09 نوفمبر 2024
وإذا الثورة سئلت.. بأي ذنب قُتلت؟
كان قد طال أمد مفكرينا وكتابنا ومثقفينا بتغنّيهم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية واستقلال الإرادة والعيش الكريم وتداول السلطة ودولة المواطنة والحريات، وإلى ما هنالك من مفاهيم، طيّرت لها شعارات في فضاءات الأحلام وسماء المستقبل المختبئ في قادم الأيام والسنين. حتى تحقق الحلم الأوّل، وصار الخيال يتجسد ويدنو من الواقع، عندما تحركت شعوبنا الساكنة في ما يشبه السبات عقوداً، كان التاريخ خلالها يمشي هناك، بعيداً عن مخادعها، تاركاً إياها في غفلتها برعاية أنظمة تطبق الإحكام عليها بقبضة من حديد، وتمنحها هذا الاستقرار القائم على البلادة.
هبت الجماهير هبة واحدة تنفض عنها "غبار الزمن"، صادحة بصوت هادر "الشعب يريد". لكن، بعد أربع سنوات، تبين أن ليس "كل ما يتمنى الشعب يدركه".
لم تكن المطالب، في البداية، أكثر من التسريع في الإصلاحات والقضاء على الفساد والمفسدين، ومحاكمة من اعتدوا على الشعب، ورد الحقوق المسلوبة إلى أصحابها والاعتراف بأن المرجعية تعود إليه. لكن النظام القمعي لا يعرف غير حقه المطلق في السيادة الشاملة، حق مدعوم بسند إلهي، تكفله له جوقة من رجال الدين الذين يصرخون حدّ البكاء في خطب الجمعة والأعياد، من فوق منابرهم القدسية بأن أطيعوا السلطان. تحلّوا بأخلاق الطاعة، فالسلطان مطلق "لا شريك له"، وما دونه مراتب بحسب القرب والبعد من السلطة.
لكن الشعب، في لحظةٍ ما، صحا وأدرك ذاته، وانتفض لكينونته المنتهكة، واندفع بصدره العاري، ليسترد حقوقه، برجاله ونسائه، في طريق محفوفة بالموت والرصاص. الشعب أراد أن يصنع تاريخه، بعدما هاله أنه خارج التاريخ. لم يكن يثور من أجل الخبز والكرامة فقط، كانت هناك أشياء أخرى، يشعر بأنها تنقصه ويحتاج إلى من يقوده إليها.. فماذا فعلتم أيها النخبة؟
ها هي سورية بعد خمسة أعوام تغرق في الدم، تفوح منها رائحة البارود، تنزلق نحو الانهيار بسرعة مجنونة. لماذا تركتم الشارع بلا غطاء يحنو عليه، أيها النخب السياسية؟ لماذا هرعتم وتبوأتم مراكز القيادة، وأخذتم تعدون هذا الشعب المسكين بوعود رومانسية، وأنتم غارقون بأحلامكم الخاصة؟ لماذا وقفتم تبتسمون لهذا المد الزاحف ليمسك القرار، ويمسك الشارع الثائر متدرعاً بالدين والمقدس، ومددتم إليه أيديكم تصافحونه؟ هل إسقاط النظام غاية تبرر الوسيلة، حتى لو كان إسقاط الوطن؟ سورية تتقسم، تفرغ من شبابها، يُنتهك ماضيها وحاضرها، يُغتصب تراثها، تتدمّر قيمها، يتشرذم نسيجها السكاني، تنحدر منظومات قيمها الأخلاقية والمعرفية، سورية تتشوّه بإمعان حاقد. سورية لم يرحمها أحد، العالم كله لم يرحمها، الجميع يتحاربون من أجل الفوز بها، والسطو على مقادير شعبها وتبوّء عروش السيادة. لم يدفع الشعب كل هذا الدم لأجل فراعنة جدد، تقتصر العلاقة بينهم وبين الشعب على الطاعة المسنودة بسلطان الغيب.
آن لكم، أيها النخب الثقافية، أن تسترجعوا تاريخكم وتراجعوا تجاربكم. ليست الحرية السياسية الضامن لبقاء الشعوب وتقدمها، هناك حريات أخرى أهم من أجل البناء السليم، وصون الحرية السياسية. أما آن لكم أن تسألوا أنفسكم: لماذا خبنا في تحديث مجتمعاتنا؟ لماذا فشلنا في إقامة القطيعة مع الماضي، ولم نستطع التأسيس لقيم التعدد والاختلاف؟ ماذا حققت الإيديولوجيات التي أسرت الأجيال عقوداً خلت، والتي امتصت طاقات الشباب بوعودها البراقة حول التحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية؟ ماذا حققت غير التضليل؟
أما آن لكم أن تقرّوا بأن هذا الفشل أورث جيل الشباب الحالي المهمة الأصعب؟ ربما كنتم، من حيث لا تدرون، تؤسسون فكراً وثقافة منفصلين عن الواقع، مستكينين لخدر لذيذ، مواربين المقدس والنصوص وسلطتها. على الرغم من كل الشعارات البراقة التي رفعتموها، وعلى الرغم من ادّعاء الحداثة، ها هو يمثل أمام أعينكم الواقع بكل مرارته، يُظهر فداحة ما ارتكب من تقصير وقصور في التأسيس لوعي كان ألزم ما يكون لهذه المرحلة التي انقضّت فيها على الشعب أصوليات جبارة.
