10 ابريل 2019
يحدث في السودان
لم تفكّ الرسالة التي بعث بها، أخيراً، أحد قادة الجيش السوداني: "إنّ القوات المسلحة هي من تقرر من يحكم، ومن يبقى"، لم تفكّ لغز دور القوات المسلحة الآني، وإنّما هي بمثابة لعق للجراح عن دورٍ لم تقدّره حكومة الإنقاذ التي جاءت على ظهور دبابات هؤلاء العسكر، حق قدره.
وما أثار الغبن بين مؤسسة الجيش العريقة والحكومة هو الاهتمام الزائد الذي تلقاه قوات الدعم السريع (جزء من مليشيا الجنجويد) من مؤسسة الرئاسة مباشرة. يعتبر خبراء أنّ تكوين هذه المليشيا والاعتراف بها يعدُّ تجاوزاً لكل قوانين القوات المسلحة، والتي تحظر قيام أي قوى عسكرية أخرى، غير الجيش الوطني، فهذه المليشيا لا تخضع للجيش القومي، أو تتبع لتعليماته، بل لها من الصلاحيات والإمكانات ما يفوق إمكانات القوات المسلحة وقدراتها، ما جعل قائدها الذي ينتمي إلى قبيلة الرزيقات، إحدى القبائل العربية في ولاية شرق دارفور، يقول إنّ قواته مؤسسة قائمة بذاتها.
تم إلحاق هذه القوات برئاسة الجمهورية بقرار جمهوري في 21 أبريل/ نيسان 2016، بعد أن أصبحت الحكومة تشكّ في ولاء القوات المسلحة لها بعد عدة محاولات انقلابية. فمنذ آخر محاولة انقلابية عام 2012، ونظام "الإنقاذ" يعمل على تغييب هذه المؤسسة. وهي إن لم تنجح عسكرياً فقد نجحت سياسياً بأن لفتت نظر الشارع السوداني إلى أنّ هناك حراكاً داخل مؤسسة الجيش، والتي لازمها سوء الحظ مرتين، مرة بموالاة الحركة الإسلامية في انقلاب الإنقاذ 1989، والذي ما زالت تتحمل وزره، وأخرى بإعادة الكرة بمحاولتين انقلابيتين فاشلتين. وبين المحاولتين، كان الجيش بمثابة صمام أمان للوطن والمواطنين، ولكن قوميته الآخذة في التلاشي وأسراره التي تبدّت للعلن جعلت من كينونته مثار جدل، ونهباً للصراعات مع المؤسسات الأخرى الحارسة لأسوار السلطة.
لم يأت ضعف مؤسسة الجيش فجأة، وإنما بدأت تتآكل من الداخل في مواجهة جملة من
التحديات، تمثلت في صراعات داخلية مع جهاز الأمن الوطني، وكان أبرزها ما أُثير عن هجوم حركة العدل والمساواة على مدينة أم درمان في مايو/ أيار 2008، من وجود خلاف بين الجيش وجهاز الأمن، تصدى بعدها الأخير مع قوات الشرطة لإدارة المعركة بعد استبعاد الجيش. ومنذ ذلك الوقت، وصلت إلى الشعب السوداني رسالة علنية، بثتها وسائل الإعلام باستعراض قوات الأمن إمكاناتها وكيفية صدّها الهجوم، ومفادها موازاة قوات جهاز الأمن للقوات المسلحة كتفاً بكتف، وسلاحاً بسلاح.
أما وقد دخل الساحة لاعبون جدد، فقد تضمّن القرار الذي أصبحت بموجبه هذه المليشيا تابعةً لرئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة؛ أن يتكفل جهاز الأمن والمخابرات الوطني بصرف المرتبات والاستحقاقات المالية لكل منسوبي هذه القوات. وجعل النظام الحديث حول طبيعة هذه المليشيا ودورها خطاً أحمر، يضع كل من يتجاوزه تحت طائلة قانون جهاز أمن الدولة، وما يتبع ذلك من تهم قد تصل إلى جريمة الخيانة العظمى.
ثم أجاز البرلمان السوداني في يناير/ كانون الثاني الجاري مشروع قانون قوات الدعم السريع التي تجاوز عددها 30 ألفاً، مركّزاً على تبعية القوات إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة، ما اعتبره نواب معترضون على القانون بمثابة تأسيس جيش ثانٍ موازٍ للقوات المسلحة.
