30 ديسمبر 2021
وأعوذ بك من شر العواطف الجياشة!
ثمة أصدقاء عمر يسهل اتخاذ قرار بعدم متابعتهم على وسائل "التواصل/ التباغض" الاجتماعي، بل أحياناً يتوجب اتخاذ ذلك القرار حرصاً على الاحتفاظ بصداقتهم في الحياة، لكن صديقي هذا ليس من بينهم، ليس فقط لأنه من بين الأعز والأغلى على القلب، بل لأن محاولة الهروب مما يكتبه شديدة الصعوبة، لأنه لا يكتب خمسة أسطر على بعض إلا ووضعني في قائمة الممتحنين بالـ "منشن" والتنويه، ولأن أغلب ما يكتبه لا يمكن التعبير عنه بأي من علامات الإعجاب والتفضيل، فإنني أكتفي غالباً بضغط زرار الإعجاب على التعليق الذي "يمنشنني" فيه، وأحياناً أتجاهله تماماً، آملاً أن يتذكر حلفاناتي السابقة على العيش والملح والنعمة الشريفة، أنني لم أعد أقضي وقتاً طويلاً على "الأنتي سوشيال ميديا".
أحياناً يتذكر صديقي قول الله تعالى "لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم"، فيقوم بتطنيش تطنيشي لآرائه السياسية، لنكتفي بتبادل الإعجاب بصور الأنجال وأخبارهم، وما خف دمه من الكوميكسات والفيديوهات، لكنه في أغلب الأحيان يقرر مراسلتي على "الإنبوكس" ليقول لي متخابثاً إنه يقدر مشاغلي التي قد تكون منعتني من رؤية هذا البوست أو تلك التغريدة، ثم يرفقها برسالته للعلم والإحاطة منتظراً رأيي "الصريح" فيما كتبه، ومبدياً برحابة صدر استعداده لتعديل رأيه إذا نجحت في إقناعه بخطئه، وهي صيغة تكشف عن يقينه بأنني شاهدت رأيه من قبل ولم يعجبني، لكنه ينتظر مني تسديد ديون الماضي، الذي اقتطعت منه أوقاتاً استشرته فيها في شئون الحياة وشجونها، لا عن يقين برجاحة عقله، بل ثقة في حسن حفظه للسر وقدرته على الإنصات المريح للنفس، وحين حاولت عدة مرات أن أستخدم في الرد عليه عبارات حويطة مثل: "والله وجهة نظر ـ كلام يستحق التفكير ـ رأي يُحترم برغم كل شيء"، كان يترجم ردودي الدبلوماسية بداخله، ليقرأها كما كنت أقصدها بالفعل لا كما أرسلتها: "ما هذا الخراء المبين ـ يلعن أبو اللي مسكك كيبورد ـ ارحم أمي العليلة من آراءك الحمضانة"، فيرسل بعدها إلي بما تيسر من الشتائم المتضاحكة، التي تذكرني بأنه ليس أهبل لأضحك عليه بكلمتين، وأنه لا زال ينتظر مني أن أخوض معه نقاشاً حقيقياً لكي أساعده على تطوير موقفه، فلتطليع دين بعضهم البعض، خلق الله الأصدقاء.
سأقر وأعترف أنني لم أكن لأكتب هذا الكلام الذي يمكن أن يؤثر على صداقتنا التاريخية، إلا بعد أن تأكدت من فشله في حل مشكلة حجب موقع (مدونات العربي الجديد) كغيره من المواقع التي لا يرضى عنها نظام السيسي، برغم أنني حاولت طيلة الأسابيع الماضية إمداده بكل النصائح اللازمة لفك الحجب، لكن هوسه بنظريات المؤامرة دفعه إلى تجاهل نصائحي، لأن تنزيله لتطبيقات فك الحجب على جهازه، ستؤدي حسب وجهة نظره الخرقاء إلى اختراق جهازه أمنياً من قبل أجهزة مخابرات دولية، قرأ في موقع ما أنها تقوم بالنفاذ إلى أجهزة الكمبيوتر والهواتف عبر تطبيقات فك الحواجب والحماية من الفيروسات، ومع أنني أمتلك ردوداً مقنعة على كل ما قاله، إلا أنني لم أكن أناقشه فيما يقول، لأنني في الأصل لست حريصاً على قراءته لمقالاتي، لأن الوقت الذي يضيع عادة في المناقشة معه إن قرأ أياً منها، أطول من الوقت اللازم لكتابة رسالة علمية متوسطة الحجم.
