قبل ما يقارب ثمانين عاماً ونيفاً، في جامعة كيمبرج البريطانية، وقف أحد طلبة الكلية وقرأ على مسمع ومرأى أستاذه مقالة تحلل الغموض في إحدى سونيتات وليم شكسبير، ففوجئ الأستاذ بجدّة التحليل وزاوية التناول، واقترح على تلميذه مواصلة البحث في هذا الموضوع، أي موضوع الغموض في الشعر. ولم يمض أسبوع على هذا الحدث إلا وعاد التلميذ إليه بمخطوط مقالة تتكون من 30 ألف كلمة.
كان الأستاذ هو إ.أ.رتشاردز، الناقد الشهير (1893-1979)، أما التلميذ فهو وليم إمبسون (1906-1984)، وكانت المخطوطة هي لب كتاب سيُعرف في ما بعد تحت عنوان "سبعة أنماط من الغموض: دراسة في تأثيرها على الشعر الإنجليزي" بعد نشره في عام 1930، وسيقدر لهذا الكتاب أن يُحدث تغييراً ثورياً في دراسة الأدب في إنجلترا أولاً، ثم في بقية العالم بعد ذلك.
في ذلك الصيف نفسه، وبعد بضعة أسابيع، تخرّج إمبسون وحظي بمنحة دراسية، إلا أنه طُرد من الجامعة بعد وقتٍ قصير لسبب تافه. وفي ظل هذه الظروف بدأ يعدّ كتابه للنشر ويعيد تنظيم حياته.
أكثر العناصر جاذبية في هذا الكتاب هو مزجه بين الأسلوب الأكاديمي السهل، وقوة فكر متقدّمة على معظم الأفكار الأكاديمية الشائعة آنذاك. يوضح إمبسون في كتابه هذا، أن مشروعه تطوّر في ذهنه بتأثير قطع شعرية بدت له جميلة، ولكن من دون أن يعرف لماذا. وحاول تعليل شعوره بجمالها أن لجأ إلى كل أنواع المعاني المختلفة التي تحملها إليه الكلمات. وبهذه الطريقة حوّل كل قطعة شعرية إلى غيمة كبيرة من الغوامض الممكنة.
الغموضُ، كما يعرّفه، هو فوارق لفظية ضئيلة في المعنى مهما كانت طفيفة، يفتح المجال أمام ردود أفعال متعددة على القطعة اللغوية نفسها. وتوصل إمبسون إلى أن كل الشعر الجيد غامض بهذه الطريقة، وأن الغموض كان بالفعل الخاصية المحدّدة التي تجعل الشعر شعرياً.
وهذه هي أنماط الغموض التي فتح مغاليقها، وبدلاً من هجائها امتدح قدرتها وتأثيرها، وفعاليتها في تحويل الكلام إلى ضوء يتغلغل في أعماق الظلام. يطرح إمبسون سبعة أشكال من الغموض في الشعر؛ تمثل الاستعارة نمطَ الغموض الأول، أي حين يقام تشابه بين شيئين لهما خصائص مختلفة، ويماثل هذا المفهوم تصوراً أو ادراكاً ما ورائياً (ميتافيزيقياً).
أما أشكال الغموض الأخرى، فهي حين ينحلّ معنيان أو أكثر في معنى واحد، أو حين ترتبط فكرتان إحداهما بالأخرى في سياق يمكن أن تقدما متزامنتين كفكرة واحدة، أو حين لا يوجد توافق بين معنيين أو أكثر إلا أنهما يتركبان معاً لإيضاح حالة ذهنية معقدة لدى الكاتب، أو حين حين يكتشف المؤلف فكرته خلال فعل الكتابة، مثل التشبيه الذي يقع في منتصف الطريق بين عبارتين يأتي بهما الكاتب، أو حين لا تقول العبارة شيئاً، ويُجبر القراء على ابتكار عبارة خاصة بهم، وتتضارب هذه في أغلب الأحوال مع عبارة الكاتب، وأخيراً حين تأتي كلمتان متضادتان في سياق واحد فتظهران انقساماً أساسياً في عقل الكاتب.