التنازع القائم بين المؤسستين العسكريتين، الجيش والأمن، الآن، متعدّد الجوانب، وأطرافه تضرب في مصالح فئوية وشخصية بعيدة عن الهمّ العام. لذا، رأت المؤسستين أن تحلّ لنفسيهما ما حرّمته على غيرها، وهو الدخول إلى عالم السياسة من أوسع أبوابها، وكانت النتيجة جيشٌ وأمنٌ مُسيّسان، وسياسيون مسلحون بتحالف أحزابهم مع الحركات المسلحة، ما أدى إلى تغييب الأولى واستقواء الثانية.
في معرض دفاعه عن هذه القوات، قال وزير الدفاع السوداني، عوض بن عوف، إنّ هنالك كثيراً من عناصر الاستهداف تواجه السودان، ولا بد من وجود قوات خفيفة الحركة والمناورة داخل المسرح الواحد، أو التحول إلى مسارح أخرى. أما الأخطر في تبريره اللجوء إلى هذه القوات فهو تصريحه عن تطور أساليب القتال وأنواع الجريمة واستخدام التقنية العالمية والمهارات العالية للعصابات والمجرمين، ما استوجب تغيير الذهنية القتالية لمقابلة هذا التطور. وقد يكون مسّ مؤسسته التي تأويه في مقتل، بوصمها بعدم مواكبتها وفقرها للتقنية العالمية والذهنية القتالية الجديدة.
لا يستطيع أحد أن يجزم أن الجيش تم استخدامه لإدارة صراع الحكم. ولكن، يبدو أنّه تم
توظيف ظرفه، خصوصاً بعد الإخفاقات الكبيرة التي لازمته أخيراً. وعلى الرغم من الحقيقة الناصعة بتبني المؤسسة العسكرية مشروع "الإنقاذ"، ومنافحتها عنه، إلّا أن لا أحد يحتمل أن تُدمغ هذه المؤسسة بالمواصلة في موالاة أي نظام سياسي، حتى ولو كان النظام الحاكم. لم يعد هذان التصوّران ضبابيين، فخلال عقد التسعينيات، بدأت تصيب مؤسسة الدولة شروخ الانقسام. وبعد انفصال الجنوب، انقسمت فعلاً على المستويين، السياسي والعسكري، وذلك يتضح من أنّ الحكومة، حزباً ومؤسسة عسكرية، كانت فيما قبل موحدة ضد عدو واحد، أما الآن فقد انقلبت تواجه الدولة المتشظية نفسها في أركانها الأربعة.
الجيش السوداني، الحاضر الغائب الذي أُريد أن يُقدّمَ قرباناً في نار الصراعات بين مؤسسات السودان العسكرية، أصبح فيما بعد ينتظر من يتمّ نقصانه مثلما يحدث الآن. وباستعارة مقولة الجنرال الفرنسي، شارل ديغول، الجيش الفرنسي ملك لفرنسا، وليست فرنسا ملك للجيش الفرنسي"، يمكننا في ظل انتظار أن تأخذ الحكومة السودانية قراراتها السياسية، بدلاً عن تمريرها إلى حلبة "حرب الظلال" بين مؤسساتها العسكرية، أن نقول أيضاً: "الجيش السوداني ملكٌ للسودان، وليس السودان ملكٌ للجيش".
وما أثار الغبن بين مؤسسة الجيش العريقة والحكومة هو الاهتمام الزائد الذي تلقاه قوات الدعم السريع (جزء من مليشيا الجنجويد) من مؤسسة الرئاسة مباشرة. يعتبر خبراء أنّ تكوين هذه المليشيا والاعتراف بها يعدُّ تجاوزاً لكل قوانين القوات المسلحة، والتي تحظر قيام أي قوى عسكرية أخرى، غير الجيش الوطني، فهذه المليشيا لا تخضع للجيش القومي، أو تتبع لتعليماته، بل لها من الصلاحيات والإمكانات ما يفوق إمكانات القوات المسلحة وقدراتها، ما جعل قائدها الذي ينتمي إلى قبيلة الرزيقات، إحدى القبائل العربية في ولاية شرق دارفور، يقول إنّ قواته مؤسسة قائمة بذاتها.