لكن مشكلة الوقت الضائع تظل الأقل تعقيداً في حالة صديقي، لأنني أصبحت أعتقد جازماً من مراقبتي لأدائه العلني، أنه توقف عن القراءة لي ولغيري في الفترة الأخيرة، منذ أن غلبت عليه شهوة قراءة رأيه مطبوعاً، بعد أن "ضَرَب له" بوستان أو ثلاثة تمت مشاركتها بأرقام تجاوزت المئات، فضربت بعدها آخر فيوزات مخه، وأصبح يطلع على حسابه الشخصي، كأنه يطلع على منبر تنتظره أسفله جماهير غفيرة مشرئبة إلى مواقفه السياسية، وهي حالة لم أتأكد من صعوبتها وتعقيدها، إلا حين قال لي قبل أشهر إنه يعتقد أن حسابه تعرض لمؤامرة حكومية، جعلت وصول ما يكتبه إلى متابعيه أقل من اللازم، فلم يعد يحظى منهم بالاهتمام المطلوب والذي يترجمه إلى ما تعود عليه من "لايكات وإيموشنات"، ولأنني لا أتعلم من أخطائي أبداً، حاولت مخلصاً أن أشرح له أن ذلك حدث بسبب التغييرات الأخيرة التي أعلن عنها (فيسبوك) منذ عام وأكثر، بعد ما تلقته إدارته من انتقادات حادة واتهامات عنيفة، بعد دوره المخزي في نشر الأنباء الكاذبة التي كانت عاملاً مساعداً مؤثراً في نتيجة الانتخابات الأميركية، فلم ينُبني من صديقي بعد ذلك التوضيح، إلا المزيد من الجدل العقيم، واتهامي بأنني ساذج وعلى نياتي وأصدق كل ما أقرأه دون تمحيص، مع أن حسابه على (فيسبوك) لو كان رجلاً لبصق عليه، من فرط ما يلقيه فيه من زبالات مفبركة، لمواقع يأنف بير السلم من استضافتها.
للأسف، تزداد حالة صديقي صعوبة، كلما ازدادت أحوال البلاد تردياً وانحطاطاً، سأضرب لك مثلاً على ذلك بما حدث له قبل أشهر، حين واصل عبد الفتاح السيسي مساعيه الحثيثة لإنقاذ مصر من فقرائها، بزيادة سعر تذكرة مترو الأنفاق، فانفجر غضب بعض ركاب المترو الذي واجهته أجهزة الأمن بغشوميتها المعتادة، وما إن ظهرت بعض فيديوهات ذلك الغضب المرير القصير، حتى انطلق صديقي مهنئاً جموع متابعيه باندلاع ثورة الجياع التي ستقضي على النظام، وبحلول نهاية الطاغية الذي أنسته غطرسته الشعار الشعبي: "عض الإخوان وستة إبريل ولا تعض رغيفي"، ليظل صديقي على تلك الحال يومين متتاليين مبالغاً في تضخيم ما ينشره من صور وبوستات، مذكراً بأن ما خفي وحجبته إدارة فيسبوك بالتواطؤ مع النظام كان أعظم وأدهى، ثم حين تلاشت أخبار الاحتجاجات وانتشرت أفكار واقتراحات التحايل على الأمر الواقع، أدار صديقي جواد غضبه الجامح ليوجهه نحو الجماهير الجائعة التي استمرأت الذل والخنوع، والتي صنعت الطاغوت وحق لها أن يذيقها المرار الطافح، وعاد لتكرار الدعاء بحلول نيزك قريب أو حدوث كارثة محققة تعجل بالهلاك الشامل، وهو ما سينساه تماماً لو اندلعت احتجاجات غاضبة قريباً، لتعيد إليه ثقته بالشعب الملهم المعلم الذي قد ينام لكنه لا يموت "وفيه الطلق والعادة برغم القلعة والزنازين".