كان إمبسون قارئاً حسّاساً وكانت رؤيته تفتح البصيرة على رؤية جديدة. يشبه ذلك الجلوس في غرفة مظلمة، وفجأة يضيء أحدهم الأنوار، فتظهر الألوان والأشكال من العتمة، وتلتمع اللغة وتتصف بالإثارة نفسها التي يتصف بها هذا المشهد نفسه.
تلك اللغة التي عثر عليها لوصف تأثير الغموض في فقرات معينة، كما نرى ذلك من عمله مع هذين السطرين من سوناتة رقم 73 لشكسبير: "أيتها الآلات الموسيقية العارية الخربة/ أين غنت أواخر الطيور العذبة؟". أو مثل الفقرة التي يستخدم فيها عطيل، الغريبُ والغامضُ، كلمة "سبب" قبل أن يقتل ديدمونة مباشرة: "روحي هي السبب.. هي السبب". يشخّص إمبسون استخدام عطيل لهذه الكلمة على أنها تعبيرٌ "عن عقل تذهله آلامه"، أو كما في قوله عن العطور والمجوهرات على طاولة الزينة في قصيدة إليوت المسماة "الأرض اليباب"، إنها "تلطخ قواعد الفن في قلب الرفاهية".
كما نرى ذلك من عمله مع هذين السطرين من سوناتة رقم 73 لشكسبير: "أيتها الآلات الموسيقية العارية الخربة/ أين غنت أواخر الطيور العذبة؟".
وتمثل نماذجه المختارة كل ألوان الطيف التاريخي للشعر الإنجليزي، وتظهر أن هذا الشعر كان يعتمد على الغموض دائماً. اللغاتُ الأوروبية الأخرى تختلف عن الإنجليزية في هذا، فهي تفتقر إلى هذه الإمكانية كما يشير، بسبب كونها مقيدة بشدة بالقواعد النحوية (الجنس في الأسماء والتمييز في نهايات الأفعال) وهو ما يفسر كثرة الشعراء الكبار في الإنجليزية نسبياً.
ويعترف إمبسون أن تقسيم موضوعه إلى سبعة أنماط لا يعدو كونه مسألة قناعة ذاتية، فالغوامض غامضة في حد ذاتها، ولا يمكن أن تكون محددة. إلا أن الكتاب يتقدّم تدريجياً من حالاتٍ يعدّل فيها الغموضُ مجرّد تعديل المعنى الظاهر، إلى حالاتٍ يتعارض فيها الاثنان تعارضاً تاماً.
ويأخذ التفكير بالمتضادات إمبسون إلى قلب موضوعه، فيشير إلى أن اللغة والإدراك يعتمدان على متضادات ثنائية (فوق/تحت و شاب/هرم) حيث يتضمّن كل تعبير نقيضه وينفيه نفياً تاماً أيضاً.
وفي الشعر الغامض تلتقي المتضادات (كما يلاحظ في الأحلام عند فرويد) وهو ما يسمح للشعر بالغوص إلى مدى أعمق من الوضوح السطحي الذي نفرضه على شؤون الحياة اليومية.
إحدى تبعات أطروحة إمبسون في الغموض، هي أن قراء القصائد يعيدون تكوينها في أذهانهم على وجه الحقيقة. وهو أمرٌ يراه إليوت علامة من علامات الناقد الرديء، ولكن إمبسون يصرّ على أن هذا الأمر لا مفرّ منه، فالقارئ ينشئ غيمة أنماط الغموض الحيوية، وبعض القراء أفضل من بعضهم الآخر في هذا.
القصائد ليست ثابتة ولا محدّدة، وكذلك الشعراء، وإنما تعاد قراءة القصائد وتعاد قراءة الشعراء، دائماً، بأشكال مختلفة. وعمل الناقد ليس استخلاص ما هو هناك بالفعل، بل خلق ذوق عصره.
ومن هذه الأطروحة انبثقت، عملياً، كل تطوّرات نظرية الأدب في القارة الأوروبية وأميركا في السنوات اللاحقة من سنوات القرن العشرين. وهي تطوّرات ربما كان سيستهجنها إمبسون إلا أنها لم تعد تحت سيطرته، فقد أطلق المارد من القمقم، ولم تعد إعادته إليه ممكنة.