أمام هذا الشعب الكريم، المجروح المعتدى عليه، درب آلام لا تنفتح أمامه إلاّ بالدم. الدم المطلوب من أنظمته الحاكمة، ومن شياطين الأرض الأخرى، المندفعة نحوه بوحشية تفوق القدرة على التصور.
أربع سنوات كانت من أقسى سنوات العمر، أربع سنوات كانت حبلى بالموت، ونحن لا زلنا غارقين بعصبياتنا وراضين بعلمنا، وغير متحفزين لتطوير مداركنا وقدراتنا، ولسنا مستعدين لنقد تجاربنا.
رأفة بهذا الشعب، ورأفة بهذه الطاقات المحتجزة والمرتهنة للموت، عوضاً عن أن ترصد للإبداع، ركزوا همّكم واهتمامكم على الواقع والمجتمع، تحرروا قليلاً من الانشغال بالسلطات، لا تتركوا الباقي من الشعب والمجتمع، اللذين أوشكا على أن يكونا شعوباً ومجتمعات، يتخبطون بمشكلاتهم وتحولاتهم.
اشتغلوا في الواقع وعلى الواقع. طهّروا النصوص والأدبيات من براثن العنف والقتل والنزعات التدميرية والإقصائية والاحتكارية. على الشاشات، وعلى الشبكة، ذبح، تقطيع أجساد، بقر بطون، حرق، جلد، رجم، سادية تفوق الخيال تُرسل بمشهدية مدروسة لتطويع البشر، رسائل تسبق أولئك المارقين باسم الدين والمقدس. ومشاهد عنف أخرى نرى نتائجها الكارثية ومشاهدها الأخيرة، بعد إنجازها تحكي الحكاية وحدها.
آن أن تفيقوا من غفلتكم، ومن غيّكم إذا كنتم من المضلل بهم أو المسلوبين. أفسحوا المجال لطاقات أخرى، ولضمائر أخرى، أخذتم حصتكم ودوركم وكفى. كفانا هذا المصير. نريد أن نحدث ثورتنا نحن، أن ننعتق من كل موروثنا القاتل، أن نمارس مفهومنا للتجارب وصنع التاريخ. أنتم قتلتم ثورتنا من حيث لا تدرون.
هبت الجماهير هبة واحدة تنفض عنها "غبار الزمن"، صادحة بصوت هادر "الشعب يريد". لكن، بعد أربع سنوات، تبين أن ليس "كل ما يتمنى الشعب يدركه".
لم تكن المطالب، في البداية، أكثر من التسريع في الإصلاحات والقضاء على الفساد والمفسدين، ومحاكمة من اعتدوا على الشعب، ورد الحقوق المسلوبة إلى أصحابها والاعتراف بأن المرجعية تعود إليه. لكن النظام القمعي لا يعرف غير حقه المطلق في السيادة الشاملة، حق مدعوم بسند إلهي، تكفله له جوقة من رجال الدين الذين يصرخون حدّ البكاء في خطب الجمعة والأعياد، من فوق منابرهم القدسية بأن أطيعوا السلطان. تحلّوا بأخلاق الطاعة، فالسلطان مطلق "لا شريك له"، وما دونه مراتب بحسب القرب والبعد من السلطة.