لم تكن هذه حالة صديقي قبل ثورة يناير، بل كان على العكس تماماً مفرطاً في اليأس والتشاؤم والتأتيت المزعج لكل من ينشغل بالشأن العام كاتباً أو متظاهراً أو معلقاً، حتى أنه كان من أسباب مقالة كتبتها في صحيفة (المصري اليوم) بعنوان (في هجاء الغتاتة)، ختمتها ساخراً: "إذا كان لديك فائض من يأس فابخل به علينا، وإيأس قدام باب بيتكم"، وحين شقلبت الثورة حال البلاد والعباد، بدّلت إحباط صديقي إلى تفاؤل جارف مبالغ فيه، فأصبح بعدها في كل ما جرى من منعطفات ومنحنيات، يأخذ أشد المواقف تطرفاً، ثم حين يثبت له خطأ حماسته الشديدة، يفرط في الاعتراف بعبطه وسذاجته، مع أنه لم يكن عبيطاً ولا ساذجاً، بل كان متفائلاً وحسن النية، ثم يحدث بعدها متغير ما يجعله ينقلب على عقبيه، فيلعن سنسفيل اليوم الذي أخذ فيه مواقفه السابقة، وهكذا دواليك، ولا أظنه في ذلك وحده، لأنك ستجد من بين أصدقائك من يفضل وصف نفسه بالعبط والسذاجة، لكي يبرر انتقاله إلى الموقف المتشدد في الاتجاه المقابل، لأن محاولة تحليل موقفه السابق بالعقل والمنطق، لن تريح نفسه الثائرة وأعصابه الفائرة.
لذلك، ليست حالة صديقي ولا صديقك فردية تخصهما وحدهما، بل هي حالة أشمل برغم اختلاف تفاصيلها الشخصية، ولا يمكن فصلها أيضاً عن الحالة العامة التي تحدثها الثورة في لحظات مدها وصعودها، حين تمنح الثائر تصوراً خادعاً بقدرته على الإمساك بزمام الأمور من حوله، دون أن يكون جزءاً من تحرك سياسي منظم وجماعي، خاصة حين يرى كيف يمكن لهتاف أن يحول مسار مظاهرة، أو كيف يمكن لحملة تعليقات غاضبة أن تنتقل بالفكرة وصاحبها من مقام الحوار إلى محط "التحفيل"، وحين تأتي لحظات الجزر الحتمية في مسار أي تحرك بشري أياً كانت تسميتنا له، يصبح من الصعب الانتقال من هذه الحالة العاطفية الانفعالية، إلى حالة أكثر تعقلاً وهدوءاً، بل على العكس لا يحظى باهتمام الكثيرين في هذه الفترة، إلا من يغالي في المزايدة والسخط، لأنه يوفر لمتابعيه فرصة العيش في حالة ثورية ما، حتى وإن كانت ضئيلة إلى حد مضحك في بعض الأحيان، لكنها تظل كافية لإشباع حاجة البعض إلى الانفصال عن الواقع المحيط بهم، الذي كانوا يوماً ما أقوى عناصره الفعالة، وحين لم يعودوا كذلك، بل وأصبحوا ملفوظين خارجه، أصبح عليهم من السهل رفضه بدلاً من محاولة فهمه، وأصبح من المريح الكفر بكل عناصره، بدلاً من التفكير بشكل واقعي في تغيير الحالة الثورية التي يصعب تكرارها، للبحث عن أشكال ما للتنظيم والعمل والتواصل مع الآخرين.
صحيح أن مواقع التواصل الاجتماعي ساعدت صديقي وملايين مثله على أن يعبروا عن أنفسهم بوضوح وقوة، وأن يشعروا بفاعليتهم السياسية، لكنهم لم ينتبهوا إلى أن تلك المواقع ليست سوى منصات، مهما كانت مؤثرة وقادرة على التوصيل، وأنها يمكن أن تكون مؤثرة فقط في حالة وجود فعل منظم ينبني عليها، فتساعده على التنظيم والحشد والإعلام، مع اختلاف كل حالة عن الأخرى، وأن تلك الآراء في حد ذاتها لو لم تكن قادرة على أن تكون متطورة ومتفاعلة مع الواقع شديد السيولة والتغير والتركيب، فإنها ستتحول إلى حالات مضحكة مثل منصات ميدان التحرير التي بدأت مؤثرة وملهمة، وتحولت في وقت قياسي بفعل جمود الراكبين عليها والكاتمين على أنفاسها، إلى أضحوكة يسخر منها الثوار قبل خصومهم، قبل أن تنتج في المستقبل نتائج ليس فيها ما يضحك، بل فيها ما يدمي القلب، وتكون "حالة ركوب المنصة" سبباً في استدراج الكثيرين إلى معارك مأساوية يخسر فيها الجميع، حتى وإن توهموا الانتصار، ليصبح صديقي برغم مأساوية حالته، أخف الخاسرين ظلاً، فضلاً عن أنه لا يلحق الضرر إلا بنفسه وأسرته وبأصدقائه الذين سينفد يوماً صبرهم عليه، تماماً كما نفد صبر الملايين من قبل، على بعض الصاعدين على منصات ثورية لم يكونوا أبداً أهلاً لها، فلم يضر ذلك بهم فقط، بل وأضر بالأفكار النبيلة التي كانوا عوناً عليها، وبالأحلام الرائعة التي قد تشعلها العواطف الجياشة وتزيدها توهجاً، وقد تكون سبباً في تبويخها وإحراقها، إن خاصمت عقلك ونبذته أو حوّلته إلى متفرج عاجز، تتلاعب به العواطف الجياشة، كفانا الله وإياكم شرها.
