يريدونه ربيعاً عبثيّاً
المتتبع للمشهد العبثي الذي آل إليه الربيع العربي سيلاحظ، بوضوح، أجواء التشفي، بل والسخرية الغريبة من هذا الربيع المزعوم، والذي على أرجح الظن أنه حيك بليل من النظم الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بالتنسيق مع أجهزة استخبارات دول الموالاة نفسها التي تفجرت فيها تلك الثورات، كمصر وتونس واليمن، ليس بغية هدم النظم القائمة، ولكن بغية ترميمها وإعادة تماسكها، بعدما أصابها الترهّل والعطب، وأوشكت على الانهيار الذاتي، جراء تضارب مصالح شبكات الفساد وتضخمها.
وتجري عملية الترميم تلك من خلال عمليات تبديل واسعة في الوجوه، مع إعادة إنتاج الأحزاب الكرتونية القديمة بمسميات ووجوه جديدة، من رعيل الصفين، الثاني والثالث، بما يبدو معه المشهد وكأن ثورة حدثت، وإرادة الشعب حكمت، وذلك من دون تغيير يذكر في الفكر، في محاولة خداعية تأخذ بصمة شعبية، تقول إن الشعب وصل إلى ذروة التغيير الذي يريده ورسم طريقه بنفسه، غير الوجوه المتحجرة القديمة بأخرى شابة.
وحتى هذا التغيير الشكلي الأجوف المتمثل في انتقال السلطة من الرعيل الأول للحزب الحاكم، تحت أي مسمى، من العواجيز إلى الشباب تم النكوص عنه في مشاهد كثيرة في الربيع العربي المغدور، بينما فكر النظام القديم الذي عادة يتمترس حول إضفاء التقديس على الحاكم والإسراف في "غيبيات الأمن القومي"، عاد مع النظام نفسه، ولكن أكثر تزمتاً وعنفاً وإجراماً وقيداً للحريات، وإهداراً لحقوق الإنسان، بما يحمل بصورة واضحة سخرية من شعوبنا وشماتة في ربيعنا.
ويتجسد هذا التشفي وتلك السخرية من خلال استعراض هذه المشاهد الكاشفة، فثورة الشباب في تونس، والتي كانت باكورة ثمار هذا الربيع تمخضت عن رجل تسعيني قضى من العمر أرذله، والمصريون الذين خرجوا ضد حكم العسكر في يناير، راحوا ينصبون "رئيس المخابرات العسكرية" وهو المنصب الذي يجسد عمود خيمة العسكر في أي بلد في العالم رئيساً للجمهورية، وقائداً ملهماً للقوى المدنية. واليمنيون الذي خرجوا غضباً من الفساد والتمييز بين الشمال والجنوب، راح الحوثيون الشماليون يسيطرون على المشهد برمته، شمالاً وجنوباً، كما أن ثمار انتخابات الرئاسة في الجارة الجزائر توضح المعنى وتقوّيه، كما يقول علماء البلاغة.
ولكن، ما علاقة الغرب بما يحدث في بلدان ربيعنا؟ ومن أين جاء هذا الاتهام؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يتم طرحه، وأن أجيب عليه. فالغرب راح يهلل لانتكاسات الربيع العربي عامة، والمصري خاصة، حيث أضفى شرعية على الانقلاب العسكري في مصر، حينما سمح لقائد الانقلاب بالتجول بين مدنه، وتمثيل مصر في الأمم المتحدة، وحينما زمجر أوباما ثأراً لناشط يقول إنه مسّه ضرّ في عهد مرسي، بينما صَمَتَ صمت القبور عن قتل الآلاف وحرقهم والتمثيل بجثثهم، وعن اختطاف الديمقراطية ونحرها أمام العيان.
حينما قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات إن 99% من أوراق اللعبة في يد أميركا، لم يقلها من باب "طق الحنك"، لكنه كان، على الأرجح، يقصد أن يقول إن بلادنا ليست مستقلة كما تتوقعون، وإننا لا زلنا بلداً مستعمراً، انتقل من طور الاستعمار العسكري المباشر إلى الاستعمار غير المباشر، عبر مؤسسات أمنية وعسكرية وإعلامية وحقوقية، بل ونخبوية، ينتمي نافذون فيها للخارج، ثم استغل هذا الطرح الذي لم يقرأه كثيرون، لوقعه الصادم على المتلقي الذى تربى على زخم طويل من مهرجانات الاستقلال، ثم مهرجانات الصمود، ثم مهرجانات النصر، إلى طرح آخر استطاع الجميع قراءته، وهو تعبيد الطريق لاتفاقية "كامب ديفيد"، والتي تعني بشكل يسهل اكتشافه الإذعان لمطالب إسرائيل، وجعل سيناء رهينة لها تحكمها "عملياً"، بينما تحكمها مصر "نظرياً"، بل إن هذا الجانب "النظري"، متى شاءت إسرائيل أن تسترده أيضاً، فلن يكلفها الأمر إلا عشية وضحاها.
الحقيقة أن الاستعمار غير المباشر ليس محصوراً في التحكمات الاقتصادية الغربية، بل يتعداها إلى مستويات أخطر بكثير، فالاستعمار، هذه المرة، نَصَّب بعضاً منّا يحكموننا لصالحه نيابة عنه، مروراً بأسلحة نستوردها منه، يستطيع هو أن يعطبها في مخازنها، متى كان استخدامها ليس على هواه، من خلال التحكّم بشيفرات تتصل بها أقماره الصناعية التي تملأ الكون، وهو ما يقال إنه حدث في المشهد العراقي، ومن بعده الليبي، ما يجعل عملية التسلّح في بلداننا عامة بمثابة "انتصار للبائع" وليس للمشتري، فهو يبيعها، ويحدد معها ضحاياها.
وأخيراً، وعلى الرغم من كل مشاهد التراجع التي يعيشها الربيع العربي، فإن الثورة ستنتصر نصراً مؤزراً في نهاية المطاف، لأن روح الشباب ومثابرته أبقى من البارودة والزنزانة، وأكثر حيلة وحسماً منهما، كما أن حيل الثورة المضادة القمعية لا تناسب روح العصر.