قد لا يدور في خلد من يتجوّل في معرض الفنان العراقي الكردي، هيمت محمد علي، "زهور يابانية في كركوك"، الذي يختتم اليوم في "غاليري نبض" في عمّان، أن ثيمة بهذه الرهافة قد تتأتّى عن فنان عانى، قبيل مباشرته لوحات معرضه، من خسارة عدد كبير من أفراد عائلته الممتدّة في كركوك؛ جرّاء تفجير استهدف مدنيّين هناك.
في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، يقول: "لست انفعالياً. وبرغم ثقل الواقع عليّ وعلى العراق، لم أفكّر يوماً في تخليد المأساة، شخصية كانت أو عامة، فورياً؛ إذ في العادة يتم تجسيد المعاناة لحظياً ومن ثم تذهب طيّ النسيان، وهو ما لا أريده"، مستدركاً: "بيد أن كركوك حاضرة معي حيثما حللت. لربما لم أرسم لوحة في يوم، إلا وكانت هاجسي".
يأتي معرض هيمت الحالي، الذي رُسِمت لوحاته في الفترة الواقعة بين 2012 و2015، امتداداً لآخر ما قدّمه قبل بضعة أعوام، تحت عنوان "زهور من السماء". يقول: "بدأ الأمر بصداقة جمعتني بالشاعر الياباني كوتارو جنازومي، مصادفة، عام 1990. قرّرنا حينها الخروج بمشروع مشترك: أن أحيل قصائده إلى لوحات فنية"، فكانت أعمال "شجرة الكرز" و"كاميليا" و"ويستاريا" و"فاونيا".
يضيف بأن "الامتداد ضرورة؛ ذلك أن السعي وراء الكمال يتطلّب المضيّ في الطريق حتى نهايته". يشير إلى أنه "في الوقت الذي جاء فيه هذا المعرض امتداداً، فإنه انطوى على مفاجآت حتى لي أنا؛ إذ حملتُ الزهور من اليابان إلى كركوك هذه المرة"، متابعاً أن بوسعِ الخيال التغلّب على "حدود المنطق ومستحيلات الجغرافيا والبيئة والسياسة".
تصحب اللوحات، التي جاءت بأحجام وأشكال مختلفة، دائرية ومستطيلة ومربّعة، المتلقي نحو عوالم الزهور، وتحديداً زهر الكرز الوردي، ليطلّ زهر اللوز الأبيض أيضاً، ولتكون الخلفية في الغالب إما سوداء أو تركوازية كصفحة الماء، حتى إن الفنان اختار تبديد أي رمزية حين عرض "داتا شو" لسقوط المطر على بركة مائية تطفو على سطحها الزهور اليابانية.
إلى جانب اللوحات التي حضرت فيها الزهور بشكلها التقليدي، جاءت جداريات بزهور على هيئة نقاط وردية وبنفسجية وفيروزية منثورة فوق أرضية فضية، بيد أنها تشكيلات واضحة الدلالة حين تطلّ عليها للوهلة الأولى، ما لا يجعل ثمة رمزية.
يمكن القول إن هيمت، على خلاف جلّ روّاد الفن الحديث، لا يهجس بالرمزية، بل بالعنصر الجمالي المتمثّل في الزهور والتقنية المؤدّاة باحتراف، سواءً كانت الكولاج أو الديجيتال أو التصوير أو الغرافيك، أو من خلال الأكرليك على ورق ياباني مُعاد تدويره أو على كانفاس.
كلّما جاء ذِكر كركوك أثناء الحديث، ابتسم هيمت المولود فيها عام 1960، هناك أقام أول معارضه سنة 1982، مستحضراً جدلية "الداخل والخارج". يقول: "كثيراً ما تحضرني هذه الثيمة حين أبتعد عن البلاد التي هي، كما أي محبوبة، في البُعد أجمل، بفعل الخيال ونسيان المنغّصات".
يوضّح: "في البُعد أهجس بكركوك، وحين أصلها أعيش درجة حرارتها التي تتجاوز الخمسين في معظم الأوقات، والظروف السياسية العالقة في البلاد، فتتبدّد الشاعرية وتحلّ الواقعية مكانها".
تحضر النزعة الشعرية لدى هيمت، الذي أقام ما يقارب ثلاثين معرضاً في ثلاث قارات، ليس على صعيد اللوحات فحسب، بل والمشاركة في مطبوعات شعرية مع أدونيس ومحمد بنيس وسعدي يوسف وقاسم حداد وأندري هفيلتر وبرنارد نويل وزينو بيانو، من خلال ترجمة قصائدهم إلى لوحات فنية.
ولعلّ من المدهش معرفة أن هيمت كان يطمح إلى دخول عالم الشِعر، حين كان يافعاً، فانغمس في تجربة الشعر الصوفي، حتى اهتدى إلى الرسم الذي وجده الطريق الأكثر قرباً منه حين يتعلّق الأمر بالتعبير عن الذات، سيّما بسبب تأثّره بالفنان شاكر حسن آل سعيد، الذي خلّف رحيله صدمة دفعت هيمت إلى بدء التعبير عن حجم الفقد، من خلال اللوحات.
حظيت تجربة الفنان، الذي يقيم حالياً في باريس، باحتفاء لافت. ألّف برنارد نويل وفاروق يوسف كتاباً حول فنه، تحت عنوان "تمائم العزلة"، كما قدّم أدونيس لمؤلّفه "كتاب الكتب"، إضافة إلى عدد من الأفلام الوثائقية التي تناولت تجربته، كما اقتنيَت لوحاته من قِبل جهات عدة، منها "متحف الفن الحديث" في العراق، و"مؤسّسة خالد شومان" و"المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة" في عمّان، و"معهد العالم العربي" في باريس، والمكتبة الوطنية في فرنسا، و"متحف الشارقة" في الإمارات، ووزارة الثقافة التونسية، إضافة إلى عدد من الغاليريهات الفنية التي جعلت من منحوتاته الضخمة واجهة لها، كـ"دار الأندى" في عمّان و"الرواق" في المنامة.
يقول هيمت إنه لم يذهب إلى تصنيف نفسه يوماً كفنان منتمٍ إلى مدرسة بعينها، مستدركاً بأنه اجترح مصطلح الـ"التجريدية الشرقية": "إذا كان من ضرورة في يوم ما أن أُنسب إلى مدرسة بعينها فستكون هذه، احتكاماً إلى عناصر اللون والشكل والشجن".