أبو باسل طبيب سوري من دوما، كان شاهداً على ما خلّفته في محيطه غارات كثيرة. يكتب لـ"العربي الجديد" في ما تنقله لنا لبنى سالم، فصلاً من مذكراته، عن ذلك اليوم الذي كاد يفقد فيه عائلته وأهله
في ذلك الصباح الباكر، أيقظني صوت انفجار مدوّ. شعرت بأنّ شيئاً ما مرّ بالقرب من رأسي وكاد يصيبني، أو ربما أصابني ولم أدرك بعد. فتحت عينَيّ مزيلاً الغبار عنهما، ورحتُ أتلفت حولي. الغبار ظلّ يملأ الجوّ لدقائق، فوجدت نفسي ألمس جسدي لأتفحصه، وأنا أحاول استيعاب ما حصل. النافذة التي لم تعد في إطارها، كانت أوّل ما رأيت. استقرّت بالقرب منّي من دون أن تصيبني. نظرت إلى الفتحة الكبيرة التي تركتها في الجدار، وأدركت من طريقة تناثر الشظايا وحدّة الانفجار أنّ صاروخاً ألقته طائرات حربية في الجوار تسبّب في ذلك.
نهضت سريعاً لأتفقد ما حصل. هرعت أبحث عن زوجتي وطفلَيّ، فيما كانت صفارات سيارات الإسعاف تصدع رأسي. اطمأننت عليهم بنظرة خاطفة وتأكدت من أنّهم بخير، ثمّ ركضت إلى المكان المستهدف. لم يكن يبعد عن سكني أكثر من مائة متر. عرفت أنّه منزل أهلي، وتهيأت للأنباء السيئة.
عندما وصلت، رأيت أمي وإخوتي وأبناءهم وقد سلموا بأعجوبة، فهم كانوا في الملجأ. كان الجميع ينادي عائلة عمّي. أمسكت بشاب غطّت الغبار ثيابه، بعدها عرفت بصعوبة أنّه ابن عمي، وسألته مذعوراً: "وينهم؟". ردّ: "جروح. بس كنانة استشهدت". أتى وقع الخبر كصاعقة عليّ، فقلت له بهدوء: "الله يرحمها". كنانة كانت في السابعة من عمرها. قبل أن تستشهد، لطالما كانت العائلة تقول إنّه لم يتبقّ لوالدتها سواها وأخيها، بعدما استشهد أبوها وأخوها البكر.
انتقلت فوق الركام إلى المنزل الأقرب للموقع المستهدف. وجدت منزل خالي ولم يبقَ فيه حجر على حجر. كان خالي يقف جامداً أمامه، وعيناه جاحظتان. كان مصدوماً. ناديته. "خالي طمني". فأجاب وهو يرفع يدَيه كمن يسلم بالقضاء والقدر: "أطمئنك على ماذا؟ امرأة خالك وكنّتي ولجين ابنة محمد ورفيف ابنة عدنان وعدنان ابن أختك، كلّهم راحوا على الإسعاف. اذهب أنت وطمّني".
حتى تلك اللحظة، ولشدّة الصدمة، كنت قد نسيت أنّني طبيب وأنّه عليّ التوجّه سريعاً إلى مركز الإسعاف. استقليت سيارة إسعاف كانت تنقل مصابين من بيوت الجيران، وتوجهت إلى مركز الإسعاف في المدينة الذي شهد مراراً على هول المجازر في دوما. دخلت إلى المركز، وشاهدت ما يفطر القلب كالعادة. الأسرّة مليئة بالمصابين، كما بعد كلّ قصف. ما يختلف في هذه المرّة أنّهم جميعهم من أقاربي وأصدقائي وجيراني.
اقــرأ أيضاً
في ذلك الصباح الباكر، أيقظني صوت انفجار مدوّ. شعرت بأنّ شيئاً ما مرّ بالقرب من رأسي وكاد يصيبني، أو ربما أصابني ولم أدرك بعد. فتحت عينَيّ مزيلاً الغبار عنهما، ورحتُ أتلفت حولي. الغبار ظلّ يملأ الجوّ لدقائق، فوجدت نفسي ألمس جسدي لأتفحصه، وأنا أحاول استيعاب ما حصل. النافذة التي لم تعد في إطارها، كانت أوّل ما رأيت. استقرّت بالقرب منّي من دون أن تصيبني. نظرت إلى الفتحة الكبيرة التي تركتها في الجدار، وأدركت من طريقة تناثر الشظايا وحدّة الانفجار أنّ صاروخاً ألقته طائرات حربية في الجوار تسبّب في ذلك.
