وأمام القلق من تكرار المبارزة ما بين مارين لوبان وإيمانويل ماكرون، سنة 2022، وتنتهي بولاية ثانية للرئيس ماكرون، وهو قلق شعبي، أيضاً، يتحول، مع مرور الوقت، إلى نوعٍ من الاستسلام واللامبالاة، تبدو الأحزاب السياسية التقليدية في ورطة، وكأنها مغلوبة على أمرها، على الرغم من أن السياسي عادة لا يستسلم، ويظلّ مكافحاً حتى النهاية.
ويبدو الأمر مقلقاً أكثر في أوساط اليمين التقليدي، وممثله الأكبر حزب "الجمهوريون"، لأسباب عديدة، منها رؤية كثير من أعضائه ونشطائه يغادرونه، سواء عبر الالتحاق بالأغلبية الرئاسية، أو بمعانقة أفكار مارين لوبان اليمينية المتطرفة. وفي ظل هذا النزيف يعيش الحزب حرب زعامات قاتلة، دفعت بشخصيات مهمة إلى مغادرة الحزب، وعلى رأسها رئيسا الحكومة السابقان، جان بيير رافاران وألان جوبيه، رغم أن طموحهما السياسي وصل إلى نهايته، وكْزافيي بيرتران وفاليري بيكريس، وهما رئيسا جهة الشمال وباريس، اللذان لا يُخفيان رغبتهما في الترشح لرئاسيات 2022.
ولم ينجح هذا الحزب، إلا مُؤخَّراً، في انتخاب رئيس له، كريستيان جاكوب، ليس لديه طموحٌ في الرئاسيات، يكون من مهامه العمل على انبثاق مرشح رسمي للحزب يكون قادراً على استعادة السلطة، التي يتصور اليمين أن ماكرون خطفها منه سنة 2017، مستغلاً متاعب مرشحه فرانسوا فيون مع القضاء.
وفي هذا الصدد، لم يَعُد سرّاً أن الرئيس الجديد للحزب يَدفع بالقيادي فرانسوا بارْوان إلى أن يكون المرشح القادم، والذي قد يواجه ماكرون وينتصر عليه. وقد استغل فرانسوا بارْوان، الابن الروحي للرئيس الراحل جاك شيراك، فترة ابتعاده، خلال سنتَيْن، عن صراعات الحزب، في الفترة الأخيرة، وتكريس وقته لرئاسة "جمعية عُمَد فرنسا"، وهي جمعية تحظى بشعبية كبيرة في فرنسا، منتظراً ساعته.
ويبدو أن هذه العودة كانت موفَّقَة، فحسب استطلاع للرأي أجراه معهد "أودوكسا-دينتسو كوسنسولتينغ"، فإن 55 في المائة من الفرنسيين يعتبرونه أكثر كفاءة من الرئيس ماكرون، كما يعتبره 70 في المائة "قريباً من الشعب".
كما أن هذا الاستطلاع للرأي يمنحه صفات أخرى قد يحتاجها في المعركة الانتخابية، وهي "الكاريزما"، وهنا يرى 49 في المائة أنه يتوفر عليها، كما أنه يبعث على "الثقة"، وهو رأي 59 في المائة، وله قدرة على "جمع الفرنسيين"، وهو رأي 60 في المائة.
ومن الطبيعي أن تكون للسياسي نقاطه السلبية، ويورد الاستطلاع ثلاثاً منها، وهي "السلطة"، أو "الهيبة"، التي لا يراها سوى 38 في المائة، ثم "وضعية رجل الدولة"، التي يرى 44 في المائة فقط من الفرنسيين أن فرانْسوا بارْوان يتوفر عليها من أجل حُكم فرنسا، وأخيراً، الدينامية، حيث لم يُسبغ عليه هذه الصفة سوى 48 في المائة.
شيءٌ من الأمَل بدأ يشعُر به ناخبو اليمين الكلاسيكي الفرنسي، وهم يتأملون مدى الخراب الذي أحدثته مارين لوبان، التي تجاوزت ثلاثين في المائة من الشعبية، والتي تستطيع أن تعتمد في الاستحقاقات القادمة على دعم نشطاء ما يسمى "اتحاد أطياف اليمين"، التي تعمل على فرضها في المشهد السياسي حفيدةُ مارين لوبان، ماريون ماريشال لوبان، وإيرك زمور وروبير مينار، عُمدة مدينة بيزيي وآخرون.
