما كان متوقعًا نظريًا، إلى استقرار مناخ الاستثمار والعمل، بل زاد الاعتماد على التوظيف المؤقت بكل ما يواكبه من إشكالاتٍ في حقوق التأمين والخدمات، وحتى اليونان التي كان يستهدفها برنامج الإصلاح الهيكلي، لم تتعاف من عبء الأزمة الاقتصادية إلا بعد ثماني سنوات، وبكلفةٍ اقتصاديةٍ واجتماعية حادة تودي، بحسب بعض المحللين، بأسس "العقد الاجتماعي social contract" المفترض نظريًا بين المواطنين وحكومات الدولة القومية الحديثة.
الاستبداد النيوليبرالي
تتحمّل الحكومات من خلال السياسات والقرارات الاقتصادية نتائج تطبيق برامج التقشف، كما يبرز من نتائج صناديق الانتخاب، بحسب ما تقرّره منظومة الحكم في الدول المدنية الحديثة،
لم تظهر تلك المؤشرات مباشرة في الساحة السياسية، على الرغم من تجاهل الأدبيات الخاصة برولز وهبرماس دور الهيمنة الاقتصادية والأيديولوجية على المجال السياسي، خصوصًا حال التعامل مع "ثقافة الديمقراطية" كإحدى مسلمات الاجتماع السياسي، من دون النظر إلى عمليات التفكيك والتهميش التي يجريها رأس المال والسوق الحر، وما ينتج عنهما من سوء توزيع الثروة وفجوة الدخول المتزايدة. تم تسويق آليات التقشف وبرامجه في سبعينيات القرن الماضي، على الرغم من كل ما يعتري تلك البرامج من عوار، استغلالاً لغضب الجماهير، آنذاك، من سياسات حزب العمال الذي فشل في إدارة الركود الاقتصادي، عقب ارتفاع أسعار الوقود في المملكة المتحدة (كما سائر الدول الغربية). وعليه، روجت سياسات الخصخصة والضرائب الموحدة، وما تسمى "إصلاحات" السوق الحر، وتم تحجيم دور الاتحادات العمالية وجماعات الضغط، وأعيد تشكيل القواعد الدستورية والقانونية بما يبرّر للمؤسسات المنتخبة ديمقراطيا "عدم التدخل" في ديناميكيات السوق، بهدف تحقيق استقرار العملة وأسعار الصرف وتنافسية السوق. من هنا، تراجعت أدوار الحكومات الديمقراطية في رعاية المواطنين، وتقديم الخدمات العامة، ودعم رفاهة العيش وتحقيق العدالة في التوزيع والدخول والضرائب، بدعوى أن رفع يد الدولة إنما هو ضرورة لا مفر منها لتحقيق التنافسية وتقليل الدين العام.
لم يكن التطبيق الأخير لتلك السياسات أول نماذج الفشل، لكن الفارق هو "تجريم" الخطاب السياسي البديل، وفرض آليات التقشف وسياساته، على اعتبارها حقيقة بداهية، كقوانين الجاذبية وقواعد الكيمياء، وهذا ما تسبب في فجوةٍ كبرى بين خطاب النخب السياسية التقليدية وغالبية الناخبين، فالحقائق تثبت في فرنسا، مثلا، أن أزمة عام 2007 لم تؤثر تقريبًا على ثروات الأغنياء، بل زادت ثروة أغنى شريحة في المجتمع الفرنسي (10%) بنحو 7% بين 2004 و2010، بينما يعاني نحو خمس السكان، خصوصًا الأسر ذات المعيل الواحد وأصحاب المعاشات، من الفقر والاستدانة بحلول المدى الزمني نفسه (2009 - 2010)، وازدادت نسبة الديون المعطلة لأرباب المنازل، غير القابلة للسداد، بنحو 4.5% عام 2013. وكانت هذه أعلى نسبة لعدم السداد في فرنسا خلال العقد الماضي، وكادت تقارب نسبة العجز في سداد ديون أرباب المنازل في عموم أوروبا (4.7%)، وظل الحال على هذا النحو حتى آخر الإحصاءات عام 2017، هذا بينما انخفضت القوة الشرائية لعموم المواطنين بنحو 1.5%، وازداد عدد المحتجزين بالسجون الفرنسية بنحو 31% خلال الفترة نفسها، فالحقيقة أن انخفاض دعم الأحزاب والنخب السياسية التقليدية، حتى في فرنسا خلال فترة وجيزة، إنما يرجع إلى هيمنة خطاب "اللا- بديل"، وتنزيه سياسات الانسحاب (التقشف) عن النقد، على الرغم من فشلها سابقًا وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية الموجعة.
أين الحل؟
لا يعتري منظومة التقشف عوار في التوزيع وبنية الاقتصاد وافتراضات السلوك الإنساني
دلالات
مقالات أخرى
26 يناير 2021
08 اغسطس 2020
29 مايو 2020