وعلى الرغم من أن فرنسا لا تطمح إلى منافسة الولايات المتحدة في الحلبة الكوبية، فهي تسعى عبر هذه الزيارة إلى تعزيز حضورها في منطقة الكاريبي واستثمار العلاقات التاريخية بين فرنسا وكوبا، لطي صفحة القطيعة السياسية التي طبعت العلاقات بين البلدين منذ أكثر من نصف قرن. علماً بأنه على الرغم من هذه القطيعة احتفظت كوبا بعلاقات ثقافية متينة مع فرنسا، عكَسها سماح الرئيس الكوبي الراحل فيديل كاسترو بشكل استثنائي باستمرار نشاط المركز الثقافي الفرنسي في هافانا بإيعاز من ارنستو تشي غيفارا بعد أن تم إغلاق كل المراكز الثقافية الغربية مباشرة بعد اندلاع الثورة الكوبية.
كما أن فرنسا بدأت باكراً، وقبل الولايات المتحدة الأميركية، في التقرّب من كوبا وكسر عزلتها السياسية. ومنذ عام 1991 دأبت فرنسا على التصويت لصالح رفع الحظر الدولي عن كوبا في الأمم المتحدة. وفي عام 2008 كانت فرنسا سباقة إلى جانب إسبانيا في إطلاق الحوار بين الاتحاد الأوروبي وكوبا من أجل تعديل قرار أوروبي يُلزم دول الاتحاد الأوروبي بعدم إبرام أي اتفاقات تجارية أو اقتصادية قبل إقدام السلطات الكوبية على تغيير سياستها بخصوص حقوق الإنسان والحريات الفردية. ومنذ حلول راوول كاسترو مكان أخيه في رئاسة البلاد، قررت فرنسا المراهنة على تحوّل سياسي في الجزيرة المعزولة، والتخلي عن سياسة الحظر والحصار التي فرضتها الولايات المتحدة على كوبا منذ عام 1962، ولم تفضِ في النهاية إلى أي تغيير ملموس، بل زادت بالعكس من إصرار السلطات الكوبية على التقوقع والتعايش مع واقع العزلة الدولية.
وتُعوّل كوبا كثيراً على الدور الفرنسي الحيوي في إقناع الأوروبيين برفع سياسة الحظر والتوسّط في التفاوض بشأن شراكة اقتصادية بين كوبا والاتحاد الأوروبي، تُخرج الجزيرة من أزمة اقتصادية خانقة تكبّل اقتصادها وتعيق وتيرة نموها. وبحسب دراسة نشرتها السلطات الكوبية، فالبلاد بحاجة إلى مليار دولار ونصف مليار دولار من الاستثمارات الخارجية على الأقل لإطلاق مشاريع اقتصادية وتنموية عاجلة في قطاع الصحة والتعليم والمواصلات، تخفّف العبء عن كاهل الدولة المثخنة بعجز مالي كبير، زاد من استفحاله هبوط حاد في المنتجات الزراعية في السنوات الأخيرة.
اقرأ أيضاً: كوبا ترحب برفعها من قائمة "الإرهاب" وتخشى تدخل واشنطن
ودشنت فرنسا سياسة الانفتاح الفعلي على كوبا، تمهيداً لكسر العزلة الدولية عبر زيارة قام بها وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس إلى هافانا العام الماضي، وكانت مناسبة لإعلان الدعم الفرنسي لمسلسل الاصلاحات السياسية والاقتصادية التي يقوم بها راوول كاسترو منذ تقلّده الحكم.
كذلك أدى السفير الفرنسي في هافانا جون مانديلسون، ورئيس مجلس الشيوخ السابق النائب الاشتراكي جان بيار بال، والذي يشغل حالياً منصب مبعوث فرنسي متطوع في منطقة الكاريبي، دوراً كبيراً في إقناع هولاند بحتمية تغيير السياسة الفرنسية تجاه كوبا وضرورة مرافقة التحوّلات الداخلية بدل الاستمرار في سياسة فرض العزلة على الجزيرة، وهي السياسة التي لا تُضعف النظام الحاكم بقدر ما تزيد في تأزيم الأوضاع الاقتصادية وتفقير شرائح واسعة من الشعب الكوبي.
ووفق مصادر مطلعة في قصر الإليزيه، فلن يتحدث الرئيس الفرنسي كثيراً عن أوضاع حقوق الإنسان والحريات السياسية، بل سيركّز أكثر على التعاون الاقتصادي ورفع الاستثمارات الفرنسية في الجزيرة وتعزيز التبادل التجاري بين البلدين، والذي ما يزال دون مستوى طموحات البلدين. ففي عام 2013 بلغ رقم المبادلات التجارية 278 مليون يورو، وتراجع هذا الرقم إلى 180 مليون يورو في العام الماضي. ويمثل مشروب "الروم" الكحولي والسيغار الكوبي نصف صادرات كوبا إلى فرنسا، في حين تتصدّر الحبوب والمنتجات الزراعية ووسائل النقل الصادرات الفرنسية إلى الجزيرة.
وتنشط نحو 60 شركة فرنسية في كوبا في مجالات الاتصالات والصناعات الغذائية والسياحة والاتصالات. وعلى الرغم من ضعف الاستثمار الفرنسي في كوبا، فإن فرنسا تحتل المرتبة الرابعة في لائحة المستثمرين الأجانب بعد إسبانيا وكندا وإيطاليا. كما أن كوبا هي واحدة من أهم الوجهات السياحية المفضلة لدى الفرنسيين الذين يحتلون خامس مرتبة في قائمة السياح الأجانب المتوافدين على الجزيرة، وبلغ عددهم العام الماضي نحو 100 ألف سائح. وتتطلع فرنسا للاستثمار بقوة في هذا المجال الذي يعدُ بآفاق مربحة في السنوات المقبلة بفضل سياسة الانفتاح التي يقودها كاسترو والتخفيف التدريجي للإجراءات الكوبية الصارمة في منح التأشيرات للسياح الأجانب.
تسريع وتيرة التطبيع الاقتصادي والسياسي مع الجزيرة الكوبية، مردّه أيضاً إلى خشية فرنسية من أن تدفع المصالحة الأميركية بكوبا إلى التحوّل لمتجر أميركي ضخم، وهذا ما بدأت الشركات الأميركية العملاقة في التخطيط له بعد قرار رفع الحظر التاريخي عن الجزيرة الشيوعية المحاصرة.
اقرأ أيضاً: أوباما يرسم "عودة آمنة" لبلاده إلى أميركا اللاتينية