وحتى يكشّر فرانسوا بارْوان عن بعض أنيابه، وهي ضرورية، من المرشح اليميني، حتى يواجه مرشَّحين مستعدين لكل شيء، من المبالغات والمغالَطات، وخاصة مارين لوبان، لاستقطاب الناخبين، كشف عن كونه هو من كان السبب في فرض قانون 2004، الذي يَحظُر على الفتيات المسلمات المحجبات وُلوجَ المدرسة، حتى يُظهِرَ لمنافسيه أنه لا يهادن حين يتعلق الأمر بالدفاع عن العلمانية.
ومع اقتراب اليمين، وتحديداً "الجمهوريون"، من اختيار مرشحه، وهو المُفضَّل لدى رئيس الحزب كريستيان جاكوب، تبدو حالة اليسار كنوع من الفوضى، قريبة من الفوضى التي كانت عليه سنة 2017، حين انتهت ولاية الرئيس فرانسوا هولاند، مع كل الحصيلة السلبية التي في حوزته.
وإذا كان اليسار الفرنسي يحتاج إلى الوحدة حتى يصل إلى السلطة، وقد جرَّب الأمر مع فرانسوا ميتران ثم مع فرانسوا هولاند، فهو يكشف، الآن، عن جزر متفرقة.
فالإيكولوجيون، الذين لا يزالون ثملين من النتائج الإيجابية التي حققوها في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، يرون أن لديهم من القوة والشعبية ما يجعلهم يتقدمون منفردين في كل الاستحقاقات الانتخابية، وهو ما عبروا عنه برفض دعوات التحالف في الانتخابات البلدية.
الحزب الاشتراكي، الذي كان قاطرة اليسار، يرى نفسه في وضعية احتضار، وكانت نتائج الحزب في الانتخابات الأوروبية دليلاً على أن الحزب لم يتجاوز بعد الخراب الذي سببته ولاية الرئيس هولاند. كما أن القطيعة التي يبدو أنه قد رسَّخَهَا مع ناخبيه في الأحياء الشعبية والضواحي مستمرة، مع ما تسببه من نزيف للحزب، الذي يضم قيادات من أصول عربية ومهاجرة، ولعل موقف الحزب الاشتراكي "الفريد" في رفض المشاركة في تظاهرة "كفى للإسلاموفوبيا"، لن يحسّن من سمعة الحزب. وتبدو القيادة الحالية عاجزة عن اجتراح شيء لقلب الوضعية. وقد سَخِرَ كثيرون في وسائل التواصل الاجتماعي، من تغريدة للأمين العام للحزب، وهو أوليفيي فُورْ، يَرُد فيها على تغريدة مغلوطة للكاتب الصهيوني الفرنسي، برنار هنري ليفي، يتهم فيها "اشتراكية الأغبياء" بالسير، جنبا إلى جنب، مع "أئمةٍ معادين للجمهورية". فيكتب أوليفيي فور متضرِّعاً: "الاشتراكيون أعلنوا عن عدم مشاركتهم في انحراف معاد للعلمانية وللجمهورية"، وإن "اعتذاراتكم مُرحَّبٌ بها".
أمّا "فرنسا غير الخاضعة"، فلا يبدو أنها مستعدة للتحالف مع أي كان من تيارات اليسار، إلا في إطار ما تطلق عليه "فدرالية شعبية"، وليس عبر "تحالف الأجهزة"، الذي تقول إنه تم تجريبه في السباق وأنتج ظاهرة فرانسوا هولاند. لا تتحدث حركة "فرنسا غير الخاضعة"، كثيراً، في أدبياتها السياسية الحالية، عن اليسار، وإنما عن الشعب، وهو ما يدفع كثيرين لاتهامها بالشعبوية.
وإذا أضفنا إلى هذا متاعب قياديين في الحركة، من بينهم ميلانشون، مع القضاء الفرنسي، وتضخم الأنا عند الزعيم جان لوك ميلانشون، الذي يُعبّر كثيراً عن مواقف مفاجئة، وتصريحات تثير الكثير من الجدل، مؤثرة سلباً، على شعبيته، فإن الوضع يبدو أكثر قتامة.
في ظل هذه الوضعية، لن يفاجأ الفرنسيون من دعوتهم، سنة 2022، للفصل في مبارزة سياسية ثانية بين زعيمة "التجمع الوطني" مارين لوبان، والرئيس الحالي إيمانويل ماكرون.