ما علاقة الثقافة بعيد العمال؟ وما الذي يجمع المثقف بالعامل؟
ذاك "يطيّن" الغرفة؛ وهذا يستعرض فيها "جائزة البوكر". ذاك ينظف السلالم؛ وهذا يغوي في عتمتها حسناء أجنبية ترجمت له محاضرته. ذاك يهرع متأخراً في الخامسة صباحاً ليحمّل الطوب، ويوصله إلى موقع البناء؛ وهذا يتبعه بكاميرته الوثائقية، ويطلب منه أن يعيد مشهد اصطدام الرأس بحافة رفّ الحمام، لأنّ العدسة كانت متسخة.
لنحاول شيئاً ما هنا.
كان يمكن لـ"رنا بلازا" أن يكون اسماً جذاباً لأحد منتجعات الريفييرا الإيطالية. لكنّه بدلاً عن ذلك سيقترن بعنوان مقبرة آسيوية مرتجلة، كونه مجمّع معامل النسيج الذي انهار في بنغلادش (2013)، مودياً بحياة أكثر من 1127 عاملة وعامل (من أصل 3000 آلاف).
وذلك في سبيل ألا يتجاوز سعر الكلفة لقميص "بنتون" (علامة تجارية إيطالية) يورو واحداً. ما سيمكّن الشركة من جني أرباح، أكثر من معقولة بقليل، عبر بيعه لاحقاً بـ20 أو 30 يورو لمن لم يدفن حياً تحت أطنان الإسمنت المغشوش ذلك النهار.
في الغالب، لن يهتم أي مثقف سوري مستعجل لـ"ماركة" قميص الـ"بنتون" هذا، والذي سيشتريه سريعاً من السوق الحرة بعد هبوط طائرته في هيثرو، لأنّه على موعد استثنائي لتوعية الجمهور البريطاني حول مجازر النظام في سوريا، وهذا أهم.
وبالتالي، فإن اسم الشركة المطبوع على صدره، والذي سيتصدّر صور مقابلته على "بي بي سي" سيدفع تلقائياً مئات الآلاف من المتابعين إلى تغيير المحطة في أصقاع كثيرة، مفضلين الانشغال بمتابعة "الهولوكوست" الآخر (الذي ينكره المثقف السوري) والمستمر على أيدي زبانية نظام السوق العالمي في بلدان العالم الثالث قاطبة. وبالطبع سيستنتج مثقفنا (في مكان آخر) بعد المقابلة الفاشلة، وببساطة، أنّ "العالم لا يكترث بسوريا".
من المتوقع أيضاً أن يجد صديقنا إيّاه نفسّه مدعواً، لاحقاً، كناقد فذ إلى مهرجان "كان" (لا ندري أي سنّة بعد)، ليتورط أكثر، ويدبّج لنا مقالاً عن فيلم الافتتاح الذي أُعجب به. وسيروي ذلك الفيلم، بالتأكيد، سيرة حياة تلك العائلة الأسطورية من مصممي الأزياء الملهمين، الذين أنشأوا علامة "بنتون" للموضة، ووفروا فرص العمل لعشرات الآلاف حول العالم. وسيتغنّى مثقفنا إياه، بالضرورة، بأيام "الزمن الجميل" التي ولّت!
إذن، عمّال، "بنتون"، مقابلة، قميص، فيلم، الزمن الجميل... هذه ثقافة، أليس كذلك؟
حسناً، لنجرب مرة أخرى.
العمال السوريون في لبنان. السُمْر، العُفْر، الذين يمشون دائماً أقرب إلى الجدار؛ ويصلحون بصمت أي شيء في بيروت يتواجد بين الطابق العاشر تحت الأرض إلى الخمسين فوقها؛ كانوا هم أنفسهم من بين من خرجوا في الشوارع لـ"إصلاح" سوريا، بعد عجز دكتاتورها المعتوه عن القيام بذلك، كما يدّعي.
فجأة، صار أولئك العمال السوريون نماذج لدروس التشريح التي انطلقت أواسط 2011 في مختبر العاصمة اللبنانية حول ذلك "السوري الجديد".
