مع بدء العام الجديد، تستحوذ قضية "التجريد من الجنسية"، المدرجة ضمن مشروع التعديل الدستوري، على النقاش السياسي العام في فرنسا، يساراً ويميناً. وهي تُنذر بالتحوّل إلى قضية حياة أو موت سياسي، بالنسبة للرئيس فرانسوا هولاند، قبل 17 شهراً من نهاية ولايته الرئاسية.
وتكمن المفارقة الكبرى في كون هولاند في حاجة إلى أصوات المعارضة لتمرير التعديل الدستوري، الذي سيعرض على البرلمان مستهل الشهر المقبل. وإذا تم تمرير المشروع بغالبية يمينية، فإن على الاشتراكي هولاند، أن يتحمّل الوزر السياسي لهذه المفارقة الأيديولوجية الصارخة.
وتبدو الصورة لدى اليسار في غاية الإحراج لهولاند، ذلك أن 70 في المائة من النواب الاشتراكيين في مجلسي النواب والشيوخ، هم ضد مشروع قانون "التجريد من الجنسية"، وبالتالي فإن سبعة نواب من أصل عشرة، لن يصوّتوا لصالح التعديل الدستوري.
مع العلم أن أشد المعارضين للتجريد من الجنسية، هم شخصيات اشتراكية من العيار الثقيل، مثل رئيس الوزراء السابق جان مارك إيرولت، وأوريلي فليبيتي، وبنوا هامون، والوزير السابق جاك لانغ، رئيس "معهد العالم العربي" حالياً، والذي اعتبر الأحد الماضي في تصريح لإذاعة "أوروبا واحد"، أن "قانون التجريد من الجنسية، سيُشجّع التمييز ضد حملة الجنسية المزدوجة بشكل عام، ويجعل منهم متهمين إلى أن تثبت براءتهم".
في المقابل، من المنتظر أن تصوّت المعارضة اليمينية والوسطية بكثافة، لصالح التعديل الدستوري، لكونها متحمّسة لتطبيق قانون "تجريد الجنسية" عن المتهمين في قضايا الإرهاب من حملة الجنسية المزدوجة المولودين في فرنسا. وكانت غالبية الشخصيات الوازنة في حزب "الجمهوريين"، وعلى رأسها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، عبّرت عن دعمها لقانون "التجريد من الجنسية"، مذكرة بأنه "كان على الدوام مطلباً يمينياً قبل أن يتبنّاه الاشتراكي هولاند".
اقرأ أيضاً: عرب المهاجر.. سنة اللجوء والعين على الأوطان الأصلية
لكن حتى في أوساط اليمين المحافظ والمعتدل، هناك برلمانيون وشخصيات سياسية، أعلنوا نيّتهم التصويت ضد تعديل الدستور، بعد أن تمّ إدراج بند "التجريد من الجنسية" فيه من طرف الحكومة الاشتراكية، وعلى رأس هؤلاء الوزير اليميني السابق، رئيس لجنة الدفاع عن الحقوق، جاك توبان، الذي اعتبر أخيراً أن "الإصرار الحكومي على قانون التجريد من الجنسية خطأ قاتل، وأن تضمينه في الدستور، له رمزية سلبية لأنه سيجعل من حملة الجنسية المزدوجة مواطنين من الدرجة الثانية".
من جهته، يرى الزعيم اليميني، المرشح المحتمل لرئاسيات 2017، آلان جوبيه، بأن "قانون التجريد من الجنسية قانون غير مجدٍ وعديم الفاعلية، ولن يثني الإرهابيين عن القيام باعتداءاتهم، كما أنه لن يمنع أي انتحاري من تفجير نفسه". ويصف رئيس الوزراء السابق إدراج القانون في مشروع التعديل الدستوري، بمثابة "مناورة سياسية" خطّط لها هولاند، من أجل تلغيم النقاش السياسي وزرع التفرقة الوطنية، على الرغم من أنه أقرّ في الوقت عينه بأنه "لو كان عضواً في البرلمان لصوّت لصالحه، في حال اقتصر التجريد على حملة الجنسية الفرنسية المزدوجة، المولودين خارج التراب الفرنسي".
وبموازاة الانقسام الحادّ في الطبقة السياسية يميناً ويساراً، يُظهر استطلاع للرأي، أنجزته مؤسسة "أوبينيون واي" لصالح صحيفة "لوفيغارو"، ونُشر في 31 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أن "غالبية الفرنسيين يدعمون قانون التجريد من الجنسية بنسبة تسعة من أصل عشرة". كما أظهر استطلاع آخر لمؤسسة "إيلاب" لصالح قناة "بي إف إم تي في"، أن "86 في المائة من الفرنسيين يدعمون هذا القانون".
وهو ما يعكس أيضاً الشرخ المستفحل بين النخبة السياسية والرأي العام الفرنسي، الذي صار أكثر اهتماماً بقضية الأمن وأكثر قرباً من الطروحات اليمينية، بعد الاعتداءات الإرهابية التي ضربت باريس في 7 يناير/كانون الثاني و13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، والتي نفذها فرنسيون من حملة الجنسية المزدوجة.
وللإشارة فإن هولاند كان قد وَعَدَ، في 16 نوفمبر الماضي، بتعميم "التجريد من الجنسية" عن الفرنسيين من أصول أجنبية، الذين وُلدوا في فرنسا، والمتهمين بـ"الضلوع في قضايا الإرهاب"، بعدما كان القانون يحصرها بالحاصلين على الجنسية الفرنسية المولودين خارج فرنسا.
وحصل ذلك خلال خطابه التاريخي، بعد ثلاثة أيام على اعتداءات باريس أمام مجلس النواب بغرفتيه في قصر فرساي. وبعد أسابيع من التردّد، وفي الوقت الذي كانت كل المؤشرات تلمّح إلى تراجعه عن تبنّي هذا القانون، وعدم تضمينه في مشروع التعديل الدستوري، قرّر هولاند تبنّيه في ختام اجتماع لمجلس الوزراء ترأسه في منتصف الشهر الماضي.
وتعود قضية "التجريد من الجنسية" إلى قانون فرنسي، تم إصداره في القرن التاسع عشر، إثر إقرار قانون "إلغاء الرقّ" عام 1848، وكان يهدف إلى معاقبة الفرنسيين الذين يتحدّون هذا القانون. وتم تفعيل هذا القانون خلال الاحتلال النازي في عهد حكومة "فيشي" التي طبقته ما بين سني 1940 و1945 على أكثر من 15 ألف فرنسي من أصول يهودية. كما وقع في تلك الفترة الماريشال فيليب بيتان، على أمر بتجريد الجنرال شارل ديغول من الجنسية الفرنسية، بعد إعلان هذا الأخير انطلاق المقاومة الفرنسية من العاصمة البريطانية لندن، والمشاركة في الحرب ضد الاحتلال النازي بالتعاون مع الحلفاء.
اقرأ أيضاً: 2015 فرنسا... حين لم تعد مثلما كانت قبله