.. وعاد لودريان من بيروت بخفّي حُنين
لم تعط زيارة وزير خارجية فرنسا، جون إيف لودريان، بيروت، والتقى فيها رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة، ميشال عون ونبيه بري وحسان دياب، فضلاً عن وزير الخارجية، ناصيف حتي، وبطريرك الموارنة في لبنان، بشارة بطرس الراعي، لم تعطِ النتائج المرجوّة التي كانت تريدها فرنسا. أصيب الزائر بخيبة، بسبب انقسام الموقف اللبناني الرسمي، ولا مبالاة المسؤولين، وعدم معرفة مركز القرار بشكل واضح وصريح، هل هو عند رئيس الجمهورية؟ أم عند الحكومة؟ أم عند المجلس النيابي؟ أم في مكان آخر غير كل هذه المؤسسات الدستورية؟
تبحث فرنسا لنفسها عن موطئ قدم يثبّت موقعها، ويؤمّن مصالحها، ويحفظ دورها في المنطقة؛ وهي لذلك مهتمة بما يجري في سورية، وأيضاً في ليبيا، فضلاً عن بقية أفريقيا، وهي بالطبع مهتمة أكثر بلبنان لأنّها ما زالت تعتبر نفسها بمثابة "الأم الحنون" له، خصوصا أنّ لبنان وقع تحت "الانتداب" الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، وكان لها الدور في إنشاء "لبنان الكبير" بحدوده الحالية، عندما أعلن ذلك الجنرال غورو في احتفال بقصر الصنوبر في بيروت قبل مائة عام، بالتمام.
ولكن زيارة لودريان بيروت هذه المرّة مختلفة، فعلى الرغم من التباين الفرنسي الأميركي في أكثر من ملف في المنطقة، في سورية وفي ليبية وأفريقيا بشكل عام، غير أنّ الرجل جاء إلى لبنان، هذه المرّة، حاملاً رسالة أخيرة، أو ربما عصارة الرسائل التي وُجّهت مباشرة أو بشكل غير مباشر لصانعي القرار في لبنان، ومفادها بأنّ الأمر، هذه المرّة، مختلف تماماً، وأنّ اللعبة شارفت على الانتهاء، فلبنان الواقع تحت عجز مالي يفوق التسعين مليار دولار يواجه أزمةً ماليةً اقتصادية خانقة، وعقوبات اقتصادية تطاول شخصياتٍ مشاركة في القرار اللبناني، أو صانعة له، وحصار مالي لا يسمح بوصول كميات كافية من العملة الصعبة لإدارة شؤون الدولة والاقتصاد، في بلد يقوم اقتصاده على "الدولرة"، وعلى استيراد أكثر من 90% من السلع من الخارج وبالعملة الصعبة. بات هذا اللبنان اليوم في ظل هذا الوضع على حافة الهاوية والانهيار الكامل، وقد فشلت جولات تفاوض الحكومة مع صندوق النقد الدولي للحصول على المساعدات والتمويل الكافي لتسيير الدورة الاقتصادية، حتى وصل الأمر إلى حدود انهيار الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية ( ثمانية آلاف ليرة لكل دولار). كما فشلت الحكومة في إجراء إصلاحات حقيقية، تقنع الدول المانحة أو المجتمع الدولي، سواء في الجانب الإداري أو القانوني. وفشلت أيضاً في مكافحة الفساد، لأنّ منظومته هي التي تتحكّم بالدولة وتدير البلد. وبالتالي، ظلّت الأزمة الاقتصادية مرشّحة لمزيد من التفاقم.
جاء لودريان إلى بيروت، وقال للمسؤولين إنها الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان، فلا بد من الشروع بالإصلاحات
جاء لودريان إلى بيروت، وقال للمسؤولين إنّها الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلد، فلا بدّ من الشروع بالإصلاحات، وإلاّ فأنتم أمام هاوية سحيقة. قال لهم: "ساعدونا كي نساعدكم". وأشار إلى أنّ أموال مؤتمر سيدر الذي انعقد في باريس قبل حوالي عامين، وهي قرابة 11 مليار دولار، ما زالت موجودة، ولكنّها رهن الإصلاحات، غير أنّ آذان المسؤولين اللبنانيين كانت صمّاء، أو أنّهم لا يملكون قرارهم المصادَر في مكان آخر.
صحيحٌ أنّ لفرنسا حساباتها الخاصة في لبنان والمنطقة بشكل عام، وربما من بينها ألا يقع لبنان بالتحديد تحت أية وصاية تحدّ من النفوذ الفرنسي، وتزعج المصالح الفرنسية. ولذلك جاء لودريان بهذه المهمّة، محاولاً استدراك الأمر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، غير أنّه عاد خائباً كما بدا من تصريحاته وحركته، أو عاد بـ "خُفّي حُنين" كما يقول المثل، إلاّ أنّ المشكلة ليست هنا، بل في المستقبل الذي ينتظر لبنان، في ظل حصار وعقوبات وتلويح بما هو أسوأ على المستويات الأمنية والعسكرية والفوضى الشاملة. وإذا كان لودريان قد فاز أو عاد بـ "خُفّي حُنين"، فإنّ اللبنانيين سيكتوون بلهيب الأزمة الاقتصادية الملتهبة من ناحية، ويختنقون بأوضاعهم التي قد تتدحرج كل يوم إلى ما هو أسوأ، وصولاً ربما إلى خروج الأمور عن نطاق السيطرة، بينما يقبع مسؤولوهم في قصورهم، لا يعنيهم شيء، تاركين قرار البلد للمجهول الذي قد يطيح كل شيء في لبنان.