ولاءات الزمن الرديء
كنت، وبعض زملائي، نحفظ أشعارا للراحل بندر بن سرور، في مرحلة المراهقة. بدا لنا أن هذا الشاعر الشعبي، والصعلوك المتمرد، كان مخلصاً وصادقاً، وهو يقدم أبياته "الأبكار" التي تلسع وتهجو بلا رحمة. كيف لا، وهو قد انتقد حتى قبيلته. وهذا أمر بالغ الصعوبة لمن عاش في مثل بيئته التي تعتبر انتقاد القبيلة والخروج عن خطها بمثابة انتحار اجتماعي للفرد. العالم، اليوم، ازدادت تعقيداته، لكن تضعف الجرأة فيه.
تعود القبيلة، كل يوم، في لبوس جديد. الكيانات الحديثة التي يحيا ويتفاعل معها الفرد، كالمؤسسات والدول وأماكن العلم والعمل وساحات النقاش الشرعي والفكري والسياسي، تحوز طريقة التعصبن والترابط ذاتها الموجودة في بنية القبيلة التقليدية. التعصبن سيئ، لأنه معني بالارتباط النكد الذي يميت كل الاعتبارات الأخرى. في كتابه "النظام الأبوي" ذكر هشام شرابي: "تكمن الدينامية البارزة للبنية القبلية في العصبية. وهذا منحى سلبي، إذ تقوم، بادئ ذي بدء، بالفصل بين الأنا والآخرين. ثم، وعلى مستوى أعلى، تقسّم العالم إلى نصفين متعارضين: القرابة واللاقرابة، العشيرة والعشيرة المعادية لها، الإسلام واللاإسلام، وهكذا..".
مشكلة العرب مشكلة مجتمع، لا مشكلة أفراد وذوات. الفشل في التنظيم وخلق سياق اجتماعي مناسب لإخراج أفضل ما في هذه الذوات، يؤدي بالذات الإنسانية الكريمة إلى دروب إحباط، تجعلها تتوزع بين ذات داعشية، تفرح بجز الرؤوس وذات فاسدة تسلب أموال البشر وأرواحهم. ذكر بعضهم أن "الربابة"، آلة العرب الموسيقية الفريدة، تعكس هذا المزاج، فهي لا تعزف إلا بانفراد.
ما يحدث في البلدان العربية، اليوم، ليس سوى مظهر من مظاهر هذه الولاءات النكدة. تتفتت الدول القُطرية، اليوم، لاعتبارات جهوية وطائفية وقبلية تقليدية. ولو كان لدينا عدد كافٍ من أفراد شجعان في كل مؤسسة وكيان، لحاربوا مسارات الولاء التي تعبث بالقيم، وتقسّم الجماعات، واستطاعوا تغيير مسار كياناتهم التي تأخذ البلدان العربية، اليوم، إلى الهاوية. الحكومات العربية، أيضاً، ممن يدخل ضمن ذلك، فهي تُقرب المناصب وتهبها، بناء على درجة الولاء للدوائر الحاكمة، وليس الكفاءة.
الولاء والارتباط عامل قوة يتم التلاعب به في كل مكان. بعد أن أخذت "فاتورة مشترياتي" من متاجر "البرتسونس" في الولايات المتحدة، وجدت مكتوباً في آخرها "شكراً على ولائك لمتاجرنا". الشركات تعلم أن بعث هذه الرسالة إليك بهذه الطريقة قد يهبها الولاء الذي أصبح مجانياً اليوم. أصبحت الرأسمالية "صبغة" العالم الثقافية اليوم، بعد معارك خاضتها منذ الستينيات، وأخذت تتلاعب بالقيم، وتعيد صياغتها. النشء والشباب، اليوم، يفرطون في الولاء لنادٍ أوروبي، يقود أساره متنفذو عصابات البزنس. الناس تتحدث، كل يوم، عن ولائها لجهاز هاتف ذكي، ويقدمون دعاية مجانية، كل يوم، لمن لا يحتاجها من شركات العولمة التي استعمرت الأرض.
الأحزاب والكيانات الإصلاحية في عالمنا، ارتدّت على نفسها، وأخذت تمارس التعصبن، الذي يعتبر ردة فعل على تجريمها، وعدم السماح لها بالوجود. أصبح الارتباط المطلوب بها جبراً، عن طريق العنف الرمزي وخطر النفي من القبيلة، عوضاً عن أن يكون مساحة اختيار للفرد في بيئة حرة. وفي الشريعة، إشكالية الولاء والبراء التي كانت معنية بحالة حروب سياسية، أصبحت، اليوم، تستخدم لتفريق أبناء مجتمع واحد ودولة واحدة.
الأمر أخطر بالنسبة للمثقفين والكتاب. فالنخبة المستقلة منهم، هي من يعول عليها ببناء كتلة تاريخية، تقتحم حائط الانسداد العربي. النخبة الواعية منهم هي من تستطيع تجاوز أفخاخ الهيمنة الحديثة التي تصطاد غيرهم من النخب في العادة. قرأت لكاتب غربي أن "عدم الولاء للكاتب مهم كأهمية الولاء للجندي". وهذا صحيح، فالكاتب لا يفترض به موالاة الكيانات مثل غيره، فهو معني بالنقد، وتصحيح أوضاع هذا الكيان. تقديم النقد، في النهاية، لا يتعارض مع كون الفرد جزءاً من هذا الكيان. لكن ما يحدث اليوم أن الكثرة الكاثرة من المنسحبين إلى نمط الولاءات المعتاد تكثر لديهم أوقات الفراغ، والوسائط التي تنقل أصواتهم، فأصبحوا مرجعاً متسلطا في ثقافتنا، يعيد بناء الفكرة والقيمة، فأصبح الحر مداناً، والمدان سيداً.
لا يزال الفرد لدينا ضعيفاً، يحتاج دوماً إلى أن يتزنر بجماعة تحميه من بيئة الخطر على الأقل. وهذا ما ساهم في انتشار "القبيلة السياسية" التي تعيد نظام الارتباط القديم في أشكال حديثة. يتحدث خلدون النقيب أن القبيلة السياسية شكل من التنظيم الاجتماعي، وتمثل حالة عقلية عامة تخصّب الذاكرة الجماعية للمجموعة. وتعتبر مفهوماً تطورياً يتناغم مع الأوضاع والحقائق الجديدة، عبر عصبية تعيد تطوير الهياكل القديمة، وتتلون بألوان الطبقات والطوائف، والمدن والأرياف.