مثقفون لبنانيون كثر لم "يشغّلوا" سجائرهم مرة للاطمئنان عن أوضاع أولئك العمال عندما "عوقبوا" من قبل لبنانيين آخرين (بمزيج غير متوازن من البلاهة والعنصرية) على جرائم عسكر النظام المنسحب في 2005. ومع ذلك، فهم ما زالوا يعتبرون أولئك "الشغيلة" خامة جيدة لمقاربة الشأن السوري، ومدخلاً مدراً للرزق (الاستصحافي) بحكم أن المواضيع السورية تبيع جيداً هذه الأيام.
وهذه أيضاً ثقافة.
أصدقائي الذين تركوا سوريا مهاجرين، قبيل الثورة، فراراً من ضيق "لن يفرج"، بحسب استشرافهم المنطقي؛ كانوا مستعدين في الوقت نفسه للعمل في محطّات الوقود، وخدمة غرف الفنادق، وجلي الصحون في البارات، والمطاعم. في أي مكان في العالم، عدا سوريا.
وعليه، قد تكون قراءة المنعطف التاريخي الحاسم لبعض ممن عرفناهم في تلك اللحظة (وهاجروا) مبنية على تقدير أنه ينقصنا المزيد من محطات الوقود، أو الـ"مولات"، أو أنّ مطاعم دمشق ليس فيها صحون متسخة تغطي الطاقات الكامنة الجبارة لـ"الجلي" لديهم؛ وبالتالي يصبح عندها سؤال: "من أين تستقي معلوماتك عن بلدك كمثقف؟" سؤالاً معرفياً، وابستمولوجياً. أي ثقافياً. أي، تصبح هذه ثقافة، لا مجرد أزمة فائض في الأيدي العاملة.
المثقفون الشباب الذين يحملون اليوم أكياس البرغل، وبطانيات النوم (وربما صناديق الذخيرة) ويطوفون بها بين اللاجئين، والنازحين، والمصابين، والمقاتلين؛ هم في الأصل يكتبون، ويرسمون، ويعزفون، ويرقصون. وعملهم المستجد لا يعفيهم من واجبهم في اقتراح إجابة متماسكة على سؤال: أين فكر الثورة، ومفكروها، و"ثقافتها"؟
البداهة تقضي بأنّه إن كان لا بدّ للمرء (المبدع) من تبني "عمل" جديد؛ فلا مانع من أن يكون مبدعاً فيه أيضاً؟ وإلا لماذا لم نسمع، حتى الآن، عن مثقف سوري (سابق) اخترع وسيلة لإيصال أكياس الطحين بشكل أسرع إلى المتضورين جوعاً تحت الحصار في اليرموك؟ أو عن آخر ابتكر طريقة فريدة تمكّن من إعطاء لقاح الكزاز لمن هم بحاجته عبر "سكايب" الذي لا يغادر شاشته؟
لقد بتنا اليوم، نحن الهاربين من العمل بأدواتنا على إسقاط النظام الدكتاتوري في بلادنا، أسرى نظام آخر لا يقل وحشية، وبحاجة إلى إسقاط أيضاً. أسرى النظام الأكبر الذي ذبح عمّال "رنا بلازا" من الوريد إلى الوريد.
ويكاد شهداء بنغلاديش أن يكونوا (للمغتربين منّا) أقرب إلينا، في مهننا الجديدة، من شهداء "القصير". ومع ذلك فإنّ غالبيتنا لم تسمع بالمجزرة العمالية المريعة السنة الفائتة، ربما لعدم قيام عامل منهم بتأسيس صفحة "تنسيقية العمال البنغلاديشيين الموتى" على "فيسبوك" حتى الآن.
لن "يستعمل" أحد منّا "سمكرياً" ليعجن له خبز الصباح، أوعامل "كونسروة" ليرقّع له معطف الشتاء. وإنكار هذه الوقائع "الإمبريقية"، المعملية، بات أيضاً اليوم، للأسف، ثقافة.
تحية، لا تزال كلاسيكية (وصادقة) إلى العمال كلّهم، مثقفين، وغير مثقفين.
وخاصة منهم العالم بما يعمل، والعامل بما يعلم.