لكن الشعب، في لحظةٍ ما، صحا وأدرك ذاته، وانتفض لكينونته المنتهكة، واندفع بصدره العاري، ليسترد حقوقه، برجاله ونسائه، في طريق محفوفة بالموت والرصاص. الشعب أراد أن يصنع تاريخه، بعدما هاله أنه خارج التاريخ. لم يكن يثور من أجل الخبز والكرامة فقط، كانت هناك أشياء أخرى، يشعر بأنها تنقصه ويحتاج إلى من يقوده إليها.. فماذا فعلتم أيها النخبة؟
ها هي سورية بعد خمسة أعوام تغرق في الدم، تفوح منها رائحة البارود، تنزلق نحو الانهيار بسرعة مجنونة. لماذا تركتم الشارع بلا غطاء يحنو عليه، أيها النخب السياسية؟ لماذا هرعتم وتبوأتم مراكز القيادة، وأخذتم تعدون هذا الشعب المسكين بوعود رومانسية، وأنتم غارقون بأحلامكم الخاصة؟ لماذا وقفتم تبتسمون لهذا المد الزاحف ليمسك القرار، ويمسك الشارع الثائر متدرعاً بالدين والمقدس، ومددتم إليه أيديكم تصافحونه؟ هل إسقاط النظام غاية تبرر الوسيلة، حتى لو كان إسقاط الوطن؟ سورية تتقسم، تفرغ من شبابها، يُنتهك ماضيها وحاضرها، يُغتصب تراثها، تتدمّر قيمها، يتشرذم نسيجها السكاني، تنحدر منظومات قيمها الأخلاقية والمعرفية، سورية تتشوّه بإمعان حاقد. سورية لم يرحمها أحد، العالم كله لم يرحمها، الجميع يتحاربون من أجل الفوز بها، والسطو على مقادير شعبها وتبوّء عروش السيادة. لم يدفع الشعب كل هذا الدم لأجل فراعنة جدد، تقتصر العلاقة بينهم وبين الشعب على الطاعة المسنودة بسلطان الغيب.
آن لكم، أيها النخب الثقافية، أن تسترجعوا تاريخكم وتراجعوا تجاربكم. ليست الحرية السياسية الضامن لبقاء الشعوب وتقدمها، هناك حريات أخرى أهم من أجل البناء السليم، وصون الحرية السياسية. أما آن لكم أن تسألوا أنفسكم: لماذا خبنا في تحديث مجتمعاتنا؟ لماذا فشلنا في إقامة القطيعة مع الماضي، ولم نستطع التأسيس لقيم التعدد والاختلاف؟ ماذا حققت الإيديولوجيات التي أسرت الأجيال عقوداً خلت، والتي امتصت طاقات الشباب بوعودها البراقة حول التحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية؟ ماذا حققت غير التضليل؟
أما آن لكم أن تقرّوا بأن هذا الفشل أورث جيل الشباب الحالي المهمة الأصعب؟ ربما كنتم، من حيث لا تدرون، تؤسسون فكراً وثقافة منفصلين عن الواقع، مستكينين لخدر لذيذ، مواربين المقدس والنصوص وسلطتها. على الرغم من كل الشعارات البراقة التي رفعتموها، وعلى الرغم من ادّعاء الحداثة، ها هو يمثل أمام أعينكم الواقع بكل مرارته، يُظهر فداحة ما ارتكب من تقصير وقصور في التأسيس لوعي كان ألزم ما يكون لهذه المرحلة التي انقضّت فيها على الشعب أصوليات جبارة.
أمام هذا الشعب الكريم، المجروح المعتدى عليه، درب آلام لا تنفتح أمامه إلاّ بالدم. الدم المطلوب من أنظمته الحاكمة، ومن شياطين الأرض الأخرى، المندفعة نحوه بوحشية تفوق القدرة على التصور.
أربع سنوات كانت من أقسى سنوات العمر، أربع سنوات كانت حبلى بالموت، ونحن لا زلنا غارقين بعصبياتنا وراضين بعلمنا، وغير متحفزين لتطوير مداركنا وقدراتنا، ولسنا مستعدين لنقد تجاربنا.
رأفة بهذا الشعب، ورأفة بهذه الطاقات المحتجزة والمرتهنة للموت، عوضاً عن أن ترصد للإبداع، ركزوا همّكم واهتمامكم على الواقع والمجتمع، تحرروا قليلاً من الانشغال بالسلطات، لا تتركوا الباقي من الشعب والمجتمع، اللذين أوشكا على أن يكونا شعوباً ومجتمعات، يتخبطون بمشكلاتهم وتحولاتهم.
اشتغلوا في الواقع وعلى الواقع. طهّروا النصوص والأدبيات من براثن العنف والقتل والنزعات التدميرية والإقصائية والاحتكارية. على الشاشات، وعلى الشبكة، ذبح، تقطيع أجساد، بقر بطون، حرق، جلد، رجم، سادية تفوق الخيال تُرسل بمشهدية مدروسة لتطويع البشر، رسائل تسبق أولئك المارقين باسم الدين والمقدس. ومشاهد عنف أخرى نرى نتائجها الكارثية ومشاهدها الأخيرة، بعد إنجازها تحكي الحكاية وحدها.
آن أن تفيقوا من غفلتكم، ومن غيّكم إذا كنتم من المضلل بهم أو المسلوبين. أفسحوا المجال لطاقات أخرى، ولضمائر أخرى، أخذتم حصتكم ودوركم وكفى. كفانا هذا المصير. نريد أن نحدث ثورتنا نحن، أن ننعتق من كل موروثنا القاتل، أن نمارس مفهومنا للتجارب وصنع التاريخ. أنتم قتلتم ثورتنا من حيث لا تدرون.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024