نهضت سريعاً لأتفقد ما حصل. هرعت أبحث عن زوجتي وطفلَيّ، فيما كانت صفارات سيارات الإسعاف تصدع رأسي. اطمأننت عليهم بنظرة خاطفة وتأكدت من أنّهم بخير، ثمّ ركضت إلى المكان المستهدف. لم يكن يبعد عن سكني أكثر من مائة متر. عرفت أنّه منزل أهلي، وتهيأت للأنباء السيئة.
عندما وصلت، رأيت أمي وإخوتي وأبناءهم وقد سلموا بأعجوبة، فهم كانوا في الملجأ. كان الجميع ينادي عائلة عمّي. أمسكت بشاب غطّت الغبار ثيابه، بعدها عرفت بصعوبة أنّه ابن عمي، وسألته مذعوراً: "وينهم؟". ردّ: "جروح. بس كنانة استشهدت". أتى وقع الخبر كصاعقة عليّ، فقلت له بهدوء: "الله يرحمها". كنانة كانت في السابعة من عمرها. قبل أن تستشهد، لطالما كانت العائلة تقول إنّه لم يتبقّ لوالدتها سواها وأخيها، بعدما استشهد أبوها وأخوها البكر.
انتقلت فوق الركام إلى المنزل الأقرب للموقع المستهدف. وجدت منزل خالي ولم يبقَ فيه حجر على حجر. كان خالي يقف جامداً أمامه، وعيناه جاحظتان. كان مصدوماً. ناديته. "خالي طمني". فأجاب وهو يرفع يدَيه كمن يسلم بالقضاء والقدر: "أطمئنك على ماذا؟ امرأة خالك وكنّتي ولجين ابنة محمد ورفيف ابنة عدنان وعدنان ابن أختك، كلّهم راحوا على الإسعاف. اذهب أنت وطمّني".
حتى تلك اللحظة، ولشدّة الصدمة، كنت قد نسيت أنّني طبيب وأنّه عليّ التوجّه سريعاً إلى مركز الإسعاف. استقليت سيارة إسعاف كانت تنقل مصابين من بيوت الجيران، وتوجهت إلى مركز الإسعاف في المدينة الذي شهد مراراً على هول المجازر في دوما. دخلت إلى المركز، وشاهدت ما يفطر القلب كالعادة. الأسرّة مليئة بالمصابين، كما بعد كلّ قصف. ما يختلف في هذه المرّة أنّهم جميعهم من أقاربي وأصدقائي وجيراني.
رحت أتفقد المصابين مع زملائي الأطباء المناوبين، وقد كنت أكبرهم وأقدمهم في العمل. لذا توجّب عليّ تقديم الاستشارات لمعظم الحالات. سألني زميل: "أخي أبو باسل، من هي هذه المصابة؟". أجبت: "امرأة خالي. تعاني من كسر أمشاط". سأل: "وهذه؟". أجبت: "ابنة خالتي. إصابتها في الصدر". كانت حالاتهم بمعظمها غير خطرة، باستثناء الصغيرة لجين. فقد استقرّت شظية في جمجمتها، وحوّلت إلى العناية المركزة. لمحت أخ كنانة في إحدى زاويا الغرفة، فتجنّبت الذهاب إليه حتى لا أرى جثتها. وحين انتهيت من فحص الحالات، هممت بالذهاب إليه لأعزّيه. في طريقي، خيّل إليّ أنّها تتحرّك. اقتربت أكثر، فإذا بي أتفاجأ بأنّها ما زالت حيّة. "كنانة! شلونك؟". قالت: "الحمدلله". سألتها: "عايشة.. عايشة؟". أجابت: "إيه عمّو. الحمدلله ما متّ".
ضممتها وانهمرت دموعي. فهي عادت من رحلة طويلة، من الموت. وفي وقت لاحق، عرفت من زملائي أنّها كانت فاقدة الوعي عندما أخرجت من تحت الركام. لذا ظنّ الجميع بأنّها ماتت. لكن، عند وصولها إلى مركز الإسعاف، استعادت وعيها بعد الإنعاش.