أحياناً يتذكر صديقي قول الله تعالى "لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم"، فيقوم بتطنيش تطنيشي لآرائه السياسية، لنكتفي بتبادل الإعجاب بصور الأنجال وأخبارهم، وما خف دمه من الكوميكسات والفيديوهات، لكنه في أغلب الأحيان يقرر مراسلتي على "الإنبوكس" ليقول لي متخابثاً إنه يقدر مشاغلي التي قد تكون منعتني من رؤية هذا البوست أو تلك التغريدة، ثم يرفقها برسالته للعلم والإحاطة منتظراً رأيي "الصريح" فيما كتبه، ومبدياً برحابة صدر استعداده لتعديل رأيه إذا نجحت في إقناعه بخطئه، وهي صيغة تكشف عن يقينه بأنني شاهدت رأيه من قبل ولم يعجبني، لكنه ينتظر مني تسديد ديون الماضي، الذي اقتطعت منه أوقاتاً استشرته فيها في شئون الحياة وشجونها، لا عن يقين برجاحة عقله، بل ثقة في حسن حفظه للسر وقدرته على الإنصات المريح للنفس، وحين حاولت عدة مرات أن أستخدم في الرد عليه عبارات حويطة مثل: "والله وجهة نظر ـ كلام يستحق التفكير ـ رأي يُحترم برغم كل شيء"، كان يترجم ردودي الدبلوماسية بداخله، ليقرأها كما كنت أقصدها بالفعل لا كما أرسلتها: "ما هذا الخراء المبين ـ يلعن أبو اللي مسكك كيبورد ـ ارحم أمي العليلة من آراءك الحمضانة"، فيرسل بعدها إلي بما تيسر من الشتائم المتضاحكة، التي تذكرني بأنه ليس أهبل لأضحك عليه بكلمتين، وأنه لا زال ينتظر مني أن أخوض معه نقاشاً حقيقياً لكي أساعده على تطوير موقفه، فلتطليع دين بعضهم البعض، خلق الله الأصدقاء.
سأقر وأعترف أنني لم أكن لأكتب هذا الكلام الذي يمكن أن يؤثر على صداقتنا التاريخية، إلا بعد أن تأكدت من فشله في حل مشكلة حجب موقع (مدونات العربي الجديد) كغيره من المواقع التي لا يرضى عنها نظام السيسي، برغم أنني حاولت طيلة الأسابيع الماضية إمداده بكل النصائح اللازمة لفك الحجب، لكن هوسه بنظريات المؤامرة دفعه إلى تجاهل نصائحي، لأن تنزيله لتطبيقات فك الحجب على جهازه، ستؤدي حسب وجهة نظره الخرقاء إلى اختراق جهازه أمنياً من قبل أجهزة مخابرات دولية، قرأ في موقع ما أنها تقوم بالنفاذ إلى أجهزة الكمبيوتر والهواتف عبر تطبيقات فك الحواجب والحماية من الفيروسات، ومع أنني أمتلك ردوداً مقنعة على كل ما قاله، إلا أنني لم أكن أناقشه فيما يقول، لأنني في الأصل لست حريصاً على قراءته لمقالاتي، لأن الوقت الذي يضيع عادة في المناقشة معه إن قرأ أياً منها، أطول من الوقت اللازم لكتابة رسالة علمية متوسطة الحجم.
