ربما لم ينتبه الروس إلى أن إغلاق المجال الجوي اللبناني، تزامن مع عيد العلم والاستقلال في لبنان. لكن الفعل الروسي جاء ليؤكّد للبنانيين أن هذا الاستقلال ليس مكتملاً. ففي رسالة وجّهتها البحريّة الروسية لسلطات الطيران المدني اللبناني، أُغلقت الممرات الجوية الغربية للبنان. رسالة واحدة، كانت كافية لتبيان حقيقية ما يُسمى سيادة للدولة اللبنانيّة.
ضرب السيادة اللبنانية، قد لا يقتصر على ثلاثة أيامٍ. إذ يكشف مصدر غير رسمي في مطار بيروت، لـ"العربي الجديد"، وجود نقاش منذ أسابيع بين التقنيين اللبنانيين والروس، لجهة وجود رغبة روسية بإقفال الممر الجوي المسمى "بالما" بشكلٍ نهائي، لأسباب عسكرية. وهو ما يعني تشغيل الممر الذي اعتمد مؤقتاً، أي "ليتان"، وهو ما سيجبر الجانب اللبناني على التنسيق مع السلطات الإسرائيلية (مباشرةً أو بطريقة غير مباشرة) بسبب قرب هذا الممر من شمال فلسطين المحتلة. ولدى سؤال مصادر قريبة من رئيس الحكومة عن علمها بموضوع الإغلاق الدائم لـ"بالما"، أشارت إلى عدم علمها بالأمر ورفضها المطلق له، لأن هذا الأمر جزء من السيادة اللبنانيّة، لكن مصادر متقاطعة في مطار بيروت، أكّدت الأمر في تصريحات متشابهة.
ولفتت مصادر تقنية في مطار بيروت إلى أن تشغيل هذا الخطّ يُعتبر حقّاً سيادياً للبنان، وهو يُقلّل من وقت الطيران إلى مصر وجميع البلدان الأفريقيّة. لكنها حذّرت من أن تشغيله بشكلٍ دائم، سيكون مدخلاً للتطبيع بين لبنان وإسرائيل، إذ يقتضي تواصلاً يومياً بين سلطات الطيران في البلدين.
وهذا الممر البحري "ليتان" (اسمه مشتق من اسم نهر الليطاني أكبر الأنهار اللبنانية)، قد اعتمد من قبل السلطات اللبنانيّة بعد التنسيق مع السلطات القبرصية، بسبب تجاهل الجانب الروسي للرفض اللبناني لطلب إغلاق المجال الجوي اللبناني لجهة البحر لثلاثة أيام. وهي خطوة تعني حصار لبنان لمدة ثلاثة أيام، إذ إن معظم شركات الطيران لا تطير فوق سورية. وللإشارة، فإن لبنان تحدّه سورية من الشمال والشرق وفلسطين المحتلة من الجنوب، والبحر من الغرب.
ونتيجة عدم أخذ الجانب الروسي الرفض اللبناني بالاعتبار، والاستمرار بالمناورات كما هي، قرر الجانب اللبناني تغيير الخطوط الجوية المعتمدة حرصاً على سلامة الطيران المدني.
وبحسب ما شرحه عدد من الطيارين لـ"العربي الجديد"، فإن هناك أربعة ممرات جوية للبنان: الأول لجهة الشرق، أي يمرّ فوق سورية، واسمه "لابور شكا"، وهو يستخدم حالياً من قبل طيران الشرق الأوسط والطيران العراقي بشكل رئيسي بسبب امتناع معظم شركات الطيران من السفر فوق سورية بسبب الحرب فيها. وهناك ثلاثة ممرات جوية فوق البحر. الأهم هو الممر المسمى "بالما"، والثاني "إليكا"، وقد تم إقفال هذين الممرين بسبب المناورات الروسية لثلاثة أيام، واعتُمد بدلاً منهما الممر الثالث، والذي كان مغلقاً من زمنٍ طويل بسبب الاحتلال الاسرائيل وهو يُسمى "ليتان".
اقرأ أيضاً: الدبلوماسية اللبنانية: تراجع إلى داخل حدود الوطن
ونتيجة لتعديل المسارات، فإن وقت الرحلات من وإلى لبنان قد ازداد بحسب مواقع البلدان التي تتجه إليها الرحلات، كما أن شركة الطيران الكويتية ألغت، أمس السبت، رحلتين إلى لبنان، وبالتالي سترتفع الكلفة. وأبلغ رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل النيابية النائب محمد قباني "العربي الجديد"، أن هناك خسائر على الاقتصاد اللبناني نتيجة هذا الإجراء، ومن أبرزها توقف رحلات الطيران العارض (charter flights)، لأن هذا الممر لا يحتمل رحلات الطيران الرسمية والطيران العارض، ما عدا الطيران الدبلوماسي. لكن قباني تخوّف من معلومات تلقاها، ولكنها غير مؤكّدة بعد بالنسبة له، وهي تتعلّق بوجود نية لدى الجيش الأميركي بإجراء مناورات في البحر المتوسط ابتداءً من يوم الاثنين المقبل، وهو ما سيؤدي إلى إغلاق خط "ليتان" الذي يتم اعتماده حالياً. وبحسب قباني، فإنه إذا ما بدأت المناورات الأميركية قبل انتهاء المناورات الروسية، فإن المجال الجوي اللبناني سيكون مغلقاً بالكامل، أي مقسماً بين روسياً وأميركا.