سريعاً، خرجت من المركز لأنقل بشرى عودة كنانة إلى الحياة. قصدت ابن عمي وقلت له بلجهة دومانية: "يووووو أبو حسن! يرد طمنا. لك كنانة عايشة والله عايشة والباقي كلهم بخير". فيبتسم وتمتلأ عيناه بدموع تغسل غبار القذائف، قبل أن ينحني ساجداً لله. من جهتي، لم أستطع إخفاء دموع فرحي.
وبينما كنّا نتحادث، وقع انفجار عنيف. فقد سقط صاروخ شديد الانفجار على بعد مائة متر منّا، لكنّه هذه المرة من ناحية منزلي. أحسست بأنّ قواي قد خارت. حاولت تمالك نفسي ودعوت الله ألا تخذلني قدماي. ما إن انقشع الغبار بعض الشيء، رحت أركض مسرعاً نحو المنزل، حيث زوجتي وطفلَيّ الذين ودّعتهم صباحاً.
في طريقي إليهم، تبيّن لي أنّ الضربة لم تستهدف منزلي مباشرة، وقد حصدت أرواح أربعة شهداء في الشارع. دخلت إلى بيتي الذي تحطم جزء من واجهته، فوجدت زوجتي والولدَين مختبئين في إحدى الزوايا، والدموع تغطّي وجوه زوجتي. صاح ابني البالغ من العمر خمس سنوات في وجهي، وقد بدا عليه الغضب واللوم. "وينك؟ ما سمعت القذيفة؟ ليش رحت وتركتنا؟". أجبت بهدوء: "بلى. سمعتها بابا. وجئت من أجلكم". فتمالك أعصابه وراح يكابر قائلاً: "بس ماما خافت". لم أعرف من أين أتى طفل بعمره بهذه الشجاعة. حينها، اصطحبت زوجتي وطفلَيّ إلى الملجأ ليقضوا ما تبقّى من اليوم. أما أنا، فرحت أتنقّل بينهم وبين مركز الإسعاف لمتابعة وعلاج ما خلّفه القصف في أجساد الناس وأرواحهم.
اقــرأ أيضاً
ضممتها وانهمرت دموعي. فهي عادت من رحلة طويلة، من الموت. وفي وقت لاحق، عرفت من زملائي أنّها كانت فاقدة الوعي عندما أخرجت من تحت الركام. لذا ظنّ الجميع بأنّها ماتت. لكن، عند وصولها إلى مركز الإسعاف، استعادت وعيها بعد الإنعاش.
سريعاً، خرجت من المركز لأنقل بشرى عودة كنانة إلى الحياة. قصدت ابن عمي وقلت له بلجهة دومانية: "يووووو أبو حسن! يرد طمنا. لك كنانة عايشة والله عايشة والباقي كلهم بخير". فيبتسم وتمتلأ عيناه بدموع تغسل غبار القذائف، قبل أن ينحني ساجداً لله. من جهتي، لم أستطع إخفاء دموع فرحي.
وبينما كنّا نتحادث، وقع انفجار عنيف. فقد سقط صاروخ شديد الانفجار على بعد مائة متر منّا، لكنّه هذه المرة من ناحية منزلي. أحسست بأنّ قواي قد خارت. حاولت تمالك نفسي ودعوت الله ألا تخذلني قدماي. ما إن انقشع الغبار بعض الشيء، رحت أركض مسرعاً نحو المنزل، حيث زوجتي وطفلَيّ الذين ودّعتهم صباحاً.
في طريقي إليهم، تبيّن لي أنّ الضربة لم تستهدف منزلي مباشرة، وقد حصدت أرواح أربعة شهداء في الشارع. دخلت إلى بيتي الذي تحطم جزء من واجهته، فوجدت زوجتي والولدَين مختبئين في إحدى الزوايا، والدموع تغطّي وجوه زوجتي. صاح ابني البالغ من العمر خمس سنوات في وجهي، وقد بدا عليه الغضب واللوم. "وينك؟ ما سمعت القذيفة؟ ليش رحت وتركتنا؟". أجبت بهدوء: "بلى. سمعتها بابا. وجئت من أجلكم". فتمالك أعصابه وراح يكابر قائلاً: "بس ماما خافت". لم أعرف من أين أتى طفل بعمره بهذه الشجاعة. حينها، اصطحبت زوجتي وطفلَيّ إلى الملجأ ليقضوا ما تبقّى من اليوم. أما أنا، فرحت أتنقّل بينهم وبين مركز الإسعاف لمتابعة وعلاج ما خلّفه القصف في أجساد الناس وأرواحهم.