تم إلحاق هذه القوات برئاسة الجمهورية بقرار جمهوري في 21 أبريل/ نيسان 2016، بعد أن أصبحت الحكومة تشكّ في ولاء القوات المسلحة لها بعد عدة محاولات انقلابية. فمنذ آخر محاولة انقلابية عام 2012، ونظام "الإنقاذ" يعمل على تغييب هذه المؤسسة. وهي إن لم تنجح عسكرياً فقد نجحت سياسياً بأن لفتت نظر الشارع السوداني إلى أنّ هناك حراكاً داخل مؤسسة الجيش، والتي لازمها سوء الحظ مرتين، مرة بموالاة الحركة الإسلامية في انقلاب الإنقاذ 1989، والذي ما زالت تتحمل وزره، وأخرى بإعادة الكرة بمحاولتين انقلابيتين فاشلتين. وبين المحاولتين، كان الجيش بمثابة صمام أمان للوطن والمواطنين، ولكن قوميته الآخذة في التلاشي وأسراره التي تبدّت للعلن جعلت من كينونته مثار جدل، ونهباً للصراعات مع المؤسسات الأخرى الحارسة لأسوار السلطة.
لم يأت ضعف مؤسسة الجيش فجأة، وإنما بدأت تتآكل من الداخل في مواجهة جملة من
أما وقد دخل الساحة لاعبون جدد، فقد تضمّن القرار الذي أصبحت بموجبه هذه المليشيا تابعةً لرئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة؛ أن يتكفل جهاز الأمن والمخابرات الوطني بصرف المرتبات والاستحقاقات المالية لكل منسوبي هذه القوات. وجعل النظام الحديث حول طبيعة هذه المليشيا ودورها خطاً أحمر، يضع كل من يتجاوزه تحت طائلة قانون جهاز أمن الدولة، وما يتبع ذلك من تهم قد تصل إلى جريمة الخيانة العظمى.
ثم أجاز البرلمان السوداني في يناير/ كانون الثاني الجاري مشروع قانون قوات الدعم السريع التي تجاوز عددها 30 ألفاً، مركّزاً على تبعية القوات إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة، ما اعتبره نواب معترضون على القانون بمثابة تأسيس جيش ثانٍ موازٍ للقوات المسلحة.
التنازع القائم بين المؤسستين العسكريتين، الجيش والأمن، الآن، متعدّد الجوانب، وأطرافه تضرب في مصالح فئوية وشخصية بعيدة عن الهمّ العام. لذا، رأت المؤسستين أن تحلّ لنفسيهما ما حرّمته على غيرها، وهو الدخول إلى عالم السياسة من أوسع أبوابها، وكانت النتيجة جيشٌ وأمنٌ مُسيّسان، وسياسيون مسلحون بتحالف أحزابهم مع الحركات المسلحة، ما أدى إلى تغييب الأولى واستقواء الثانية.
في معرض دفاعه عن هذه القوات، قال وزير الدفاع السوداني، عوض بن عوف، إنّ هنالك كثيراً من عناصر الاستهداف تواجه السودان، ولا بد من وجود قوات خفيفة الحركة والمناورة داخل المسرح الواحد، أو التحول إلى مسارح أخرى. أما الأخطر في تبريره اللجوء إلى هذه القوات فهو تصريحه عن تطور أساليب القتال وأنواع الجريمة واستخدام التقنية العالمية والمهارات العالية للعصابات والمجرمين، ما استوجب تغيير الذهنية القتالية لمقابلة هذا التطور. وقد يكون مسّ مؤسسته التي تأويه في مقتل، بوصمها بعدم مواكبتها وفقرها للتقنية العالمية والذهنية القتالية الجديدة.
لا يستطيع أحد أن يجزم أن الجيش تم استخدامه لإدارة صراع الحكم. ولكن، يبدو أنّه تم
الجيش السوداني، الحاضر الغائب الذي أُريد أن يُقدّمَ قرباناً في نار الصراعات بين مؤسسات السودان العسكرية، أصبح فيما بعد ينتظر من يتمّ نقصانه مثلما يحدث الآن. وباستعارة مقولة الجنرال الفرنسي، شارل ديغول، الجيش الفرنسي ملك لفرنسا، وليست فرنسا ملك للجيش الفرنسي"، يمكننا في ظل انتظار أن تأخذ الحكومة السودانية قراراتها السياسية، بدلاً عن تمريرها إلى حلبة "حرب الظلال" بين مؤسساتها العسكرية، أن نقول أيضاً: "الجيش السوداني ملكٌ للسودان، وليس السودان ملكٌ للجيش".