اللافت أن "القرصنة الروسية"، كما شبّه النائب وليد جنبلاط الخطوة الروسية، جاءت بعد أيام على زيارة وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل إلى موسكو، واللافت أن باسيل اختتم زيارته بالقول في مؤتمر صحافي عقد تلبية "لدعوة من وكالة الأخبار ريانوفوستي"، كما جاء على الموقع الرسمي لباسيل، وليس بدعوة من الخارجية الروسية: "أتينا إلى روسيا لبحث العلاقات الثنائية التاريخية بين بلدينا، ولطالما كان لها التدخل الإيجابي في منطقتنا وفي لبنان في موضوع حماية الأقليات والتنوّع". وأضاف باسيل، بحسب موقعه الرسمي، "لدينا قراءة واحدة للأحداث وتطابق في وجهات النظر في ما يجري في منطقتنا والعالم، وقيّمنا بإيجابية الدور الروسي على الساحة الدولية، والذي هو عنصر يحقق التوزان على مسرح العلاقات الدولية، مما يساعد على إيجاد حلول أكثر توازناً".
هذا المديح من وزير الخارجيّة اللبناني للسياسة الروسية، سبق "القرصنة الروسية"، لكن اللافت هو عدم صدور أي موقف رسمي عن الخارجيّة اللبنانيّة، وترك الموضوع لسلطات الطيران المدني، وأكّد أن ما يجري هو مجرد تفاصيل تقنيّة في اتفاق سبق وأنجزه باسيل في موسكو، أو أن باسيل لم يطلع أبداً على تفاصيل هذا الأمر. المثير في هذا السياق، أن باسيل ألغى موعداً مع وزير الخارجية المصري سامح شكري، بسبب سفره إلى موسكو، بحسب ما يؤكّد مصدر سياسي لبناني، وهذا يُشير إلى أن زيارة موسكو لم تكن على جدول أعمال باسيل، بل جاءت شبه طارئة.
لكن مصادر رئاسة الحكومة اللبنانيّة تنقل عن باسيل تأكيده أن أحداً لم يُفاتحه بهذا الأمر خلال زيارته إلى موسكو. وتُضيف هذه المصادر بأن ما جرى "غير مقبول بأي معايير"، وهناك استياء رسمي لبناني كبير. وتلفت هذه المصادر إلى أن البحرية الروسية تجاوزت كل الاعتبارات والأصول الدبلوماسيّة، إذ إن التبليغ لم يمر عبر الخارجيّة اللبنانيّة كما هو مفترض.
وتؤكّد مصادر رئاسة الحكومة اللبنانيّة، أن السفير الروسي في لبنان ألكسندر زاسبيكين لم يكن على علم بهذا الطلب. وقد طلبت السلطات اللبنانية توضيحاً من السفير الروسي وهو يُفترض أن يرد جواباً للخارجية اللبنانية. لكن من الواضح أن السلطات اللبنانية لا ترغب في إغضاب الجانب الروسي، رغم "وقاحة" طلب البحرية الروسية.
إذاً، جاء الانتهاك الروسي للسيادة اللبنانيّة مزدوجاً: الانتهاك من خلال عدم تقديم الطلب عبر الخارجيّة اللبنانية ووزيرها الذي كان يكيل مديحاً للسياسة الخارجيّة الروسية قبل أيامٍ في موسكو، والانتهاك الأكبر هو بتجاهل الرفض اللبناني للطلب الروسي واعتباره كأنه لم يكن.
وكعادة أي أمر في لبنان، فقد ساد انقسام بين اللبنانيين حول الأمر. وتفرّد جنبلاط بكونه السياسي الأكثر وضوحاً في رفض الطلب الروسي والرد عليه باستهزاء. ووصف النائب مروان حمادة (مقرّب من جنبلاط) الخطوة الروسية بأنها "فضيحة دوليّة". فيما اعتبر نائب الجماعة الإسلامية (الفرع اللبناني للإخوان المسلمين) عماد الحوت، أن "قرار الحظر الروسي على الطيران اللبناني جاء بمثابة أمر وليس طلباً، لأنه لم يوجّه عبر القنوات الرسمية، إنما كانت رسالة الى مدير الطيران المدني تطلب وقف الطيران وتغيير المسارات لثلاثة أيام، ما يشكل استباحة للسيادة اللبنانية". في المقابل، التزم فريق 8 آذار الصمت حول الموضوع، ليترك أمر تمجيد "الرفيق بوتين" لبعض رموز الاحتلال السوري مثل الوزير السابق وئام وهاب.
اقرأ أيضاً: الهجرة "غير الشرعية" من لبنان... لا تعني الحكومة