لكن مشكلة الوقت الضائع تظل الأقل تعقيداً في حالة صديقي، لأنني أصبحت أعتقد جازماً من مراقبتي لأدائه العلني، أنه توقف عن القراءة لي ولغيري في الفترة الأخيرة، منذ أن غلبت عليه شهوة قراءة رأيه مطبوعاً، بعد أن "ضَرَب له" بوستان أو ثلاثة تمت مشاركتها بأرقام تجاوزت المئات، فضربت بعدها آخر فيوزات مخه، وأصبح يطلع على حسابه الشخصي، كأنه يطلع على منبر تنتظره أسفله جماهير غفيرة مشرئبة إلى مواقفه السياسية، وهي حالة لم أتأكد من صعوبتها وتعقيدها، إلا حين قال لي قبل أشهر إنه يعتقد أن حسابه تعرض لمؤامرة حكومية، جعلت وصول ما يكتبه إلى متابعيه أقل من اللازم، فلم يعد يحظى منهم بالاهتمام المطلوب والذي يترجمه إلى ما تعود عليه من "لايكات وإيموشنات"، ولأنني لا أتعلم من أخطائي أبداً، حاولت مخلصاً أن أشرح له أن ذلك حدث بسبب التغييرات الأخيرة التي أعلن عنها (فيسبوك) منذ عام وأكثر، بعد ما تلقته إدارته من انتقادات حادة واتهامات عنيفة، بعد دوره المخزي في نشر الأنباء الكاذبة التي كانت عاملاً مساعداً مؤثراً في نتيجة الانتخابات الأميركية، فلم ينُبني من صديقي بعد ذلك التوضيح، إلا المزيد من الجدل العقيم، واتهامي بأنني ساذج وعلى نياتي وأصدق كل ما أقرأه دون تمحيص، مع أن حسابه على (فيسبوك) لو كان رجلاً لبصق عليه، من فرط ما يلقيه فيه من زبالات مفبركة، لمواقع يأنف بير السلم من استضافتها.
للأسف، تزداد حالة صديقي صعوبة، كلما ازدادت أحوال البلاد تردياً وانحطاطاً، سأضرب لك مثلاً على ذلك بما حدث له قبل أشهر، حين واصل عبد الفتاح السيسي مساعيه الحثيثة لإنقاذ مصر من فقرائها، بزيادة سعر تذكرة مترو الأنفاق، فانفجر غضب بعض ركاب المترو الذي واجهته أجهزة الأمن بغشوميتها المعتادة، وما إن ظهرت بعض فيديوهات ذلك الغضب المرير القصير، حتى انطلق صديقي مهنئاً جموع متابعيه باندلاع ثورة الجياع التي ستقضي على النظام، وبحلول نهاية الطاغية الذي أنسته غطرسته الشعار الشعبي: "عض الإخوان وستة إبريل ولا تعض رغيفي"، ليظل صديقي على تلك الحال يومين متتاليين مبالغاً في تضخيم ما ينشره من صور وبوستات، مذكراً بأن ما خفي وحجبته إدارة فيسبوك بالتواطؤ مع النظام كان أعظم وأدهى، ثم حين تلاشت أخبار الاحتجاجات وانتشرت أفكار واقتراحات التحايل على الأمر الواقع، أدار صديقي جواد غضبه الجامح ليوجهه نحو الجماهير الجائعة التي استمرأت الذل والخنوع، والتي صنعت الطاغوت وحق لها أن يذيقها المرار الطافح، وعاد لتكرار الدعاء بحلول نيزك قريب أو حدوث كارثة محققة تعجل بالهلاك الشامل، وهو ما سينساه تماماً لو اندلعت احتجاجات غاضبة قريباً، لتعيد إليه ثقته بالشعب الملهم المعلم الذي قد ينام لكنه لا يموت "وفيه الطلق والعادة برغم القلعة والزنازين".
لم تكن هذه حالة صديقي قبل ثورة يناير، بل كان على العكس تماماً مفرطاً في اليأس والتشاؤم والتأتيت المزعج لكل من ينشغل بالشأن العام كاتباً أو متظاهراً أو معلقاً، حتى أنه كان من أسباب مقالة كتبتها في صحيفة (المصري اليوم) بعنوان (في هجاء الغتاتة)، ختمتها ساخراً: "إذا كان لديك فائض من يأس فابخل به علينا، وإيأس قدام باب بيتكم"، وحين شقلبت الثورة حال البلاد والعباد، بدّلت إحباط صديقي إلى تفاؤل جارف مبالغ فيه، فأصبح بعدها في كل ما جرى من منعطفات ومنحنيات، يأخذ أشد المواقف تطرفاً، ثم حين يثبت له خطأ حماسته الشديدة، يفرط في الاعتراف بعبطه وسذاجته، مع أنه لم يكن عبيطاً ولا ساذجاً، بل كان متفائلاً وحسن النية، ثم يحدث بعدها متغير ما يجعله ينقلب على عقبيه، فيلعن سنسفيل اليوم الذي أخذ فيه مواقفه السابقة، وهكذا دواليك، ولا أظنه في ذلك وحده، لأنك ستجد من بين أصدقائك من يفضل وصف نفسه بالعبط والسذاجة، لكي يبرر انتقاله إلى الموقف المتشدد في الاتجاه المقابل، لأن محاولة تحليل موقفه السابق بالعقل والمنطق، لن تريح نفسه الثائرة وأعصابه الفائرة.
لذلك، ليست حالة صديقي ولا صديقك فردية تخصهما وحدهما، بل هي حالة أشمل برغم اختلاف تفاصيلها الشخصية، ولا يمكن فصلها أيضاً عن الحالة العامة التي تحدثها الثورة في لحظات مدها وصعودها، حين تمنح الثائر تصوراً خادعاً بقدرته على الإمساك بزمام الأمور من حوله، دون أن يكون جزءاً من تحرك سياسي منظم وجماعي، خاصة حين يرى كيف يمكن لهتاف أن يحول مسار مظاهرة، أو كيف يمكن لحملة تعليقات غاضبة أن تنتقل بالفكرة وصاحبها من مقام الحوار إلى محط "التحفيل"، وحين تأتي لحظات الجزر الحتمية في مسار أي تحرك بشري أياً كانت تسميتنا له، يصبح من الصعب الانتقال من هذه الحالة العاطفية الانفعالية، إلى حالة أكثر تعقلاً وهدوءاً، بل على العكس لا يحظى باهتمام الكثيرين في هذه الفترة، إلا من يغالي في المزايدة والسخط، لأنه يوفر لمتابعيه فرصة العيش في حالة ثورية ما، حتى وإن كانت ضئيلة إلى حد مضحك في بعض الأحيان، لكنها تظل كافية لإشباع حاجة البعض إلى الانفصال عن الواقع المحيط بهم، الذي كانوا يوماً ما أقوى عناصره الفعالة، وحين لم يعودوا كذلك، بل وأصبحوا ملفوظين خارجه، أصبح عليهم من السهل رفضه بدلاً من محاولة فهمه، وأصبح من المريح الكفر بكل عناصره، بدلاً من التفكير بشكل واقعي في تغيير الحالة الثورية التي يصعب تكرارها، للبحث عن أشكال ما للتنظيم والعمل والتواصل مع الآخرين.
صحيح أن مواقع التواصل الاجتماعي ساعدت صديقي وملايين مثله على أن يعبروا عن أنفسهم بوضوح وقوة، وأن يشعروا بفاعليتهم السياسية، لكنهم لم ينتبهوا إلى أن تلك المواقع ليست سوى منصات، مهما كانت مؤثرة وقادرة على التوصيل، وأنها يمكن أن تكون مؤثرة فقط في حالة وجود فعل منظم ينبني عليها، فتساعده على التنظيم والحشد والإعلام، مع اختلاف كل حالة عن الأخرى، وأن تلك الآراء في حد ذاتها لو لم تكن قادرة على أن تكون متطورة ومتفاعلة مع الواقع شديد السيولة والتغير والتركيب، فإنها ستتحول إلى حالات مضحكة مثل منصات ميدان التحرير التي بدأت مؤثرة وملهمة، وتحولت في وقت قياسي بفعل جمود الراكبين عليها والكاتمين على أنفاسها، إلى أضحوكة يسخر منها الثوار قبل خصومهم، قبل أن تنتج في المستقبل نتائج ليس فيها ما يضحك، بل فيها ما يدمي القلب، وتكون "حالة ركوب المنصة" سبباً في استدراج الكثيرين إلى معارك مأساوية يخسر فيها الجميع، حتى وإن توهموا الانتصار، ليصبح صديقي برغم مأساوية حالته، أخف الخاسرين ظلاً، فضلاً عن أنه لا يلحق الضرر إلا بنفسه وأسرته وبأصدقائه الذين سينفد يوماً صبرهم عليه، تماماً كما نفد صبر الملايين من قبل، على بعض الصاعدين على منصات ثورية لم يكونوا أبداً أهلاً لها، فلم يضر ذلك بهم فقط، بل وأضر بالأفكار النبيلة التي كانوا عوناً عليها، وبالأحلام الرائعة التي قد تشعلها العواطف الجياشة وتزيدها توهجاً، وقد تكون سبباً في تبويخها وإحراقها، إن خاصمت عقلك ونبذته أو حوّلته إلى متفرج عاجز، تتلاعب به العواطف الجياشة، كفانا الله وإياكم شرها.